صنعاء 19C امطار خفيفة

خطاب علي عبدالمغني: المناسبة القومية والمناخ السياسي المحيط (3)

خطاب علي عبدالمغني: المناسبة القومية والمناخ السياسي المحيط (3)
علي عبدالمغني

في هذه الحلقة، يواصل حسن شكري تحليله، منتقلاً من فكر علي عبد المغني إلى المسرح الذي أُلقي فيه خطابه، ليرسم لنا صورة حية عن المناخ السياسي عام 1957، حيث امتزج الهتاف لعبد الناصر بالولاء للإمام في احتفالات عمت البلاد.

تتمثل وثيقتنا بخطاب ألقاه (الطالب علي عبد المغني) ككلمة عن المدرسة الثانوية، بالعاصمة صنعاء في ميدان (شرارة) وذلك في حفل وزارة (المعارف) الذي نشرته جريدة (النصر) بعددها (168) تعز 16/1/1958م وهو نفسه كما نستنتج، الاحتفال الذي عرفنا عنه من جريدة (سبأ) بعددها (149) تعز 9/1/1958م في صفحتها رقم (9)، حيث نعلم أنه "ظلت اليمن في مختلف نواحيها مسرحاً للاحتفالات والمهرجانات التي أقامها الشعب اليمني تحت إمرة حكومته الرشيدة مشاركة لشقيقه العزيز شعب مصر الباسل الذي انتصر وهزم الأعداء في (بورسعيد)".
وتواصل (سبأ) قولها: "وسبأ وإن كانت قد نشرت في عددها الماضي احتفال تعز بيوم (بورسعيد) فإنها لا يسعها الآن إلا أن تنشر مقتضباً من الرسائل التي وردتها من مختلف النواحي والقضاءات عن المهرجانات بعيد نصر مصر الشقيقة الذي هو عيد نصر اليمن نفسها، بل عيد نصر العروبة كلها".
"وإليكم صدى الاحتفال الذي أقيم بصنعاء" كما سجله مراسل (سبأ) بصنعاء العلامة صالح بن محمد اللوزي والذي ذكر عنه بأنه واحد من عديد "المهرجانات والحفلات في جميع القطر اليمني، كما أقام الجيش ووزارة المعارف حفلة كبرى بساحة ميدان شرارة (ميدان التحرير بعد الثورة) في يوم الثلاثاء 2 جمادى الآخرة سنة 1377هـ الموافق 24 ديسمبر 1957م احتفالاً بالعيد المذكور حضرته الجماهير من سكان صنعاء وضواحيها، وفي مقدمتهم صاحب المعالي النائب بصنعاء السيد علي بن علي زبارة والأمراء الأنجال أصحاب السمو سيوف الإسلام وسائر الوزراء وكبار العلماء ورجال الدوائر الحكومية والمفوضيات والبعثات وقد ألقيت فيها الخطب المصقعة الشائقة والقصائد الطنانة البليغة، ومن الكلمات الخالدة الرائعة كلمة صاحب السمو الملكي الأمير المعظم أمير الشباب وزينته الحسن بن علي بن أمير المؤمنين، وكلمة القائم بأعمال المفوضية المصرية باليمن الأستاذ (نبيه الدبروطي)". (جريدة سبأ 9/1/1958، ص9). وقد نشرت (سبأ) نص كلمة الدبروطي كاملة في نفس العدد، وعلى امتداد صفحة كاملة هي الصفحة 8. كما أقام الدبروطي -بعد ذلك بيومين- أي يوم الخميس 5 جمادى الآخرة الموافق 26 ديسمبر (وليس 24 ديسمبر كما هو مطبوع خطأ في تقرير المراسل) "حفلة شاي كبرى دعا إليها الوزراء والأمراء والعلماء ورؤساء الدوائر الحكومية ورجال المعارف والمفوضيات والبعثات وفي طليعة الجميع النائب بصنعاء وصاحب السمو الحسن بن علي بن الإمام وسيادة رئيس الاستئناف ونائب المعارف السيد العلامة عبد القادر بن عبد الله كما حضرها سعادة الوزير المفوض للمملكة العربية السعودية باليمن الشيخ الماجد عبد الرحمن بن محمد عبيكان".

"وقد افتتح بكلمة قيمة للأستاذ أحمد بن عبد السلام حماد عضو البعثة الثقافية المصرية باليمن" ثم تعاقب الخطباء واحداً تلو الآخر على الترتيب الآتي وهم: السيد محمد بن قاسم أبو طالب، فالأستاذ جرجس، فمدير المدرسة الثانوية السيد أحمد بن حمود الشمسي فالأستاذ علي بن علي صبرة، فالأستاذ أحمد عبد السلام رشوان عضو البعثة الثقافية المصرية باليمن، وكانت كلمة القائم بالأعمال المصرية مسك الختام: شكر الحاضرين وأشاد بموقف حكومة اليمن وعلى رأسها العاهل المفدى".

