علي عبدالمغني: قائد الضباط الأحرار وتجاذباته الناصرية والبعثية (2)

بعد أن استعرض في الحلقة الأولى قصة اكتشاف الوثيقة النادرة للشهيد علي عبد المغني وأهميتها في كشف ملامح فكره المبكر، يغوص بنا حسن شكري في كتابه بعنوان "علي عبدالمغني 1957"، في هذه الحلقة الثانية في المناخ السياسي المعقد الذي شكل مسرح الأحداث تحت عنوان " قائد الضباط الأحرار وتجاذباته الناصرية والبعثية":
تتعاظم أهمية وثيقتنا هذه، بعودتنا إلى مختلف الكتابات التي صدرت عن أسرار ثورة سبتمبر 1962م. ذلك أنه وباستثناءات نادرة ولكن لها خطرها، وتتمثل بشهادة الرئيس عبد الله السلال، فإن بقية الشهادات وهي الأكثر والأوسع والتي تتمثل بكتاب (أسرار ثورة 26 سبتمبر) للجنة من تنظيم الضباط الأحرار (راجع الطبعة الرابعة - مؤسسة العفيف - صنعاء، 2002م) ثم ما لحقه من مقالات وندوات عديدة، ثم ما انبنى على ذلك من دراسة استقصائية للدكتور سلطان عبد العزيز في مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، دارت بالتحديد حول الشخصية القيادية الأولى لتنظيم الضباط الأحرار، فإن الخلاصة من ذلك كله إنما قادتنا إلى شخصية الشهيد علي عبد المغني، وهو نفس موضوع البحث الذي بلغ تمامه واكتماله في كتاب قادري أحمد حيدر "ثورة 26 سبتمبر بين كتابة التاريخ وتحولات السلطة والثورة 1962-1970" مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، يوليو 2004م.
لهذه الشخصية الثورية الفريدة، ذات البريق الأخاذ في الذكريات التاريخية عن ثورة 26 سبتمبر - والتي رحلت سريعاً باستشهادها العاجل في 15/10/1962م - تجاذباتها الحزبية التي أخذنا نشهدها في مجرى التدوين التاريخي اللاحق للثورة في تاريخي حزب البعث والحزب الناصري.
فالحزب الناصري الذي جعلت بعض كتاباته من الشهيد علي عبد المغني أحد رجاله، لم تتأسس نواته الأولى إلا مع بداية الستينيات، وهي نواة وجدت صعوبة كبيرة في التحول إلى تنظيم خلال سنوات طويلة لاحقة ولم تجد مناخها الأنسب إلا مع سنوات حقبة الرئيس إبراهيم الحمدي (13 يونيو 1974م - 11 أكتوبر 1977م).
لذا تبدو الرواية القائلة بانتساب الشهيد علي عبد المغني إلى تنظيم ناصري لم يكن بالتأكيد قد وُلد بعد، مما لا سند تاريخي له. فلقد كانت أجهزة الإعلام الناصرية، في ذلك الوقت ومنذ ما بعد ثورة 23 يوليو 1952م، وبعد استشهاد علي عبد المغني تندد صباح مساء بالحزبية والحزبيين، وتشيد بلا كلل بإجراء ثورة يوليو 1952م بحل الأحزاب المصرية، ثم غدت تشترط على السوريين الساعين إلى الوحدة مع مصر (فبراير 1958م) أن يحلوا أحزابهم وفي المقدمة حزب البعث والحزب الشيوعي، فقامت دولة الوحدة على أساس حظر تام للأحزاب وهو الحظر الذي استمر في مصر عبد الناصر لفترة ما بعد الانفصال السوري (سبتمبر 1961م) وإلى عام 1977م حين أُفسح للتعددية الحزبية من قبل خلفه الرئيس السادات.
