المعلّم... حين تغدو التربية أسبق من التعليم
في زمنٍ تتسارع فيه الحياة، وتزداد الضغوط على المدارس والمعلمين لتحقيق "النتائج"، كثيرًا ما ننسى السؤال الأهم:
ماذا نريد من التعليم؟ أجيال تحفظ المعلومة، أم أجيال تحمل القيم؟
في قلب هذا السؤال يقف المعلّم، لا بصفته ناقلًا للمعرفة فحسب، بل باعتباره المربّي الأول خارج إطار الأسرة. فعندما تتقدّم التربية على التعليم، يتحوّل الصفّ إلى فضاء لتشكيل الإنسان، لا مجرد مصنع لإنتاج أوراق تحمل درجات.
التربية ليست ترفًا زائدًا عن التعليم، بل هي روحه. هي التي تعطي للعلم هدفًا، وللمعرفة معنى. فما قيمة عقلٍ ممتلئ إن كان القلب فارغًا من الرحمة، والسلوك خاليًا من المسؤولية؟
في بيئة مثل اليمن، حيث تمر البلاد بأوقات صعبة وتحديات متراكمة، تزداد الحاجة إلى هذا النوع من المعلمين: أولئك الذين يُدركون أن مهمّتهم ليست فقط شرح الدروس، بل إعداد أجيال تُحسن العيش مع الآخر، وتخدم مجتمعها، وتملك حسًّا أخلاقيًا يسبق الطموح الشخصي.
المعلم الذي يسبق درسه بابتسامة، ويبدأ حصّته بسؤال يحفّز الضمير لا الذاكرة، يزرع في طلابه أكثر مما تزرعه المناهج. حين يتصرّف بعدل، حين ينصت باهتمام، حين يعامل الجميع بلا تمييز، فإنه يعلّم دون أن يتكلم.
لقد أُفرغ التعليم، في كثير من الأحيان، من محتواه الإنساني، وبات سباقًا للحصول على درجات، لا على قِيَم. لكن في كل مدرسة، هناك معلم يُذكّرنا بأن التعليم الحقيقي يبدأ من بناء الإنسان قبل الامتحان.
من يُعلّم الصدق، والنزاهة، وحب الوطن، واحترام الاختلاف، هو معلم لا تصفه شهادة ولا تحتويه جداول الحصص. هو من يزرع البذرة الأولى في تربة الوطن، ليزهر فيها الغد.
وكم نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى هذا النمط من التعليم: تعليم يجعل من الطالب مواطنًا صالحًا، لا مجرد ناجح في اختبار. تعليم يُعيد للتربية مقامها الأول، وللمعلم مكانته كمربٍّ وصانع أمل، لا كموظف عابر في مؤسسة مكتظة.
في النهاية، لا يُقاس نجاح المعلم بعدد الطلاب الذين اجتازوا الامتحان، بل بعدد القلوب التي ألهمها، والعقول التي أيقظها، والقيم التي خلّفها من بعده.