ويتضح من تقرير سبأ إهمال مراسلها بصنعاء، أو إسقاط رئاسة تحريرها بتعز بعد ذلك لمساهمة الطالب علي عبد المغني في الحفل المذكور الذي كانت قد ذكرت عنه بأنه "أقام الجيش ووزارة المعارف حفلة كبرى بساحة ميدان شرارة" وحددت تاريخه بـ 24/12/1957م بينما قطعت جريدة "النصر" بأنه ألقى كلمته في احتفال المعارف بصنعاء في نفس يوم المناسبة وذلك كما نشرته بعددها المؤرخ 16/1/1958م أي متأخراً مدة أسبوع واحد عن تاريخ صدور جريدة "سبأ" السالفة الذكر المؤرخة 9/1/1958م. فيما يبدو على الأرجح أنه إلحاح مقصود من قبل الطالب علي عبد المغني وهدف سياسي يمثله وتمثله كلمته، أبسطها وأكثرها وضوحاً جهة التيار الطلابي الجديد والواعد سياسياً، والذي ذكرت جريدة "النصر" في تقديمها لكلمة علي عبد المغني، بأنها كلمة المدرسة الثانوية بينما أضاف علي عبد المغني توضيحاً أكثر أهمية في مفتتح كلمته بأنها: "باسم المدرسة الثانوية كلها هيئة وطلاباً" في إضافة واضحة إلى أن كلمته تعبر لا عن التيار الطلابي وحده، بل وعن هيئة التدريس، وهو ما يحتاج لمزيد من البحث كافتراض أولي عن بعض المدرسين ذوي التأثير على طالبنا (علي عبد المغني) فكرياً وسياسياً والذين ساندوا الاتجاه السياسي الذي عبرت عنه كلمته. أما أن يكون ثمة تيار طلابي صاحب اتجاه سياسي أو حتى نزعة سياسية أولية، كان طالبنا من قادته ورواده فهو ما نستنتجه ولا شك، من تلك المظاهرة الطلابية التي اندلعت قبل أكثر من عام في العاصمة صنعاء غداة العدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي على بورسعيد، وانطلقت من ميدان "شرارة" (ميدان التحرير بعد سبتمبر 1962م) وإلى قاع اليهود حينها (ميدان "العلفي" بعد الثورة) حيث بلغت مقر وزارة الخارجية ورفعت عبرها إلى القيادة المصرية موقف المظاهرة الطلابية في التضامن مع مصر والاستعداد للانخراط في أعمال الدفاع عن مصر.

يحتمل عندي أن إسقاط "سبأ" كلمة علي عبد المغني من النشر وحتى من مجرد الإشارة إلى مساهمته هو إسقاط مدفوع بدافع سياسي لا يستبعد وقوف بعض الجهات المسؤولة وراءه. وهو استنتاج يقوى عندي من كون الكلمة قد نشرت بعد أسبوع من تاريخ جريدة "سبأ" وتقريرها عن احتفال العاصمة صنعاء بتاريخها 9/1/1958- وإن نشر الكلمة بعد ذلك التاريخ بأسبوع، وفي جريدة أخرى هي "النصر" بتاريخ 16/1/1958. يقوى ذلك الاستنتاج ويؤشر على إصرار (علي عبد المغني) والجهة السياسية التي تناصر كلمته وتعبر عنها، على نشر الكلمة، حرصاً منها، وبدافع سياسي على إثبات رأيها والترويج السياسي والإعلامي من خلال وسيلة إعلامية أخرى متاحة غير جريدة "سبأ" التي حجبتها، ألا وهي جريدة "النصر".
في نفس عدد "سبأ" الذي حمل تقريراً عاماً عن احتفال صنعاء، تقرير آخر لمراسلها في زبيد عن احتفالاتها بنفس المناسبة، واستعراضه يقدم فكرة أكثر وضوحاً عن أن المناسبة لم يقتصر الاحتفال بها على المدن الكبرى التي تمثل عواصم الألوية (أو المحافظات) بل شمل عدداً كبيراً من المدن الثانوية والبلدات، والأكثر من ذلك أن احتفالات مختلف تلك المدن والبلدات عبرت عن مستوى عال من إظهار الحفاوة العريضة بالنصر القومي العربي لمصر على العدوان الثلاثي، وإظهار مظاهر التضامن القومي، بل وما هو أكثر أهمية أنها كانت مناسبة عامة سرت من خلالها في أوساط جماهير يمنية عريضة جداً وتمثل مختلف الجهات اليمنية في تلك الدولة الإمامية العتيقة، شعارات وأفكار قومية عربية تتردد وتغرس حضورها في أذهان الناس لأول مرة على ذلك النطاق الجماهيري الواسع.

