اعتذار... أوعدك
لا تذهب بعيدًا، فهذا ليس مجرد اعتذار كما عنونت، ولكنه بالأدق تصحيح عن هفوة أو سهوة غير مقصودة، لا سيما وقد لامني البعض بأني قد جيرت قصيدة "أوعدك" الغنائية الثورية بأنها للشاعر اليمني الكبير القرشي عبدالرحيم سلام، وهي في الأساس للفنان محمد سعد عبدالله الذي كتبها ولحنها وغناها أيضًا، فالفنان الأسطورة محمد سعد عبدالله هو من الفنانين النادرين الذين يكتبون معظم أغانيهم، والتي هي الأسرع انتشارًا، مثل: "كلمة ولو جبر خاطر" التي أصبحت عالمية، أو "يوم الأحد في طريقي" التي انتشرت كالنار بالهشيم في أرجاء الجزيرة العربية والوطن العربي. أما أغنيته "أوعدك" فهي الأكثر شهرة وقوة في اليمن اليوم.

والحقيقة لقد اختلط عليّ الأمر، وبخاصة في عناوين القصائد، فقصيدة الشاعر القرشي الشهيرة عنوانها "نشيد الثائرين"، أما قصيدة الفنان محمد سعد الرائجة اليوم فهي "بلاد الثائرين"، ولهذا كان الخلط، وعلى ذكر القامة الأدبية القرشي عبدالرحيم سلام، فقد زارني في مكتبي بوزارة الزراعة بصنعاء، أستاذي ومدير مدرستي الإعدادية بالشيخ عثمان، الأستاذ عبدالواسع علوان القرشي، وبمعيته الأستاذ والشاعر الكبير القرشي عبدالرحيم سلام شخصيًا، والذي تبادلت معه أطراف الحديث عن الشعر والقصيدة الثورية، وهو قريب وصديق الأستاذ عبدالواسع، والذي كان أشهر من نار على علم بين مدراء المدارس على مستوى محافظة عدن. كان طلاب المدرسة يهابونه لحزمه وصرامته وشدته وممارساته التقويمية والعقابية لسلوك الطلاب، وهي المدرسة التي احتوت نخبة الطلبة المتفوقين والمشاغبين في آن واحد، وكان العبد لله أحدهم، غلب عليه المشاغبة الشقية التي لا تخلو من التفوق، أو ممن يشار له بالبنان في المنافسة أو المشاكسة على مستوى المدرسة، فقدومه إليّ كان بعد أن زار أحد الزملاء، وهو هشام شرف، الذي كان وكيلًا لوزارة التخطيط والتنمية، وهو من أرشد أستاذنا عبدالواسع لتلبية طلبه، وهو توظيف ابنته الخريجة في عدن، فوعدته ببذل قصارى جهدي لاستخراج أمر بذلك، وكان ذلك في أواخر العام 1994م، في ظل حكم تسلط المركزية الشديدة المقيتة للتوظيف بعد الحرب التي فجرها عفاش، وأحدثت وإلى اليوم شرخًا اجتماعيًا مازالت اليمن تجر أذيال تبعاتها، وكان موقفي السياسي منها معروفًا بين زملائي، ومن خلال كتاباتي في صحيفة "يمن تايمز" والصحف الأخرى.

أما قصتي مع الأستاذ المدير القدير ابن علوان، فكانت تدور حول محور شقاوتي وعمليات أنشطة استقطابي للطلبة الجدد إلى الاتحاد الوطني لطلبة اليمن، الذي كنت أقوم بإدارته بالشيخ عثمان بمقره المعروف بنادي الأولاد خلف مستشفى عفارة، حيث مكنني أستاذي فيصل محمد عبدالله، النقابي البارز، من القيام بتلك المهمة، لفرط نشاطي بين الطلاب، حيث كان الأستاذ فيصل يزودني بالكتب الثقافية والسياسية، ويناقشني بها بعد قراءتها. لم يتمالك الأستاذ عبدالواسع نفسه أمام شقاوتي وتمردي، فاستدعاني يومًا إلى مكتبه، وقال لي: ماذا تريد؟ فقلت له: أريد أن أستقطب طلابًا للاتحاد، وبكل السبل، وتلك مهمتي، فقال لي: يا أمين أنا متابع سلوكك، وأنت كنت تحت المجهر منذ السنة السابقة، ومطلع على دراستك ونتائجك، وتعرفت على والدك بواسطة الأستاذ علي سيف المنصوب، فحان الوقت لكي نعقد صلحًا، فوالله لو كنت شقيًا وراسبًا لطردتك من المدرسة، فكيف ترى؟ بخاصة بعد أن ذكر لي أنه قام بزيارة والدي، وتكلم معه، وقال له الوالد: هو عندك وابنك، والخيار لك، لك اللحم ولي العظم..
