الجزء الجنوبي من صنعاء القديمة في عام 1990
الجزء الجنوبي من صنعاء القديمة في عام 1990(عدسة عبدالرحمن الغابري)

صنعاء القديمة وصنعاء العدنية.. في حب مدينتين محاصرتين بالقبح!

في صنعاء 5 صنعاءات على الأقل، المسنات منها هن الأجمل بالنسبة لعاشق ‏تاريخ مثلي! هناك صنعاء القديمة، الدرة التي توشك على الاختفاء داخل كيس ‏الفحامين. وهي صنعاء الفاتنة ذات الشخصية الفريدة التي لم يخلق مثلها في ‏المدن. المدينة التي كانت أنظف مدائن الكون في القرون الوسطى حسب شهادات ‏الرحالة العرب والفرنجة، بفضل توازنها البيئي وتناسق المغروس والمعمور ‏والمتروك داخل سورها الذي نهشته منذ الستينات معاول التحديث الزائف.‏

في غمرة الحماسة التحديثية بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، رأى بعض الثائرين في ‏السور رمزا للظلام الذي فرضه نظاما الإمام يحي والإمام أحمد بن يحي حميد ‏الدين، وقد توجب تقويض بعض أجزائه للتعبير عن عصر الثورة والتنوير. كانت ‏هذه الذريعة الاخلاقية أساسا. والحق ان صراعا باسم الثورة والتحديث جرى بين ‏رجال العهد الثوري حول العقارات والأراضي يشبه إلى حد ما، ما جرى في نهاية ‏السبعينات ومطلع الثمانينات في صنعاء الجديدة، ويشبه إلى حد بعيد، ما جرى ‏في عدن عقب حرب 1994.‏

حافظت صنعاء على شخصيتها، فالمدن العريقة لا تستسلم ببساطة للغزاة، ‏وغالبا ما تتبع "التقية" حيال الغرباء والريفيين الذين يستعصي عليهم فك أقفالها ‏‏(بلّك بأقفال غثيمية؟).‏

صدت المدينة جحافل الغزاة مرارا، حتى أولئك الذين اقتحموها وعاثوا فيها ‏فسادا، لا يطيقون سكناها وإن سكنوها التزموا نظامها، فللمدينة قوانينها العابرة ‏للتاريخ وللثورات وللانقلابات وللايديولوجيات.‏

‏***‏

دخلناها، فهمي السقاف وجلال الأحمدي ونبيل سبيع وأنا، مساء اليوم (تاريخ ‏كتابة المقال 11 يناير 2014)، من الجهة الجنوبية (ليس من باب اليمن تحديدا ‏بل من شارع على مبعدة 100 مترا غرب الباب). الدخول إلى صنعاء من باب ‏الجنوب (اليمن) يعني الكثير لرفيقنا الحراكي فهمي. الطقس معتدل أميل إلى ‏البرودة، والأزقة مضيافة، والمساجات رحيبة على ضيقها والتواءاتها.‏

هذه صنعاء التي نحب. صنعاء التي لا يوجد مثلها في البلاد. قلت لأصدقائي ‏المبهورين -مثلي- إن هذه المدينة يجب أن تكون محمية ايديولوجية (ضد ‏ايديولوجية) علاوة على كونها عضوا في قائمة المدن التاريخية لليونسكو. قلت ‏هذا وأنا اتخيل مستقبل هذه المدينة في ظل انتشار جماعة الحوثي داخل ‏حواريها، هي التي ما قبلت قط قوى دينية متطرفة مهما يكن لونها أو دمها. (قال ‏لي أحد ابناء المدينة إن الحوثيين يستأجرون الكثير من المنازل في صنعاء ‏القديمة).‏

تشبه صنعاء القديمة مدينة عدن من عدة وجوه. إلى عراقتهما، وتعاصرهما في ‏دولتي اليمنين الحديثين منذ الستينات، فإن لكل شخصيتها الفريدة، ولهجتها ‏المتمايزة عن كل اللهجات، وقوتها الناعمة وسلطتها الاخلاقية. في صنعاء -كما ‏عدن- يكرهون الرجال المدججين بالحديد (وأنت يا حامل السلاح.. ما معك ‏تحمل الحديد؟)، وينفرون من الوافدين عليها كجماعات إلا إذا كانوا من ‏السائحين. ‏

