ذاكرة الجدري والمجاعة والجبايات
أبو أصبع يستعيد طفولة اليمن المنسيّة قبل التحولات الكبرى
في الحلقة الأولى من الحوار مع السياسي اليمني، يحيى منصور أبو أصبع، رئيس اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، نعود إلى اليمن من بوابة السيرة الشخصية؛ حيث تتحول القرية الصغيرة إلى مفتاح لفهم بلدٍ كامل. من «الربادي» المعلّقة بين الجبل والسماء، يستعيد أبو أصبع طفولةً تشكّلت على حوافّ الفقر والمرض وشحّ التعليم، في زمنٍ كانت فيه الدولة بعيدة، وكانت حياة الناس تُدار بالأعراف، وبمواسم الزراعة، وبما تتيحه الرحى والتنور ودفاتر "الأمناء" في العزلات.
يروي الضيف حكاياته كوثائق اجتماعية عن اليمن قبل التحولات الكبرى.. وباء الجدري، المجاعات، أثقال الزكاة والجبايات، وصورة الريف الذي يَجوع ويقاوم في آن. وفي قلب ذلك كله تبرز شخصيات صنعت معنى "النجاة" بأدوات بسيطة: جدّاتٌ يفتحْن الدواوين للمسافرين، وأوقافٌ وصدقاتٌ تُنقذ العابرين، وحكايات سجنٍ ووساطةٍ تكشف كيف كانت السلطة تُدار وكيف كان الناس يلتفون حول بعضهم عند الشدائد.
هذه الحلقة من برنامج "حكايتي" مع الزميلة رحمة حجيرة، تضع القارئ أمام سؤالٍ مركزي: كيف يُصنع الوعي في بيئةٍ قاسية، وكيف تتحول التجربة الشخصية إلى قراءةٍ أوسع لليمن- بلدٍ ظل يتغير سياسياً بسرعة، بينما بقيت معركة الناس اليومية مع الجوع والخوف وغياب الخدمات مستمرة.
"النداء" تنشر النص الكامل للحلقة بالتزامن مع عرضها المصوّر على قناة "حكايتي" في يوتيوب.

رحمة: مساء الخير. في الربادي، في تلك القرية المعلقة بين الأرض والسماء، وُلد طفل لم يكن يعلم أن اليمن سيحمله بعد عقود على كتفيه. طفل يراقب الحقول، يشتم رائحة التراب المبلول، ويكبر في زمن لم يعرف الاستقرار يوماً. تخيلوا: خلال عشرين سنة شهدت اليمن ثورتين، وانقلابات، وتغيير حكومات، وصدمات، بينما كان ضيفي يكتشف عالم الكتب وأحلامه الأولى، وأيضاً الخوف والانكسار، وهو يؤمن بفكر لم يألفه شمال اليمن من قبل.
في هذه الحلقة نعود مع ضيفي من صنعاء يحيى منصو أبو أصبع، إلى طفولته الأولى، إلى اللحظات التي صنعت وعيه وغرست فيه تلك القدرة المدهشة على أن يكون بين الأطراف لا ضدها، وعلى أن يقرأ اليمن بعيون لا تكره أحداً. هنا تبدأ حكاية رجل سيكون لاحقاً من أبرز وجوه السلام في صنعاء.

مرحباً أستاذ يحيى، أنا سعيدة جداً أننا نلتقي بعد فترة طويلة، ولو افتراضياً.
أبو أصبع: وأنا سعيد جداً بهذا اللقاء، وسعيد جداً أنني أراكِ بعد فترة طويلة من الغياب.
رحمة: أستاذ يحيى، حدثنا عن طفولتك، وفي البدء حدثنا عن والديك. من هو والدك وجدك ووالدتك؟
أبو أصبع: أنا يحيى منصور عبدالحميد بن يحيى بن ناصر أبو أصبع الدميني، من مواليد مارس 1946. وُلدت في قرية الربادي، وكنت الثالث من بين إخوتي. كان الأول أحمد منصور، وبعده نورية زوجة أحمد قاسم دماج، ثم أنا، ثم أختي مُخلص، التي كانت زوجة الشهيد إسماعيل الكبسي، عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الثوري اليمني، ثم الأخير رشاد.

