الذكرى الـ99 لميلاد الشهيد عبدالباري قاسم
عبدالباري قاسم
صادف يوم 7 نوفمبر لهذا العام 2025، الذكرى الـ99 لميلاد الشهيد السفير والوزير والصحفي المناضل الثوري الصدوق، والمخلص الأمين عبدالباري قاسم صالح.
لست هنا في هذه المقالة المختصرة بصدد استعراض سيرة والدي الذاتية بتفاصيلها، فهي متاحة على صفحة الإنترنت بموقع الموسوعة العالمية الأشهر "ويكيبيديا"، ولكن سأعرج باختصار شديد وكعناوين لتلك السيرة التاريخية من ميلاد والدي في 7 نوفمبر 1926 بمدينة الشيخ عثمان بمحافظة عدن.. حيث عمت الفرحة بيت الشيخ قاسم صالح السروري، إمام وخطيب مسجد "العيدروس" في مدينة الشيخ عثمان، في الشارع الذي أصبح يحمل اسم الشيخ قاسم السروري... هنا عاش وترعرع المولود الجديد، وأمضى شبابه في كنف والده، فتعلم عنه علوم القرآن والحديث والفقه وإجادة اللغة العربية.
كغيره من شباب تلك الحقبة التي عصفت بالعالم مع الحرب العالمية الثانية المشحونة برياح الانتصارات وطي صفحة الاستعمار عالميًا، اختمرت الجذور الجينية لشعلة الفكر القومي العربي في عقول شباب تلك الحقبة، وكانت منابر الصحافة والفسحة الثقافية والتحضر المدني الذي نعمت به عدن آنذاك متنفس المقدرات ومواهب ذلك الجيل الفتي، وهو ما سمح لنمو هذه الفتية الطموحة للحرية والاستقلال، فكانت صحيفة "فتاة الجزيرة" ورئيس تحريرها الأستاذ محمد علي لقمان، الشخصية العدنية الوطنية الرائدة، ملاذًا وحضنًا لكل أحلام الفتية المبدعة، منهم عبدالله باذيب، عبدالباري قاسم، لطفي أمان، وغيرهم...
في الخمسينيات شد عبدالباري الرحال إلى السعودية لطلب الرزق، وعندما تفجرت ثورتا 26 سبتمبر و14 أكتوبر، كان والدي في مقدمة من أسهم في مد الخطوط الأولى لدعم الثورتين، مع زملائه قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف وعلي السلامي وآخرين كثر.
في مرحلة الكفاح المسلح، كان والدي هو النظير المقابل للإعلامي أحمد سعيد من إذاعة "صوت العرب"، وكان هو صوت الجبهة القومية ومحرر نشرتها السرية المنطلقة من تعز تحت مظلة الوجود العسكري العربي المصري وحكومة السلال. في الجمهورية الوليدة بعد الاستقلال، تحقق حلمه في تأسيس صحيفة حكومية رسمية للدولة، فتقلد رئاسة مجلس إدارة "14 أكتوبر"، في يناير 1968، وبعد الخطوة التصحيحية 22 يونيو 1969، أصبح وزيرًا للتربية والتعليم والثقافة والإعلام، ولمدة عام فقط، ثم استقال من منصبه -كأول وزير في حكومة يمنية يستقيل من منصبه طواعية- على خلفية الاختلاف مع رفاق تلك الحقبة من التيار اليساري المتطرف الذي لم يراعِ خصائص البيئة المحلية، واندفع متأثرًا بالتوجهات الخارجية من موسكو -بكين.