وتحتفظ الذاكرة الصنعائية بتلك الواقعة الفريدة أثناء اجتياح المدينة من ‏القبائل الموالية للإمام الجديد أحمد بن يحي حميد الدين، في أعقاب فشل ‏انقلاب 1948، عندما طلب أحد السكان المتحضرين من مجموعة قبلية ‏اقتحمت عليه منزله وشرعت بنهب كل شيء فيه بطريقة همجية. ‏

لاح المنهوب مشمئزا لسلوك هؤلاء "الناهبين البرابرة"، وهو قال لهم بنبرة تأنيب ‏أكثر منها نبرة تهكم:" انهبوا ولكن بنظام". (يمكن استعارة هذه المقولة الصنعانية ‏العابرة للتاريخ الآن، وتوظيفها باتجاه البرابرة الذين ينهبون اليمن في دار الرئاسة ‏والحكومة وموفنبيك: "انهبوا وفككوا ولكن بنظااااااااااااااام!").‏

‏***‏

استفادت صنعاء من ثورة سبتمبر 1962 التي أنهت حقبة من التنكيل بها في ‏عهد الإمام أحمد الذي بادلها النفور والكراهية. كان الإمام أحمد يدير الدولة من ‏نعز التي استطاب سكناها. وهو سمح للقبائل باجتياح صنعاء تأديبا لها جراء ما بدا ‏أنه تأييد من "الصناعنة" للدستوريين الذين قتلوا أباه.‏

تعلمت المدينة الدرس "الأحمدي"، وهي جنحت إلى السلم والاعتدال منذ ‏الستينان. خلاف العواصم العربية الأخرى، فإن صنعاء لم تستسغ أبدا القوى ‏والجماعات الراديكالية. وهي بسبب من عقدة تاريخية متصلة بالاجتياحات ‏المتعاقبة للقبائل والجيوش الغازية، أيدت الاستقرار بأي ثمن، حتى ولو على ‏حساب الحريات السياسية والمدنية. وبخصوص الحريات المدنية فقد حافظت ‏المدينة على شفرتها الخاصة التي لا يملك الغرباء فكها.‏

‏***‏

عند هذا الحد يمكن قراءة اتجاهات التصويت لدى أبناء هذه المدينة الفريدة ‏‏(دوائر صنعاء القديمة أقصد) بشكل موضوعي بعيدا عن التأويلات العنصرية ‏والمذهبية والمناطقية.‏

محضت المدينة ولاءها لمن يحقق الاستقرار والأمن والسلم الاهلي. رفضت على ‏الدوام الراديكاليين الدينيين والعلمانيين واليساريين.‏

‏***‏

في تخوم المدينة القديمة الغربية، نقع صنعاء العدنية. صنعاء التي بنيت على ‏الصورة العدنية في الستينات والسبعينات، تماما مثل تعز.‏

بعد صنعاء القديمة تجيء في المرتبة الثانية، بالجمال والمدنية، صنعاء العدنية ‏وفي القلب منها سلسلة المطاعم والبوفيات ذات الطابع العدني بالخلف من مبنى ‏البريد، وفي الشوارع التي تربط ميدان التحرير بشاعر القصر الجمهوري، وكذا ‏الشوارع التي تقع خلف ميدان الظرافي ومدرسة جمال عبدالناصر، وصولا إلى باب ‏البلقة فالقاع، فحارة الزراعة (حارتي) التي مزجت بين القديم والجديد، وكانت ‏مستقرا مثاليا لجزء من ارستقراطية صنعاء ومثقفيها، وللحالمين الوافدين عليها ‏من مدن ومناطق اخرى.‏