بالنسبة لطفولتي، كانت مثل طفولة أبناء الشعب اليمني في تلك الظروف الصعبة. ولقد كانت ظروفاً قاسية من الناحية الاقتصادية والثقافية والتعليمية، فلم يكن هناك مدارس، ولا طرقات، ولا مستشفيات ولا شيء.

رحمة: اشرح لنا، أستاذ يحيى، أمثلة: كيف كانت الظروف صعبة حينها، مثلاً على المستوى الصحي والثقافي؟
أبو أصبع: على المستوى الصحي، كانت الأمراض منتشرة ومزمنة، ولا توجد مستشفيات ولا أدوية. كانت العلاجات تكون بواسطة الشعوذة، أو قراءة القرآن، أو الأشياء المتوارثة. مثلاً الجدري كان زائراً دائماً لليمن، ويحصد أغلب أطفال كل بيت. أنا أذكر في حياتي أن المقبرة أيام الجدري كان يدخلها من اثنين إلى ثلاثة أطفال على الأقل كل يوم في قريتي وحدها، وكذلك بقية قرى اليمن. ولهذا، خلال ما قبل ثورة سبتمبر عشرات السنين، كان الشعب اليمني أربعة ملايين ولم يزداد في تعداده شيئاً، لأن المقابر كانت تلتهم كل الزيادة السكانية.
وفيما يتعلق بالوضع التعليمي، إذا أوصلت رسالة أو شيء، يمر صاحب الرسالة إلى ثلاث أو أربع قرى من أجل إيجاد من يستطيع أن يقرأ له الرسالة. وكان في كل عزلة يوجد الأمناء الذين يكتبون البصائر والوثائق وقسمة التركات او المواريث. وكانت كل عزلة تتكون من عشر قرى أو خمسة عشر قرية، ولا يوجد إلا هؤلاء الكتّاب التقليديين. وهم كانوا يتولون تعليم الأطفال في ما يسمى بالمعلامة، وكان التعليم يقتصر على القرآن الكريم ولا غير ذلك. ومن أراد تعليم أولاده الخط والحساب والنحو وأي علوم أخرى، لا بد أن يذهب إلى المدن التي يوجد فيها مدارس تاريخية مثل ذمار وصنعاء وجبلة وزبيد، وهناك يستطيع أن يتطور. وهذا لا يتأتى إلا للمواطنين ميسوري الحال، أما الأغلبية المطلقة من الفقراء فلا يستطيعون تدريس أبنائهم إلا في كتاب القرية، وأغلبهم لا يكمل.

رحمة: وكانوا يقرؤون القرآن فقط، وليس تعليم كتابة، أليس كذلك؟
أبو أصبع: في المعلامة كان الفقيه هو من يقوم بالكتابة على الألواح الخشبية للآيات، ومن يستطيع تقليد الفقيه يقلد، ولكن نادراً ما يتخرج شخص يجيد الكتابة من المعلامة.
رحمة: وبالنسبة للوضع الاقتصادي، أنت طبعاً أعطيتنا أمثلة جميلة وواضحة فيما يتعلق بالوضع الثقافي والصحي، وبالنسبة للوضع الاقتصادي، كان إلى أي مدى صعب في قريتكم؟
أبو أصبع: الوضع الاقتصادي كان مزرياً ومخيفاً. كان المواطن يحصل على وجبتين: كسرة فطيرة، وإذا لديه بقرة يقوم بعمل "مطيط" . أما الأغلبية المطلقة من المزارعين فلا بد أن يذهبوا إلى مناطق بعيدة حتى يكسبوا قوتهم. مثلاً أصحاب الربادي عندنا كانوا يذهبون إلى جبلة على مسافة خمس ساعات ذهاب وإياب، وكانوا يذهبون إلى ذي السفال، إلى الوديان حيث زراعة الذرة، وحيث يتواجد الملاك الذين يحتاجون إلى عمال من أجل الزراعة. يعملون طول اليوم، ويعودوا قبل المغرب كل واحد منهم لديه ما يقارب ثلاثة كيلو من الحب، ويصل إلى زوجته وهي منتظرة مع أبنائها، وبعدها تشرع في الطحن وتبحث عن الحطب، ثم تعمل في المطبخ بين الدخان، والأطفال ينتظرون بفارغ الصبر من شدة الجوع.
في بيتنا، ولأن أبي كان ميسور الحال، كان لديه أراضٍ زراعية كثيرة، وأستطيع القول إنه كان شبه إقطاعي. كان درج منزلنا وقت الغداء يمتلئ بالأطفال والسائلين يريدون طعاماً، وليس عندنا فقط بل عند كل الميسورين، حيث يأتي الفقراء الجائعون من أجل الحصول على قطعة من خبز الذرة ويأكلونها مع الماء. فكانت الأوضاع الاقتصادية ومداخيل الناس ضعيفة جداً. كانت منتجات الناس الزراعية لا تكفيهم، لأنه لم يكن هناك استيراد من الخارج، وأحياناً تأتي كوارث مثل البرّد والجفاف وكثرة الأمطار التي تغرق الحَب، وهذه تحدث خسائر كبيرة في مداخيل الناس من عائدات الأرض.

