علي عبدالمغني 1957: وثيقة منسية تكشف أسرار قائد ثورة سبتمبر (1)

في كتابه بعنوان "علي عبدالمغني 1957"، يقدم حسن شكري، قراءة في مخطط ثورة 26 سبتمبر 1962، ويتناول في الحلقة الأولى حجر الزاوية الذي بنى عليه قراءته كاملة: قصة اكتشاف وثيقة تاريخية نادرة ومنسية.
هذه الوثيقة، وهي كلمة ألقاها الشهيد علي عبد المغني وهو لا يزال طالباً يافعاً، لا تمثل مجرد خطاب عابر، بل هي المفتاح لفهم التكوين الفكري والنبوغ المبكر لقائد تنظيم الضباط الأحرار، وتضعنا في قلب الجدل التاريخي حول انتمائه السياسي الحقيقي قبل أن تصنعه الأحداث. وفيما يلي "النداء" تنشر النص اقتباساً من الكتاب:
خلف والدي شكري زبارة (ت. نوفمبر 1991م) كمية كبيرة من الصحف أستبعد منها الصحف العربية التي لا تزال ذاكرة الطفولة عند أواسط الخمسينيات تحتفظ منها بصور مجلات (المصور)، و(آخر ساعة)، و(الهلال)؛ و(ريدرز دايجست)، لأحصر الحديث عن الصحافة اليمنية الصادرة في اليمن الشمالي (المملكة المتوكلية اليمنية) والتي تسمح لي ذاكرتي عنها أنها كانت تحظى من والدي على الأرجح بالجمع المنظم لصحف (الإيمان)، و(سبأ)، و(النصر)، من خلال الاحتفاظ بها متتابعة في أكياس "الجوني" كما هي أوامره لي في منزله ومكتبه في العامين 1956، 1957م، وهي صحف كان يتم ورودها إليه، ضمن أمر مركزي للدولة بتوزيع تلك الصحف على موظفيها...
غير أن تلك الصحف اليمنية التي من المحتمل أن "الإيمان" منها بالذات كانت مجموعة لدى الوالد منذ أوائل عقد الثلاثينات على الأقل، لا حد لها من أثر عند وفاة والدي. كانت صحافة ما قبل ثورة 26 سبتمبر 1962م. تعد بالنسبة لعهد ما قبل الثورة وثائق تاريخية بالغة الأهمية لحقبة افتقدت المكتبات والتوثيق العلمي، حيث أن معظم صحف ما قبل الثورة. ولا سيما معظم أعداد صحيفة "الإيمان" قد أخذت طريقها إلى الاندثار. إن ما برهن على الأهمية الوثائقية والتاريخية لصحافة ما قبل ثورة سبتمبر 1962م، أن أعداداً قليلة جداً مما كان بحوزة والدي قد سلمت بفعل خطأ سعيد، فإذا أحدها العدد (168) من جريدة (النصر) الصادرة بتعز، بتاريخ 16 يناير 1958م الموافق 24 جمادى الآخرة سنة 1377هـ يحمل لنا في صفحته الخامسة وثيقة تاريخية سياسية نادرة وفريدة من نوعها، وثيقة ترتبط أوثق الروابط بالحدث التاريخي العظيم اللاحق بعد أقل من خمسة أعوام، أي ثورة 26 سبتمبر 1962م وشخصيتها القيادية النادرة؛ الشهيد علي عبد المغني.
والوثيقة التي نشرتها جريدة (النصر) المذكورة. والتي نعيد نشرها اليوم هي كلمة خطابية ألقاها الطالب (علي عبدالمغني) عن المدرسة الثانوية بصنعاء، في حفل أقامته وزارة المعارف بالعاصمة صنعاء بمناسبة الذكرى السنوية الأولى 22 ديسمبر 1957م للانتصار القومي العظيم للشعب المصري على العدوان الثلاثي على مدينة بورسعيد بمناسبة رحيل القوات الغازية في 23 ديسمبر 1956م. وهي كلمة تحتل نحو ثلاثة أرباع الصفحة من جريدة (النصر).