وهكذا أصبح سفيرًا لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في دول شرق إفريقيا: الصومال، كينيا، تنزانيا، حتى استشهاده في جريمة تفجير طائرة الدبلوماسيين عقب انتهاء أعمال المؤتمر الدبلوماسي الأول، في 30 أبريل 1973، بمحافظة شبوة، مع ثلة من خيرة قادة الثورة والدولة آنذاك، ومنهم محمد صالح عولقي، وزير الخارجية، سيف الضالعي، سفيرنا في بغداد، وأول وزير خارجية بعد الاستقلال، محمد صالح الشاعر، سفيرنا في موسكو، وأول وزير زراعة بعد الاستقلال، والدي عبدالباري قاسم، عمي نور الدين قاسم، ثاني محافظ المحافظة عدن بعد شهرين من الاستقلال، الأخوان السلامي، محمد ناجي شجاع اليافعي، الأديب الشهير محمد عبدالولي، وغيرهم آخرون عددهم 22 شخصًا، بالإضافة إلى طاقم الطائرة.
ومن هذا المرور التعريفي السريع لأهم محطات تطور شخصية والدنا، وتحمله لمهام القيادة.. أنتقل كما حرصت في معظم منهجية كتاباتي في ربط ما استهدفته من الكتابة عن خبرتي الشخصية المعاصرة لتلك الأحداث.. لتعزيز مبدأ الانتماء وتوطين المعرفة المعلوماتية أو التاريخية سواء ببعدها الزمكاني أو الشخصي الفرداني.
وفي هذا السياق سأورد أربع محطات سأستجرها من ذكريات طفولتي مع الوالد.
المحطة الأولى: صلاة التراويح
في العام 1966، وفي شهر رمضان، كان والدنا في زيارة قصيرة إلى عدن قادمًا من الجبهة العسكرية للكفاح المسلح، ومع صلاة التراويح في مسجد العيدروس (ملاصق لبيتنا في الشيخ عثمان)، أخذني معه لصلاة التراويح، ولكنه أبلغني أنني إذا تعبت يمكنني أن أعود إلى والدتي في البيت، ولكنني عقدت العزم في نفسي أن أكون معه، ولن أستسلم وأعود إلى والدتي، لكن جسمي النحيل لم يتحمل، وبعد منتصف الركعات انسحبت إلى البيت.
الدرس المتعلم: أهمية التربية الوالدية المتسامحة في أن الدين سمح، وأن الله غفور رحيم، ولا يتحامل على عباده: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها".
المحطة الثانية: زيارة سالمين ورفاقه إلى لودر
كان ذلك في عام 1967، مع تزايد تساقط المناطق المحررة من قبضة الاستعمار البريطاني حيث كان والدي المسؤول التنظيمي السياسي والعسكري للجبهة القومية في منطقة العواذل، ومتمركزًا في مدينة لودر. كانت كل الأسرة مرافقة للوالد بسبب خطورة بقائنا في عدن بعد ازدياد حملات التفتيش والمداهمات لقوات الاحتلال البريطاني لمنزلنا في الشيخ عثمان آنذاك.
أتذكر أن والدي أخبرني يومًا بأن سالمين "سالم ربيع علي"، ومعه علي عنتر ومحمد صالح مطيع، سوف يزورون لودر ضمن حركة الثوار وتفقدهم للجبهات. وطلب مني أن أحمل بندقية من طراز كلاشنكوف ذات مصد خشبي، وهي ثقيلة الوزن، أحضر المسؤول الأمني مع والدي آنذاك المناضل محمد علي أحمد، البندقية، وكانت ثقيلة جدًا بالنسبة لطفل هزيل البنية ذي خمس سنوات، مشحون بحماسة كبيرة لتحديات ثورية فنطازية. لكن والدي نصحني بأن أضع سير البندقية على كتفي، وقاعدتها تكون واقفة على الأرض، وألا أتحرك عند قدوم القادة الفدائيين وتحيتهم العسكرية. ثبت محمد علي أحمد حزام البندقية تمامًا على حسب طولي، ثم جاء القادة، وقمت بتنفيذ التكليف بالتحية العسكرية، ومن دون حركة -تقدم أو تأخر- وردوا عليّ بالمثل سريعًا، وأنقذ الموقف، وأخذ البندقية مني محمد صالح مطيع -رحمه الله- الذي فهم الوضع، وكان مبتسمًا، وربت على كتفي، وأخبرني بأني سأكون جاهزًا للتدريب قريبًا.