وكان مثلاً أبي وآخرون، عندما تخلص إمكانياتهم ومخازنهم من الذرة، يستقرضون ذرة من الملاك الكبار، وأحياناً تأتي هذه الذرة وهي مخمرة وفاسدة. فكانت الأوضاع حقيقةً مزرية. وبعد ذلك، كانت الدولة تشدد على الناس فيما يتعلق بتحصيل الزكاة، ولم يكونوا يستطيعون دفعها، فكانت تتراكم على المواطن. وكان الحسن ابن الإمام، وهو محافظ محافظة إب ذلك الوقت في الأربعينيات من القرن الماضي، عندما يشكو الناس من ضعف عائدات الأرض نتيجة البرد والجفاف وكثرة الأمطار، يطلب منهم "السَّبْرة" ، وهي عبارة عن زكاة أفضل السنين إنتاجاً وعائدات الغلال المتوفرة. أما سنوات القحط وسنوات الفقر، فكان الحسن ابن الإمام يرفض. وكان الناس يموتون من المجاعة في سنة 1942، وكانت مجاعة أدت إلى وفاة عشرات الآلاف من المواطنين في مناطقنا فقط.
وتصوري، في هذه المسألة لم يكن لدى الناس قدرة على توفير الكفن للميت. فكانوا في مدينة إب، عندما يأتي الناس يبحثون عن المساعدة ويموتون في الشوارع، كان هناك يهودي ميسور الحال يوفر قيمة الكفن. وعندما فقر اليهودي، ذهب العلماء يراجعون الحسن ابن الإمام، وقالوا له: اليهودي خلص كل ما يملك، الآن ادفع قيمة الكفن من بيت المال، من أموال الدولة، حتى لا يتعفن الناس في الشوارع. وحتى الإمام يحيى، عندما راجعه علماء صنعاء بأن ينفق على هؤلاء الموتى ودفنهم وعلى الجائعين، قال كلمة مشهورة في التاريخ: «لا يكفي الخلق إلا الخالق، دعوهم». فالحسن ابن الإمام أمر بتوفير الكفن للميت، ولكن بشرط أنهم يُقاسوا بالذراع في تلك الأيام، حتى لا يُعطى للميت إلا من رأسه حتى أخمص قدمه، وذلك حتى لا تهدر هذه الممتلكات.

