صنعاء 19C امطار خفيفة

عيشة أبو راس

عيشة أبو راس

أو عائشة أبوراس

كلاهما لشخص سوي وبرأس حمل عقلًا كبيرًا.

كلما أعيد النظر في صورتها أقرأ على ملامحها وفيهما وبينهما وبعدهما، أشياء كثيرة تصب في رأس أمين ابوراس وحسن أبوراس، وما بينهما، يشهد بذلك كتاب اليازلي، لتصب نظرتها ذات الألف معنى في وعلى ملامح ثورة 26 سبتمبر الخالدة، والتي بفضلها التحقت بالمدرسة.

كنّ خمسًا، وكانت صنعاء حنونة يستطيع العقل لملمتها وحبها وهي تبادل البلاد حبًا بحب.

عيشة، رؤوفة، نورا، كوكب... أربع كن يومها حديث صنعاء، وكانت مدرسة سيف في أطراف المدينة التي خرجت للتو من داخل السور... وكان حمود زيد عيسى لايزال ينشد "جيشنا يا جيشنا".. وإلى المدرسة تأتي كوكب بالدراجة الهوائية "السيكل"، ولا تسمع في صنعاء من يقول "حرام"..!

ورؤوفة تأتي بالشرشف وصوتها يأتي لاحقًا من إذاعة صنعاء مع "بابا عبدالرحمن مطهر"، فيسمعها أهلها ويقولون لها:

نسمع مثل صوتش، تقول:

هو صوت يشبهني! وعندما عرفوا باركوا. لقد كانت أسرة منفتحة بعقل، وكانت صنعاء تتقبل بروح بساتينها وجمال مآذنها كل جديد.

أي زمن مجدب يكون بدون روح مطهر، والقادمة من حواري صنعاء المعتقة والمزينة ببساتينها.. أقول يا أستاذ عبدالرحمن ما هو أجمل موقف إنساني في حياتك؟

يضحك وبلهجة صنعانية أعشقها:

ذات مساء كنت مخزنًا في البيت، وإذا بأحدهم يدق الباب، سأل أهل البيت:

من؟

أنا...

صرخت أنا بسرعة:

قولوا نوم.

لكن الباب كان قد فتح بالمجر، وبدأ الجار بالصعود.

صوته يقترب، لم أجد حلًا سوى أنني دخلت تحت البطانية، لكنني نسيت أن الروثمان بيدي، ليبدأ الدخان يتسرب من مسامات البطانية -لم أضحك عمري مثلما ضحكت والأستاذ يحكي- جاري لاحظ خيط الدخان وجعل يقول ضاحكًا:

والله لو ترقد لاغدوة، دخان سيجارتك ملان المكان، يواصل ضاحكًا:

أزحت البطانية ولعنت التدخين، وقمت خزنت مع جاري..

استولى الأستاذ مطهر على رؤوفة بشرشفها الأسود التي كانت تلعب معنا كرة القدم على ساحة مدرسة "سيف"، وحسب ما اشترطت "أنا ألعب جوّالة"، وشرط آخر أن يكون الدفاع زميلنا الضخم برهان! سألها أحمد ناشر عبده:

ليش مايكونش نعمان السميري أو محمود القدسي (كانت مدرسة سيف مجمعًا لكل اليمنيين)؟ قالت بلهجتها الصنعانية:

ماشي، أشتي برهان مُدافع عاسب يتحمل جسمه ضربة الكرة القوية، أنا صُغَيِرة مااتحملش، نصيح كلنا:

خلاص موافقين رؤوفة جوّالة.

لم تشاركنا عيشة أبوراس الهادئة الوقورة، اللعب، بل كانت من المتفرجين، وصنعاء من حول المدرسة ومن على "الأجبي" يتفرج الجيران على الأولاد تلعب معهم رؤوفة ولا أحد يصرخ:

مايجوزش هذا حرام!

كانت صنعاء يومها حنونة متحفزة ثائرة..

كُنّ أربعًا في مدرسة سيف:

رؤوفة

نورا السلامي

كوكب حمود زيد عيسى

عيشة أبوراس

كانت كوكب تأتي بـ"السيكل البيدل"، ومعها عمها عبدالله زيد، ومن صنعاء القديمة يأتون، ومن هناك يأتي الدولة وعباس المنصور المشاغب الأكبر، من القاع يأتي صالح الذاري، واسمع لك من إزعاج في المدرسة!

كانت الكشافة يومها يرأسها محمد علي الحكيم، وأحمد سيف القدسي رئيس المدرسة الروحي ومسؤول الإذاعة والمرجعية لنا جميعًا. وهناك أبطال الكشافة علي البروي ومحمد فاخر وأحمد الإبي وعبدالجليل نعمان وصاحب الأكبر لبداية العام نعمان قائد سيف يلحقه نعمان السميري... ومن ذلك الدكان الصغير في القاع يأتي الثلاثة نعمان وصالح وعبدالحفيظ الدبعي، كان الدكان لوالد صالح الذاري، تركه بعد أن التحق طباخًا بمدرسة المدفعية، وهناك اكتشف ذات نهار أن صالح يدخن، فحبسه أسبوعًا في سجن المدرسة المخصص للجنود، أنا من علمه التدخين، بعد سنوات وقد عاد من الاتحاد السوفيتي، وفرقت بيننا الأيام، التقيته في ميدان التحرير، جلسنا على أحد كراسي منتزه التحرير، وأمامنا كأسا شاي، أخرج من جيبه علبة الروثمان قائلًا:

اتفضل، كنت قد قطعت الدخان.

قلت سريعًا:

عفوًا أنا لا أدخن، التدخين للسراسرة مش لأولاد الناس!

أطال النظر إلى وجهي وانفجر:

لعنة الله عليك وعلى من علمني.

ضحكت وسمعت ضحكتي صنعاء التي أدمنا عشقها الأبدي.

رحم الله محمد علي ناجي الكميم مدير المدرسة، ووكيلها الأستاذ عبدالله النهاري.

يتجدد الشجن كلما أمر من شارع القصر، أقف جانبًا، وأطيل النظر في العمارة القديمة الصغيرة حق أبو صالح الذي كان يبيعنا كاسات الشاي، أما صالح فتركنا وذهب إلى كلية الشرطة.

كانت عيشة أبوراس واحدة من علامات المدرسة أدبًا وهدوءًا وتهذيبًا.

أكملنا ثالث إعدادي وانتقلنا إلى عبدالناصر الثانوية، وهناك وفدت من مصر زميلتان لا أتذكر اسميهما.

أكملنا الثانوية العامة، وكل ذهب في طريق يبحث عن المستقبل الذي لاح وانطفأ وغاب الأفق من الأفق.

ولم أرَ بعدها عيشة أبوراس، وقيل لي إن نورا توفيت، وكوكب بالطبع طبيبة وتعيش خارج البلاد، ورؤوفة التي ملأت الكون حضورًا تركتنا وتركتني أنا زميل المهنة والمدرسة وصديقتي بدون استئذان.

حتى صادفت هذه الصورة تحية للنشيد الوطني تتبعها دموعها.

وعلمت أنها توفيت.

عيشة وزميلاتها مثلنا الحلم الأكبر في إنسان تمنينا أنه بنى الحياة.

لكنهن ضعن، وضاع الإنسان، وتبخر الحلم.

تمنيت وقد علمت متأخرًا أنها كانت عضوًا في الحزب الديمقراطي الثوري، كنت فقط أريد أن أقول لها:

كنا زملاء في المدرسة.

الكلمات الدلالية