بجانب هذه الكلمة، لا نملك اليوم عن الشهيد علي عبد المغني سوى ثلاث وثائق أخرى مقتضبة. هي دون الأهمية الفكرية-السياسية كثيراً لوثيقتنا. وما عدا ذلك فلا نملك عنه أي وثيقة أخرى من وثائقه الكتابية أو الشفهية؛ سواء أكانت خطابات أو مقالات أو رسائل أو محاضر جلسات أو تسجيلات إذاعية لفترة حياته القصيرة بعد الثورة؛ فإن مأساة طمس التدوين التاريخي وتدمير مدوناته ووثائقه لعهود ما قبل الثورة نجدها مأساة مستمرة بدورها في فترة ما بعد الثورة وحتى أواسط السبعينيات، عدا أننا لا نعلم وجود أرشيف منشور عن محتويات أشرطة إذاعات صنعاء وتعز والحديدة مما يجعلنا نعتقد وحتى إشعار آخر أن الكلمة الوثيقة التي نعيد نشرها اليوم، هي ليس وحسب وثيقة تاريخية فريدة من نوعها بل والوثيقة التاريخية الوحيدة ذات الرؤية الفكرية-السياسية المحكمة. والتي نملكها حتى الآن. وإن قلنا أننا لا نملك بجانب هذه الكلمة إلا استثناءات محدودة جداً لا تزيد عن ثلاث وثائق للشهيد علي عبد المغني. نجدها في كتاب "أسرار ووثائق الثورة اليمنية" _ إعداد لجنة من تنظيم الضباط الأحرار طبعته الأولى، وهي أيضاً في طبعته الرابعة_ مؤسسة العفيف_ صنعاء، 2000م. وقد أعدنا تصويرها في ملحق هذا الكتاب.
تقود المقارنة بين الوثائق الخطية (للشهيد علي عبد المغني)_ ووثيقتنا الحالية إلى الفروق التالية:
1- هناك فاصل زمني يزيد قليلاً عن أربع سنوات بين تاريخ الوثائق الثلاث (تعود الأولى والثانية إلى يناير 1962م_ بينما تعود الثالثة إلى سبتمبر 1962م) ووثيقتنا الحالية التي تعود إلى 1957/12/22م.
2- في حالة وثيقتنا فإن علي عبد المغني كان قد اجتاز المرحلة الثانوية، أو كاد، بينما هو في حالة الوثائق الخطية المتأخرة كان قد اجتاز الكلية الحربية وصار ضابطاً من الضباط الأحرار.
3- رغم ما كان قد أصبح عليه علي عبد المغني في يناير 1962م فما بعد من تطور سياسي ثوري متميز باعتباره أحد مؤسسي تنظيم الضباط الأحرار. وحيث سيتقلد بعد وقت وجيز بعد يناير 1962م قيادة تنظيم الضباط الأحرار، فإن وثائقه الخطية الثلاث التي وصلتنا ليست هي بالطبع تلك الوثائق ذات الأهمية السياسية المماثلة التي تعكس ما كان عليه علي عبد المغني من مستوى رفيع وما أحرزه من مكانة متميزة كقائد تاريخي فذ.
وبالمقارنة. فإن وثيقتنا الحالية العائدة إلى ما قبل ذلك التاريخ بأربع سنوات، وهو لم يجز بعد أو كاد المرحلة الثانوية، هي التي تقدم عن علي عبد المغني صورة مبهرة، فهي وثيقة فكرية-سياسية ممتازة ومميزة بكل معنى الكلمة، وكما يمكن أن تستخلص منها رؤية برنامجية سياسية نجدها مفعمة بالنور نحو المستقبل.
- في الحلقة الثانية قريباً، قريباً يركز المؤلف على الظروف السياسية المحيطة بأجواء الوثيقة والمرحلة التي كتبت فيها.