رحمة: حتى الكفن كان غالياً وبالملي، ولكن أريد أن أعرف: كيف كان شكل الضرائب التي يتم دفعها؟
أبو أصبع: أمثلة على ذلك: كان لدينا زكاة القياض، وهي الغِلال التي تزرع في الشتاء، ثم زكاة الباطن، والزكاة المعروفة الناتجة عن حصاد عائدات الأراضي. الضرائب فيما يتعلق بأصحاب الحرف، وهؤلاء موجودون في المدن، كانوا يأخذون منهم في السنة وليس في الشهر أشياء معينة، لأن المواطنين كانوا في فقر مدقع، وكان أكثر أصحاب الحرف يفلسون، مثل أصحاب النجارة والحدادة وغيرهما.
رحمة: هل كان يُطلب منهم فرانص أو قرش، أو مثلاً ربع كيلو ذرة؟ كيف كان يتم أخذ الضرائب؟
أبو أصبع: هذا يعتمد على ظروف الحكومة. فإذا كانت تريد مالاً تأمر بالمال، وإذا كانت تريد ذرة فيتم أخذ الحبوب. فكانت السنوات التي تأمر فيها الحكومة بأن يدفع الناس المال بدلاً من الذرة، يواجه فيها المواطنون صعوبة كبيرة، لأنهم كانوا يختلفون على التسعيرة: إذا كانت زكاته قدح، كيف تُسعَّر؟ كيف تُسعَّر عنده في القرية، وكيف تُسعَّر عند الحكومة؟ فتحدث مشاكل وظلم، ويرسلون عساكر للمواطنين ويجبروهم على التسليم بالأسعار التي تحددها الحكومة أو مكاتب الخزانة.
رحمة: هذا يعني فقر وجوع وخوف؟ دعنا نتحدث عن والدك وجدك. أنتم من براط، وجدكم عبدالحميد أبو أصبع، فكيف انتقلتم إلى الربادي، ولماذا؟
أبو أصبع: الذي انتقل إلى منطقة جبلة الربادي هو جدي ناصر بن محمد بن هادي بن محمد بن داوود أبو أصبع الدميني. جدي هذا عاش في المنطقة وتزوج منها، وخلف ولداً اسمه يحيى بن ناصر. هذا يحيى بن ناصر هو المؤسس الفعلي لأسرتنا في المنطقة، واستطاع أن يكتسب أكثر من 25,000 لبنة، واللبنة عندنا في المنطقة كبيرة وتساوي لبنة وربع بالنسبة للبنة الصنعانية. وهذه الثروة كانت كبيرة جداً، وكان جدي أحد الإقطاعيين الكبار في المنطقة.

كان يحيى بن ناصر يشتري الأراضي لأنه كان طيباً؛ كان يأخذ من المواطن الأرض أكثر من مرة، ويشتريها من فلان، ثم يأتي فلان ويقول: أنا لدي منها، فيشتريها منه، وتأتي المرأة فيشتريها منها. وكان أحياناً يشتري قطعة الأرض خمس مرات إلى اثنتي عشرة مرة. وكان يترك الأراضي وغِلاتها عند البياعة ليستفيدوا منها، وكان لديه الكثير من الذرة. ولهذا كان الناس يأتون ليس من مديرية جبلة وحسب، بل من المديريات الأخرى، لبيع أراضيهم ليحيى بن ناصر.
رحمة: يحيى بن ناصر، ما هي مهنته الأساسية؟ ومن أين جاء بهذه المبالغ حتى يشتري بها الأرض؟
أبو أصبع: كانت بدايته أنه عمل في التجارة، وكان ينزل إلى عدن ويأتي ببضائع وتُباع بأسعار عالية، ولهذا امتلك الريالات. طبعاً اشترى في مديرية السياني وذي السفال وحبيش وإب. وكانت ثروة كبيرة . وجدي بن يحيى كان طيباً، وأوقف ثلث الأراضي للديوان من أجل المسافرين والضعفاء والمساكين والفقراء، ومن أجل إقامة رمضان والقراءة على أبوه وأمه، ومن أجل إقامة المساجد التي بناها، وقد بنى من أربعة إلى خمسة مساجد وأوقفها للاوقاف. وأوقف أيضاً لسجن الجلالية حوالي خمسة أو ستة حقول.
ولأن قريتنا كانت طريق المسافرين إلى تعز، حيث كان يقيم ولي العهد أحمد قبل أن يكون إماماً، من حبيش، العدين، الحزم، القفر، ريمة، وصابين وغيرهم، فكان المسافرون لا ينقطعون أبداً. وفي الطرقات لم يكن يوجد مطاعم، وكان هناك متصدقون لديهم دواوين يخصصونها للمسافرين، وكان منها قريتنا عند جدي. وكانت جدتي أم منصور، ومعها أربع إلى خمس شغالات، يعملن على مدار الليل والنهار للمسافرين، وذلك من الوقف التابع ليحيى بن ناصر للديوان التابع للمسافرين. وكذلك كان يزرع على الطريق مجموعة أراضٍ، حقلاً أو اثنين، ويقوم بزراعة الفول والبطاط، حتى يمر المسافرون من هذا الطريق ويأخذون ما يريدون.
كلام للتاريخ والناس كلهم يعرفون أن قضية الأوقاف، سواء كانت من الأشخاص أو المسؤولين، مثلاً أروى بنت أحمد الصليحي، أوقفت لجامع جبلة كل ممتلكاتها لصالح الطرقات وأشياء كثيرة تذهل عندما تسمعينها. تصوري، صلبة السيدة في إب كانت صلبة واسعة جداً من أجل القرش التابع للمدينة، عملت لها أراضي لصيانتها. تصوري، أروى بنت أحمد الصليحي أوقفت للذكور والإناث من الحيوانات حتى تكون ممتازة وقوية. مثلاً، الأثور كانت تخصص لهم مربيين خصوصيين حتى تتلاقح مع الإناث وتحصل على مواليد بصحة جيدة. وكانت أروى تجعل للأماكن التي تأتيها السيول ناساً محددين ومخصصين، يكونون موجودين اثناء السيل لإنقاذ الناس وأخذهم منه. وكانت تعمل عقوداً بسيطة للناس الذين يمرون، وأوجدت لها أوقافاً لكل هذه المسائل.

