محيرز
عبدالله محيرز
عبدالله محيرز، مؤرخ، ومفكر، وآثاري، ومعلم.. كان الوحيد المفتوح له باب الرئيس بدون سابق ترتيب، لأنه لم يكن يذهب من فراغ.. تولى الإدارة العامة للآثار والمتاحف في عدن، وأدارها بكل حنكة ودراية في مختلف المراحل، لأن الجميع وضعوا ثقتهم فيه.
حين نقل مقر المتحف إلى مبنى المجلس التشريعي عند مدخل كريتر، تم نقل كل الأجهزة الإلكترونية التي توثق تاريخ عدن والمنطقة، مع المدونات والأصول المعلوماتية إلى هناك.. وأضيف إلى إدارته مقر للمتحف بالتواهي على رصيف أمير ويلز قدام الشوكي على الناصية المقابلة.. وهناك لقيته في مرة من مرات تلاقينا بعدما توثقت صداقتنا.. كانت عنده خبيرة آثار فرنسية تفرز معه أغلى القطع الأثرية الذهبية التي كانت في عهدته ولا تقدر بثمن.. والتقطنا الصور، ووعدني بالكتابة في مجلتنا "المنارة"، تكريمًا للمجلة، مع أنه منقطع عن الكتابة منذ زمن.. وكتب لنا عن مواقع عدن الأثرية.. ونشرنا كتاباته بكل ترحيب.
كان قد رتب قيام مؤتمر لعلماء الآثار العرب عندنا.. وجرى الترتيب لقيامه لأول مرة في بلادنا، وأقيم في سيئون بحضرموت. حضره كل علماء الآثار من كل الدول العربية، وكان من نصيبي أن كلفت بتغطية أعمال ذلك المؤتمر العلمي الهام لجريدة "14 أكتوبر"، وقد قمت بذلك بكل حب وامتنان!
في صالة الطعام كنت جالسًا بجوار المحيرز، ولفت نظري إلى واحد من الويترات الذين يخدمون في الفندق، وهو يقرب لنا الطعام، وقال: لن تصدق.. أترى هذا الولد الذي يعمل ويترًا ويقرب لنا الطعام؛ إنه ابن السلطان الذي كان يملك هذا القصر، وتحول بالتأميم إلى أكبر فنادق سيئون!
عاش الأستاذ عبدالله محيرز حياته بالطول والعرض، وحكى لي شذرات من رحلاته ومغامراته حين كان ملحقًا بسفارتنا في لندن.. لكن أكبر مغامراته كانت قبل ذلك الوقت بمراحل حين سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وفي جيبه دولارات قليلة، ومع ذلك طاف بأغلب الولايات الأميركية بأرخص ثمن عبر شبكة مواصلات باصات الجريهوند التي أوصلته إلى معظم الولايات الأميركية.
لعبدالله محيرز شغف لمعرفة كل شيء، والاجتهاد لتعريف الناس به.. يحب قراءة الروايات ومشاهدة أفلام السينما والتلفزيون.. ومتعته الكبرى كانت حين يخرج عصرًا من بيته على طريق الطويلة، بجانب بيت الفنان خليل محمد خليل، وبيده دبة شاي عصب والا أحمر.. وفي سيارته الصغيرة الداتسون الزرقاء وبداخلها كرسي الراحة أبو طربال الذي كان شائعًا في ذلك الزمن، وانقرض مع تطور السنين.. كان من حظي اصطحابه ذات مرة لنجلس على ساحل خور مكسر، نستمع إلى خرير المياه، ونحتسي شاي عصب والا، ونتجاذب أطراف الحديث كما يقال.. سألته: ما شعورك يا أستاذ وأنت تجلس في مكتبك كل صباح وسط كنوز الآثار؟ قال: أشعر بالعظمة.. عظمة تاريخنا الذي امتد 3 آلاف سنة قبل الميلاد.. وكانت اليمن وقتها دولة عظمى تحاكي مصر الفرعونية، وحضارة آشور وبابل وما بين النهرين.. ولما جاء الإسلام كانت اليمن هي الرافعة الكبرى لانتشاره، باعتبارها الخزان البشري الأكبر في شبه جزيرة العرب!
ذات مرة رأيت الأستاذ محيرز في مكتبه بالتواهي على رصيف أمير ويلز يقلب حزامًا جلديًا مثبتة على طوله عدة قطع ذهبية خالصة تساوي كل واحدة منها ثروة طائلة، وفكرت: لو كان مكان المحيرز موظف خائن ومنحرف لحمل الحزام وغيره مما خف وزنه وغلا ثمنه، وغادر البلاد ليتحول إلى مليادير! كل هذه الثروة الأثرية بين يدي المحيرز بلا حسيب أو رقيب غير ضميره، فهو الذي يدونها ويحفظها بكل أمانة وشرف.
عند عبدالله محيرز وقليلين مثله، الشرف أغلى من كل كنوز الدنيا.