قلت لرفاقي: "ها نحن في صنعاء العدنية."‏

أضفت:" كلما مررت هنا يخطر في بالي أول من يخطر، صديقي علوي السقاف".‏

لا أحد يملك أسرار هذه المدينة العدنية في غرب صنعاء القديمة، أكثر من علوي ‏السقاف. شكلت هذه الرقعة من العاصمة لكلينا، علوي وانا، ما يمكن اعتباره ‏‏"قريتنا". نحنُ إليها مثلما يحن "الخبرة" و"الرفاق" و"الأخوة" إلى قراهم وقبائلهم ‏ومناطقهم وجماعاتهم.‏

في صنعاء الستينات والسبعينات، يوجد أكبر عدد من "العدانية" و"الحضارم" ‏و"البدو"، البدو الذين لا يمتون بقرابة إلى ذلك البدوي الذي خلف "القبيلي" في ‏دار الرئاسة.‏

من مطعم "البوري" حيث يمكنك أن تتناول أفضل بيض بالطماط يمكن أكله ‏في اليمن، وكذا اطباق الفول والفاصوليا واللحم الصغار و"الكبدة"، الكبدة التي ‏تعهدت منذ مذبحة "الشابات" بعدن، مطلع نوفمبر الماضي، بأن اتعاطى معها ‏باعتدال.‏

قبالة "البوري" تقع بوفية الشاي العدني، حيث تظهر صورة للرئيس الحمدي ‏محييا ببزته العسكرية الجمهور (لم لا؟ إنها صنعاء السبعينات الجميلة ‏والمنفتحة).‏

في اعقاب احداث يناير 1986، اكتظت صنعاء العدنية بالعدانية والبدو النازحين ‏من الجنوب. اشتهرت بوفية شاهر الذي صار اسمه "شاهر الله يرزقه". تماما ‏مثلما اشتهر سوق القات العنسي والرداعي في الصافية الجنوبية وصار اسمه ‏التنكيلي جراء ارتفاع اسعار القات العنسي، سوق "الزمرة".‏

منذ حرب 1994 بدا وكان انقلابا اجتماعيا ونفسيا ومدينيا تشهده صنعاء ضد ‏البقية الباقية من مدينية الستينات والسبعينات. الصنعانيتان الجميلتان عزلتا ‏وحجمتا لصالح صنعاءات أخرى. صنعاء الحصبة وصنعاء حدة وصنعاء مذبح. ‏كانت صنعاء عسكرية وقبلية تصعد على حساب صنعاء العريقة وصنعاء ‏العدنية، صنعاء الطبقة الوسطى وأحلام الستينات التي تحولت إلى كوابيس في ‏ظل تحالف حرب 94 ومافيات الأراضي والسلاح والمخدرات.‏

‏***‏

تتسم صنعاءات التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة بتصميمها ‏القتالي. قوضت ثورة 26 سبتمبر السور العتيق الذي كان ينغلق على السكان منذ ‏مغيب الشمس في العهد الإمامي، لترتفع مئات الاسوار خارج صنعاء القديمة ‏وبخاصة في الحصبة وحدة ومذبح.‏

قطاع الطرق والمافيويون بنوا في المدينة التي كبرت بشكل متسارع وعشوائي، ‏مئات المستوطنات المعزولة عن السكان، تماما كما فعل السكان البيض في جنوب ‏أفريقيا، والمستوطنون اليهود في فلسطين التاريخية، وبخاصة في القدس والضفة ‏الغربية.‏

‏***‏

في ظل قيادات قروية وقبلية و"بدوية"، تحارب المدينة اليمنية من أجل البقاء. ‏لا أحد من "أهل القمة"، اللصوص والحاقدين والمتخمين بعقد النقص حيال ‏المدن بعامة، يكترث لجمالية صنعاء القديمة أو يلقي بالا لأنشطة الجماعات ‏المدنية التي تخوض كفاحا مريرا للحفاظ على معالم "عدن" التاريخية والحضارية. ‏لا يهتم أي حزب يمني لهذه الترهات التي تشغل سكان المدن، فالمدن لا مكان لها ‏في المشاريع العصبوية، وإذا ظهرت فجأة فلكونها ساحات قتال مثالية وحلبات ‏نزال مفضلة للمصارعين الوجوديين!‏

 

* نشر على صفحة الكاتب 11 يناير 2014