وطريق النقيل من ذي السفال هو واحد من عشرات الأمثلة. طريق يسمى نقيل الخرخري كان صعب جداً، وهو طريق من تعز إلى كل المناطق الشمالية. هذا الطريق كان على مدرجات، وهذه المدرجات استمرت حتى أيام ثورة 26 سبتمبر. وكان هناك ناس يستلمون من أراضي أروى بنت أحمد من أجل إصلاح هذه المدرجات بصورة أسبوعية وشهرية وسنوية، بل ويومية. الآن لم يعد كذلك.
وكذلك أوقاف المواطنين. جدي كان واحداً من الأسر الكبيرة في اليمن، يوقف لصالح المساجد والمسافرين ومصالح الناس. الآن، عندما جاءت ثورتنا المباركة، وخاصة الآن، ويسمعوني الإخوة أنصار الله، اكتسحوا هذه الأوقاف، وكل شيء. وفرضوا على الناس الذي كان يدفع قبل 20 سنة أو 30 سنة 10 ريالات، الآن يدفع 100 ريال، والذي كان يدفع 10,000 الآن 100,000. ولم يعد الناس الآن يستفيدون من الأوقاف، للأسف الشديد. ونحن دائماً نقول لأنصار الله هذا الكلام، وليس شيئاً مخبأ، لأن هذه مصالح المواطنين والفقراء يعتاشون منها.
ولهذا جدي أوقف أكثر من 5,000 لبنة للمسافرين. وكانت جدتي أم منصور، واسمها والية، وكانت امرأة عظيمة، شجاعة، جميلة، نقيبة، وتسير وهي تحمل البندق، ولكنها كانت تمثل قمة الرحمة والشفقة على المواطنين المسافرين والذين يأتون من مناطق بعيدة. فلا يأتي مواطن في الليل أو النهار إلا وأم منصور جاهزة ومعها من أربع الى خمس شغالات يطحنّ بالرحى ويجهزن كل شيء. وتخيلي، أيام الأمطار لم يكن هناك حطب، وكانت تقوم بتخريب السماسر، وهي عبارة عن أماكن للعفش والأغنام والطعام، لأن لدينا ثلاثة بيوت، كانت تخربهم من أجل الصعد او ما يعرف بالتنور، لكي تصنع الطعام للمسافرين.
رحمة: هل كانت جدتك ترتدي النقاب أم محجبة؟
أبو أصبع: لم يكن في تلك الأيام نساء يرتدين النقاب، وهذه جاءت لنا عن طريق الوهابية أو بعض المناطق في المدن، وإلا فكل الريف اليمني كانوا كاشفات الوجه.
رحمة: صحيح فلنتحدث الآن عن كرم الضيافة التي ورثتها من جدّ الجد. حدثني عن والدك منصور أبو اصبع؟
أبو أصبع: مات يحيى بن ناصر الذي أسس الأرض والأسرة بهذه الثروة الهائلة، وتوفي عن ست بنات وولد هو جدي عبدالحميد. توزعت بعد ذلك التركة، ولكن جدي احتفظ بالثلث لأن الثلث بنظر الذكور دون الإناث، واستمر جدي عبدالحميد في الإنفاق..
رحمة: لماذا أخذ الثلث؟
أبو أصبع: لأن الثلث الوقف دائمًا بنظر الذكور دون الإناث، حتى يستمر في أداء الوظائف التي خُصص من أجلها، لأنه لو وُزع على البنات سيطير، وكل واحدة متزوجة في مكان. لهذا الأوقاف بشكل عام هي في قواعدها التشريعية دائمًا بنظر الذكور دون الإناث. والآن سأحدثك عن جدي عبدالحميد بن ناصر والد والدي؛ كان شخصية كبيرة، وأكبر واحد في محافظة إب طولًا وعرضًا. كان يأكل كبشًا لوحده مثل علي القوسي، وتزوج عشر نساء، وخلف أكثر من 12 ولدًا و18 بنتًا، وكان متصدقًا، واستمر بوصايا والده، وتعرض لمشاكل كثيرة، ودخل السجن مرتين. وكان سبب الإفراج عنه من سجون حجة وإب هي أم منصور، واليه بنت يحيى بن ناصر، وسبب علاقتها ومعرفتها بأحمد بن يحيى حميد الدين، ولي العهد الإمام الناصر فيما بعد؛ لأنه عندما شُقوا الطريق، طريق صنعاء - سمارة – اب – الربادي - ذي السفال – القاعدة - تعز، كان شقها الإمام أو ولي العهد من سنة 1945، وانتهوا منها سنة 1948 قبل ثورة 48، والذي كان المهندس لهذه الطريق هو أحمد السياغي، الذي كان فيما بعد محافظًا لـ 25 سنة في إب، وهو من رجالات الدولة القلائل، فلتة من فلتات التاريخ. ولاه الإمام محافظة إب وتعز، ثم رئيس المجلس النيابي، فهرب قبل الثورة إلى عدن لأن الإمام أراد أن يجزّ رأسه لأنه قحطاني، وبعد أن أُصيب الإمام بالرصاص في الحديدة عندما أطلقوا عليه كلًا من العلفي واللقية والهندوانة.