عندما دخلت على الأستاذ عبدالواسع من باب مكتبه المباشر، وذهبت فورًا لإغلاق باب المكتب الجانبي المرتبط بمكتب نائب المدير محمد، علي عبده سالم، المدرس نادر الضحك، والذي كان أشد قسوة بنظراته الحادة المرعبة التي تشعرك بأن عليك ألا ترتكب أي تجاوزات، فلا مهادنة لديه. طبعًا لم أنسَ إغلاق الأبواب من الداخل، بعد أن قال: ماذا تريد غير ذلك؟ فقلت له: أريد حبة سجارة، فهو قد تأكد أن الأبواب مغلقة، فضحك وناولني. حينها كنت أتعلم تدخين السجائر، رفع صوته وقال: أريد أن تكون المدرسة هي الأفضل، فطالما أنت بالاتحاد الطلابي فأريد مساعدتك، فأجبته فورًا بأني مستعد لذلك، فأنت المدير، وكانت في رأسه فكرة تحييدي لدرء الأذى أو استقطابي إلى صفه، فقال لي وبلهجة صارمة مباغتة: أنت يا أمين بالذات ما رأيك بأن أعينك رئيسًا للمراقبين؟ علت في رأسي الدهشة من العرض الذي أخذني على حين غرة، فنظرت إليه مندهشًا أولًا، وأخذت أنفاسي لأستوعب الأمر للحظات، ثم عاودته مبتسمًا لذلك الاقتراح المفاجئ القادم منه، والذي سيشقلب وضع كياني من مشاغب إلى ضابط للأمن المدرسي، ومشرف على النظام في المدرسة، ودارت في رأسي أفكار متزاحمة كثيرة، فحاولت أن أمتص الصدمة الإيجابية، وفكرت في ما يقوم به هذا التربوي العظيم من تغيير تجاه تربية طلابه ومشاركتهم في تحميلهم المسؤولية. وعقدت الصفقة معه، وكان الحمل ثقيلًا، فأنا أعرف من كان رئيس المراقبين بالسنة السابقة، وهو زميلي عبدالعزيز عبدالحميد المفلحي، ونائبه محمد الأفندي.
مضى الأسبوع الأول، والمهمة صعبة، واليد الواحدة لا تصفق، فاعتذرت متراجعًا لمديري القدير، وانسحبت من الرئاسة ومن المشاغبة والشقاوة. فإذا بي أتنفس الصعداء بأنه تم تعيين طالب آخر من لحج، واسمه زين السقاف، كرئيس للمراقبين، وقام بخربطة رصة خططي التي كنت قد وضعتها، وأعاد صياغتها، وبقينا أنا وعبدالعزيز نائبين له، وحينها عرفت أن زين منتمٍ إلى أمن الدولة، بل إنه الأكبر سنًا وطولًا، فالأفضل التعاون معه طالما وأن لدينا وضوحًا في وحدة الأهداف والمساعي لإنجازها بعيدًا عن الأنانية والتسلط.
تعلمت منذ ذلك الحين، وبفضل أستاذنا القدير ابن علوان، وعرفت ما معنى المسؤولية والسلطة والصراع عليها، والأفضل هو الانصياع لقانون المدرسة، والخضوع التزامًا بلوائحها، وتوزيع الأدوار بدلًا من تنازعها، ولكي يلتف الجموع حولها، والممثلة لكل الناس المتساوية أو الجماهير لا بد من حشد طاقاتها وتنمية إنسانها بعيدًا عن التثوير، والاحتكام إلى القانون والاتفاقيات والصندوق من خلال كتابة القصائد والأغاني الحماسية الجامعة، والتغني بها بعيدًا عن الإقصاء والتهميش والفوقية، لتبقى الحياة متناغمة نابضة، والناس فرحة بهيجة مستبشرة لضمان استمرار الأمور والتعايش، وأن تعود الأمور إلى نصابها، فالاعتذار والتراجع واجب لكي نحافظ على أدنى حد من الاستقرار بعيدًا عن الصراع الذي سيكون المنتصر فيه خاسرًا...
فالمعذرة والاعتذار والتنازل والانسحاب والتصالح هو الحل بعيدًا عن التبعية والتدخلات قبل أن تنفرط المسبحة وتتشظى الأمة شاكية ممن لم يتحملوا المسؤولية بوطنية صادقة.. فالغلط مرجوع، والانسحاب والعودة إلى الصواب أرجح قبل فوات الأوان، فعليك أن تتراجع وتعتذر وتضحي بالجزء من أجل إنقاذ الكل، فالمخاطر جمة ومحدقة.. وأنا أوعدك أني أعيش العمر كله مخلص لك أمين... أنتي يا اللي تستحقي كل حبي والحنين... يا بلاد الثائرين...
فيرفاكس فرجينيا