الدرس المتعلم: أن والدي قد اتبع أسلوبًا تربويًا مهما في علم النفس اليوم، وهو الإعداد المبكر للأبناء حتى يساعدهم على حل المشكلات بعقلانية واتزان رغم كل المخاطر والتحديات، وأن أتقبل الضغط النفسي أو التوتر كتحدٍّ وليس تهديدًا.
المحطة الثالثة: الغداء مع رجال القبائل
في نفس تلك الفترة التي تواجدنا في منطقة العواذل آنذاك بمحافظة أبين اليوم، كان والدي في إحدى الزيارات المخططة لمد نفوذ الجبهة القومية بعد تساقط المناطق وانسحاب الوجود البريطاني وأتباعه من الحكم المحلي.
وأتذكر ذلك اليوم حين جلسنا للغداء على "الحصيرة"، وكان الغداء مكونًا في البدء من مرقة وزعت في أوانٍ صغيرة معدنية، وبها قطعة بطاطا ووصلة لحم، شربت المرقة، ولم أعرف كيف آخذ اللحمة والبطاطس، لأني في البيت عودتني أمي على استخدام الملعقة. لاحظت الجميع يستخدم يده، فاتبعتهم. ولكن تخضبت يدي بدهن المرقة واللحم، كان أبي جواري، فسألته كيف أغسل يدي أو بماذا أمسحها؟ فرد علي بأن أتبع ما يعمله البقية بعد الطعام. فلاحظتهم يمسحون أيديهم من شحم المرقة بأرجلهم وأيديهم، لأنهم مرتدون الفوط حتى الركبة. ولكنني كنت لابسًا سروالًا طويلًا، وكذلك القميص، فظللت أفرك بها يدي ثم شعري.
الدرس المتعلم: احترم ثقافة الجماعة وعدم الاستخفاف بتقاليدهم وطقوسهم إن كنت تريد القبول والالتزام.
المحطة الرابعة: الذكرى الأولى للاستقلال
بمناسبة الذكرى الأولى للاستقلال من الاستعمار البريطاني في عدن 30 نوفمبر 1968، أخذني والدي كما عودني دومًا لمرافقته في زيارة القصر الجمهوري بالتواهي.. وأثناء القدوم إلى صالة المراسيم للسلام على رئيس الجمهورية والوزراء، أتذكر أني سلمت على الرئيس قحطان الشعبي ثم فيصل عبداللطيف (كان وزيرًا للتخطيط)، وكان بجواره محمد علي هيثم وزير الداخلية. كان فيصل ودودًا، وسحبني إلى جواره مازحًا معي بأنه سوف يزوجني ابنته، ثم سلمت على محمد علي هيثم، وعلق بأنه سوف يزوجني ابنته أيضًا، فشعرت بارتباك شديد، واحترت لمن أعطي الموافقة، وكان الاثنان ينظران لي بانتظار القرار، ويبتسمان حتى أنقذ فيصل الموقف، وقال ضاحكًا: لديك متسع من الوقت، نحن غير مستعجلين.
عندما حصلت تلك العروض كنت قد أخذت الأمور بجدية وجاهزية متسمة بالرسمية في التعامل مع ما يطرحونه. لقد كان لوالدي الفضل الأكبر في تجهيزي لكل موقف قبل القدوم إليه، وهنا كانت الكثير من الدروس والمراسيم قد تلقيتها منه.
الدرس المتعلم: الرسمية عندما تكون مع القادة وفي لحظة احترام وتقدير للمكان وللقيادة حتى حين يمزحون... هكذا تكون رجل دولة.
رحمة الله عليك يا والدي العزيز، مربي الأجيال، ومن زرع بذور علم النفس مبكرًا في حياتي.