إلا أن ذلك لا يمنع بالتأكيد، أن الشهيد علي عبد المغني كان واحداً من الجمع الغفير من الثوريين العرب المحبين، وبكل تأكيد، للرئيس والقائد العربي العظيم جمال عبد الناصر، وأنه كان واحداً ممن يرون في عبد الناصر: القائد الكبير - ولكن ليس الوحيد - للثورة العربية وحركة القومية العربية، وإنه من هذا الباب كان على الشهيد علي عبد المغني أثناء قيادته لتنظيم الضباط الأحرار أن يقرر، ويعمل بتوجيهات قيادة التنظيم، إجراء اتصالات مع القيادة الثورية في القاهرة عبر ممثليها الدبلوماسيين في صنعاء.
ويقودنا ذلك إلى الرواية الثانية؛ رواية حزب البعث العربي الاشتراكي التي عدّت الشهيد علي عبد المغني أحد منتسبي حزب البعث الأوائل في الشطر الشمالي من اليمن أو (المملكة المتوكلية اليمنية). والواقع أن وثائق منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي التي كانت يوماً في بداية عقد السبعينيات تحت يدي واطلاعي، تنطق بكون الشهيد علي عبد المغني وعدد آخر من الضباط الأحرار كانوا من منتسبي حزب البعث، وأن عدد الضباط المنتسبين له فاق من حيث الكثرة أو النوعية القيادية منتسبي الأحزاب الأخرى كحركة القوميين العرب أو الاتحاد الشعبي الديمقراطي.
غير أن الانتكاسة الدرامية في علاقة حزب البعث بعبد الناصر في الفترة الأخيرة من الوحدة السورية المصرية (فبراير 1958م - سبتمبر 1961م) هو ما صار يلقي بظلاله من ثم على مقولة انتساب علي عبد المغني إلى حزب البعث في الفترة القصيرة المعدودة بأقل من عام والسّابقة لقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، حين كان علي عبد المغني يجري اتصالاته مع المفوضية المصرية في صنعاء ويتنسق عبرها مع القيادة المصرية في القاهرة؛ غير أن تلك الظلال لا تبدو مع ذلك أنها كانت بالظلال الثقيلة السوداء في ظل قرارات الأجنحة داخل حزب البعث على مستواه المركزي القومي، بل وفي تباين معين لعلاقات الأجنحة بعبد الناصر بعيد حركة الانفصال السورية من جهة، وفي ظل خصوصية التطور السياسي لفرع تنظيم البعث في اليمن الذي سمح له بعده عن المركز القيادي القومي للبعث بأن يكون أكثر مرونة ومبادرة في تقرير مصائر تطوره السياسي في اليمن، وخصوصاً وأن المركز القيادي القومي للبعث كان منغمراً بمعالجة أزمته القيادية القومية، ثم وبوجه خاص أوضاع التنظيمين القطريين في سوريا والعراق.
بينما كان فرع البعث في اليمن، وبخاصة في شطره الشمالي، بحاجة خاصة لإبداء أكبر عناية سياسية لمواجهة ثقل التخلف التاريخي المريع للمجتمع اليمني ولرجعية النظام السياسي الفريدة في اليمن الشمالي كما تجلت بنظام الإمامة وكذلك الطابع المتخلف والرجعي والاستعباد الأجنبي للنظام الاستعماري في اليمن الجنوبي وتشرذمه إلى أكثر من كيان سلطاني شديد التخلف والانغلاق، وهو ما كان يجعل أوساط البعث في اليمن لا تجعل نفسها من ثم خارج إطار التيار القومي العريض الذي يضم البعث والناصرية، وحيث كانت حداثة تكوين تنظيم فرع البعث اليمني لم تعمق بعد في صفوفه تلك العصبوية الحزبية التي تباعد بينه وبين عبد الناصر كمركز قيادي محتمل لعموم الثورة العربية. ولعل ذلك كله قد وجد له خطوة جديدة في التطور السياسي اللاحق في اليمن، وتحديداً داخل القوات المسلحة والأمن في المملكة المتوكلية تمثلت بإقدام منتسبي البعث من الضباط على التبلور هم وضباط منتسبون للتنظيمات الأخرى في كيان تنظيمي عسكري جديد هو تنظيم الضباط الأحرار في ديسمبر 1961م.