رحمة: أستاذ يحيى، تحدثت عن القاضي أحمد السياغي والطريق وجدتك والية، ولكن كيف استطاعت جدتك أن تنقذ أحمد السياغي؟
أبو أصبع: أولًا، الطريق كانت مهمة، يتم شقها بواسطة أيدي المواطنين بالصيبار والمفارس والمجاريف، لم يكن يوجد مكائن ولا حراثات ولا يحزنون. وكان المواطنون يجلسون في الجبال الصعبة شهورًا وسنين. الذي خطط هذه الطريق من صنعاء، وخاصة جبل سمارة، هذا الجبل الصعب وهو من أصعب الجبال في اليمن، هو أحمد السياغي. ولهذا عندما جاء الأمريكان والألمان لشق طريق تعز - صنعاء وصلوا سمارة، واستغربوا وقالوا: من خطط هذه الطريق؟ هذا مهندس عبقري. وتصورِي، مشوا على نفس خطة أحمد السياغي إلا الأماكن الصعبة، لأنه كانت هناك آلات وحراثات وجرافات ومتفجرات وغيرها. فالطريق هذه مرت على قريتنا وكثروا المسافرون. كانت أم منصور تحتفظ بمدافن خاصة للمسافرين لا يستطيع جدي الاقتراب منها، حتى لا يأتي وقت معين ولا يوجد هناك حبوب: ذرة، بُر، شعير. كانت هي للمسافرين فقط في نظرها. وكانت تخصص أشخاصًا يشترون الأقمشة القديمة؛ كانت الأقمشة عبارة عن ملابس قطنية لكنها سوداء نسميها مسبغ. كل الناس يرتدون اللون الأسود، النساء والرجال والكبار والصغار، ولم يكن هناك الدك والمريكني وغيرها من الملابس؛ هذه كلها جاءت من بعد الأربعينيات. وكانت جدتي تجعلهم يذهبون لشراء هذه الملابس ويجهزوها عندها، وتعطيهم الذرة والبُر قيمتها. وعندما يأتون المسافرون، وأحيانًا يأتون وهم عرايا، فتعطيهم الملابس. فكانوا يأتون من كل مكان وهم عراه؛ منهم من يأتي ورجله مكسورة وهذا تعب، تستقبله عندها وتقوم بتصفية أقدامه وتنظيفه وتطعمه وتعطيه البُر، ثم تقول له: عُد إلى أطفالك.

