كتابة في أفق الانتظار

كتابة في أفق الانتظار - منصور هائل

اسقمني الملل التاريخي وانسدت شهيتي في التباهي بركوب بغلة الكتابة بذات الطريق التي درجت عليها، وغدوت أشعر بحرج شديد ومؤلم من نفسي فيما لو كتبت من جديد عن حراجة المرحلة وخطورتها، وعن المنعطف «التاريخي» والظرف الدقيق والحساس والتعقيدات والصعوبات والتحديات الكبيرة، الجمة، الضخمة، والمؤامرات الخارجية المتكالبة على البلاد والأمة! والمقرف أني وصلت متأخراً إلى إدراك حقيقة احترافي لكتابة مقرفة من غير انقطاع كانت على الدوام مقصورة ومحصورة على ما اسمع وما أقول، وبما يعني أني لم أكتب قط ولم أتجرأ بعد على كتابة تخالف ما أقترفت بجرأة من لا يخشى الجهر بأنه قادر على أن يبدأ من «درجة الصفر».
وترنحت وتخبطت كثيراً في محاولة ممارسة كتابة مغايرة تمكنني من استعادة بعض جأشي ونفسي كيما أكف عن القرف.
وبالمناسبة لست أملك غير ذرف دموع الامتنان الغزيرة لقراء صبورين احتملوا عقوبة متابعة ما أكتب بصبر بطولي أغريقي.
وفي الآوانة الأخيرة أصبحت فريسة نهش جرذان الشعور بالندم والخسران والخذلان كلما استعدت شريط خيباتي في مشوار الكتابة -ان جاز اعتبارها كتابة- مذ وعيت نفسي -ان جاز لي الزعم بوعي- لأني تشوشت بالتخالط بين ما أسمع وأقول وأكتب وأغماني التشوش الدامغ لكائن شفوي بامتياز وأوجعني احساسي بشطب عقدين وأكثر من عمري في «كتابة» شفوية، وتكشف لي أني كنت أكتب ما سمعت، وكانت الأقوال والمقولات والامثولات تكتبني ولم أحس بغلاظة وعدوانية ما فعلت تجاه الناس ونفسي بالدرجة الأولى، وأنا أكرر واتكرر في القول إن المرحلة خطيرة والظرف حساس وتاريخي وغير مسبوق. ولم التفت إلى أن هذه الثيمة كانت نقطة انطلاقي واستمرت معي في تألقي وأحاقت بإخفاقي! وكأني واحد من اقراني واصلت كتابة ما أسمع وما أقول ويقال، ولم اتجاوز شرط الكائن الشفوي البائس والمنتمي لعالم ما قبل الكتابة، وغير المتجذر بكتابة تنظفر جديلتها بالتفكر والتفكير والسؤال والدهشة والاكتشاف والنسبية والشك والاحتمال والخيال.
وكأي متلاسن أو متلاغط، توهمت ممارسة الكتابة بضرب من التعويض عن افتقادي لأمنية تأكيد سلطة الذات الشفوية من خلال «منبر» آخر، ولا فرق بين منبر الجامع أو الساحة أو المنبر السياسي والرئاسي، وليس ثمة ما يصدر عن «المنبر» غير الكلام الخطابي البلاغي الأجوف.
مؤخراً بدأت أقرأ بطريقة مغايرة لما كنت أقرأ، وتوسلت بقراءة منتجة منزهة عن التلهي بالمطالعة وفي أفق نشدان ابتكار الذات بكتابة منتجة، واستوقفتني حزمة مذهلة ومتناثرة من الوقائع والمشاهد التي حملتني غصباً على الاعتراف بصعوبة وحراجة وخطورة المرحلة!
ووجدتني أسأل: من سيصدقني! وكيف لي أن أصدقني رغم إدراكي العميق بأن البلاد -هذه المرة تقع في الهاوية، وفي الداهية، والقيامة.
واستعذت بالرب من أن أكون من خبراء «الداهية» أو من المبشرين ب «القيامة» أو من أن اقدم على كتابة ترسم في الافق القيامي وتسهم في صياغة بيان الآخرة.
وهجست: ربما تعيد الأوضاع صياغة نفسها لتسمح لنا بمفتتح آخر وكتابة أخرى.
mansoorhaelMail