فلننتقل إلى نموذج "زبيد" الذي يشهد على عموم الظاهرة، وذلك من خلال مراسل "سبأ" عبد الرحمن الحضرمي، وهو الكاتب والمؤرخ الكبير الذي برز اسمه في سنوات ما بعد الثورة، إذ كتب مقالاً يغطي مظاهر الاحتفال بعيد النصر المصري عند جماهير زبيد حيث أطلقت المدافع ورفرفت الأعلام وهرعت القبائل صباح الثلاثاء 24/12/1957 أفواجاً يرقصون على دقات الطبول، وقعقعة حوافر الخيل، وقامت بألعاب رياضية رائعة، كما وافتتحت هيئة المعارف وطلبة المدارس بزَبيد حفلة كبرى كانت من وحي النصر العربي المجيد، وكانت حقاً آية من آيات النصر توالت فيه الخطابات، وانتهت الحفلة بقصيدة عصماء للأستاذ عبد الله محمد عطية نالت الإعجاب، وتخللتها الإعادة والتصفيق وهتف الجمهور بحياة أبطال العروبة والإسلام مولانا الإمام والزعيم جمال وبالوحدة العربية.

يلي ذلك رسالة أخرى من "زبيد" لمراسل جديد لجريدة "سبأ" وهي رسالة كبيرة لمحمد إسماعيل معافا، جاء فيها: "دوت مدافع زبيد معلنة العيد القومي المجيد، عيد نصر مصر الشقيقة، وخرجت زبيد العربية استجابة لأمر أمير المؤمنين أيده الله لتعبر عن أحاسيس أبنائها وشعورهم الصادق النبيل احتفاءً بهذه الذكرى الخالدة التي تشارك اليمن مصر فرحتها بالانتصار. فرقصت القبائل وعلى رؤوسها أعلام النصر خافقة، وتنطلق من حناجرهم صيحات الفرح والهتاف بحياة قادة العرب وشعوب العرب. وبدأ العرض التاريخي المجيد في زبيد، إذ كان الطلبة يقيمون حفلتهم في الميدان والجموع محتشدة وعلى رأسهم عامل القضاء الهمام القاضي عبد الوهاب الجديد، فتبارى الشعراء والخطباء وانتهى الحفل بالهتاف بحياة القائد الأعلى أمير المؤمنين ورئيس مصر جمال عبد الناصر" [سبأ 9/1/1958 ص9-10].
أما في تعز العاصمة الثانية رسمياً والأولى فعلياً لكونها مستقر رأس الدولة الإمام أحمد، فإنه هو الذي سيكون على رأس الاحتفال الرسمي للدولة بعيد النصر المصري في وصف قدمه لنا الدبروطي القائم بأعمال المفوضية المصرية في اليمن، بأن الإمام أحمد بعد أن أعلن تلك المناسبة عيداً رسمياً في جميع اليمن، فإن الاحتفال بها في تعز سيتم بإشراف مباشر من الإمام نفسه الذي أقام الحفلات والمهرجانات بتعز كما أقام حفلة غداء كبرى بمقامه الشريف دعا إليه الكثيرين من يمنيين وأجانب وأن جلالته قام بعد الحفل فامتطى جواده وقام بالفروسية، متقدماً بجواده على أصحاب السمو الأمراء وبعض أفراد الفرسان من حرسه الملكي مغتبطاً بعيد مصر، ومشاركاً لها في المسرة وإنه أبرق لأخيه جمال عبد الناصر تلك البرقية التي تعبر عن أعظم معاني الإخاء والود". [جريدة النصر 16/1/1958 ص6].
وإذاً، في صنعاء، وفي ميدان (شرارة) أُلقيت كلمة الطالب علي عبد المغني في الاحتفال الرسمي الذي دعت إليه الدولة وهي كلمة ألقاها عن المدرسة الثانوية يوم الثلاثاء 24/12/1957.

الحلقات السابقة:

علي عبدالمغني 1957: وثيقة منسية تكشف أسرار قائد ثورة سبتمبر (1)

علي عبدالمغني: قائد الضباط الأحرار وتجاذباته الناصرية والبعثية (2)

في الحلقة القادمة: نهج الائتلاف الناصري - المتوكلي لمواجهة سياسة الأحلاف الغربية، وترويج الخطاب المتبادل في تلك المرحلة.

الكلمات الدلالية