تبرز هنا ثلاثة عوامل حاسمة في توحد واندماج مجموعة البعث العسكرية، ومنها وعلى رأسها علي عبد المغني عند نهاية 1961م مع بقية الضباط الأحرار في منظمة عسكرية ثورية موحدة:
الأول: تأثير عامل الانفصال السوري عن دولة الوحدة، والذي وقع قبل نحو شهرين (28 سبتمبر 1961م) في التأثير على ولاء العسكريين البعثيين للبعث، ودفعهم للبحث عن إطار موحد بديل، وحيث انتعشت عند أولئك البعثيين العسكريين مكانة عبد الناصر القيادية كزعامة معترف بها أكثر من السابق للثورة العربية، وهو اتجاه يستكمل تحوله عند هؤلاء البعثيين اليمنيين العسكريين بالعامل الثاني.
الثاني: حدوث انفراط عقد جبهة التحالف القديمة بين قيادة عبد الناصر والأنظمة العربية المناوئة لسياسة الأحلاف الغربية، ومنها النظام الإمامي - الملكي في اليمن، بسبب مهاجمة الإمام أحمد لإعلان القيادة المصرية لقرارات يوليو الاشتراكية عقب وقوع الانفصال السوري في 28/9/1961م، ليكون رد فعل القيادة المصرية إعلان حل الاتحاد الفيدرالي المسمى (اتحاد الدول العربية) بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة المتوكلية اليمنية، وليتبعه عبد الناصر بشن هجوم سياسي ودعائي ساحق ضد الإمام أحمد ونظامه، وكذا ضد النظام السعودي، وإعلان الانتقال من مرحلة التهاون إلى مرحلة الكفاح السافر لإسقاط الأنظمة الرجعية. وبهذا التحول سيسقط ما كان عند علي عبد المغني ورفاقه البعثيين العسكريين من تحفظ سابق على سياسة القيادة المصرية في التحالف مع النظام الإمامي الملكي. والتحول الجديد جذرياً في السياسة المصرية يعني أن قيادة الثورة المصرية باتت مستعدة لمد يد التعاون والدعم للثوريين اليمنيين من بعثيين وحركيين وماركسيين للإطاحة بالنظام الإمامي - الملكي، وهو ما عُد العامل الأكثر أهمية في انفتاح الطريق أمام تلك المجموعات الحزبية العسكرية في الجيش اليمني لتوحيد جهدها في تنظيم موحد لعموم الضباط الأحرار.
العامل الثالث: ويتمثل بطبيعة القوات المسلحة التي تجعل منها منظمة سياسية عالية الانضباطية، ذات جاذبية اندماجية لأفرادها بحكم بنيتها العسكرية الأوامرية المتميزة وبحكم ما تستلزمه عند منتسبيها الثوريين على مختلف انتماءاتهم الحزبية من شعور عالٍ بمسؤولية التغيير الخطرة التي ينحصر وقوعها على القوة المسلحة وفي المقام الأول الذي يسبق كافة القوى الأخرى المنظمة في المجتمع. فهكذا، كانت الطبيعة التنظيمية الخاصة لمؤسسة القوات المسلحة في حد ذاتها باعتبارها أداة التغيير الثورية الحاسمة في أحد بلدان العالم الثالث وأشد مجتمعاتها تخلفاً، العامل الحاسم البعيد المدى في دمج التنظيمات الحزبية للبعث والحركيين والماركسيين في تنظيم موحد لكافة العسكريين الثوريين.
هوامش ومراجع:
كتاب (أسرار ثورة 26 سبتمبر) للجنة من تنظيم الضباط الأحرار (الطبعة الرابعة - مؤسسة العفيف - صنعاء، 2002م).
كتاب قادري أحمد حيدر "ثورة 26 سبتمبر بين كتابة التاريخ وتحولات السلطة والثورة 1962-1970" (مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، يوليو 2004م).
الحلقة السابقة هنا: علي عبدالمغني 1957: وثيقة منسية تكشف أسرار قائد ثورة سبتمبر (1)
في الحلقة القادمة: المناسبة القومية للوثيقة - الخطاب لعلي عبد المغني، والمناخ السياسي المحيط بها في اليمن الشمالي (يومها)