رحمة (مقاطعة): طبعًا كان هذا لأسباب دينية وأخلاقية.
أبو أصبع (متابع): الإمام أحمد، أو ولي العهد، كان يشق الطريق، جاء يجلس عندنا أثناء شق الطريق في المنطقة في درب الممالح، وجدتي كانت تخدمه. فكان يذهب إلى مناطق بعيدة، وجدتي تأخذ الأكل للإمام وتلحقه بنفسها على بعد كيلو أو 2 كيلو. فقال لها الإمام: لماذا لم ترسلي الشغالات أو مع الناس؟ قالت له: لا، أنا أخاف على ابن الإمام لأنه لديه أعداء، فمن اللازم أن أحافظ على حياة ابن الإمام. فارتاح منها الإمام، وكان يأكل منها الأكل دون أن يختبر أو يجعل أحدًا يأكل قبله.
أم منصور كانت تستقبل المشائخ والمسؤولين، طبعًا مع وجود عبدالحميد بن يحيى بن ناصر.

رحمة: الآن تعرفنا على قصة امرأة قوية للأجيال وللنساء يستمعون إليها، فحدثنا أكثر عن جدتك والية.
أبو أصبع: جدتي والية عقدت علاقة قوية مع ولي العهد الإمام أحمد، وكان إذا نزل القاعدة أو أي مكان لرؤية أبناء أحمد ثابت أو التجار في القاعدة، يأخذ منهم الملابس الجديدة من عدن، وتسمى عدنيات، وخشب عدني، وكل شيء يأتي من أوروبا أو أي مكان عبر عدن نسميه عدني. كان يعطيها الملابس والأقمشة. ولهذا عندما توفيت في 1953، وهو إمام، وصله الخبر إلى الديوان، وطلب من الديوان أن يقرأ الفاتحة، وجلس ثلاثة أيام وهو يقرأ الفاتحة وياسين على روح أم منصور؛ لأنها كانت متصدقة، وكان يقول إنها من أهل الجنة نتيجة لصدقاتها ونفقاتها على المساكين والفقراء من النساء والرجال والأطفال. وكان الإمام يشاهد المسافرين الجياع وهم يأكلون في الجفنة، وهي الصحون الكبيرة، وهذه الجفان كان جدي يجعل صناع الفخار يعملون جفان كبيرة. فكان الإمام يأتي، وهناك جفنتان أو ثلاث، والناس عليها يأكلون. فأُطلق على جدي عبدالحميد «عبد الحميد الجفنة». بعد ذلك تعرض جدي عبدالحميد أيام الأتراك للاعتقال والضرب ومشاكل كثيرة، لأنه كان يساعد أبناء القبائل الذين يقاتلون الأتراك في تلك الأيام. وفي تلك الأيام حدثت مشاكل حرب الشايف في الربادي.

رحمة: حدثنا عن حرب الشايف.
أبو أصبع: حرب الشايف لها قصة عجيبة. كان هناك الشيخ حسن بن قائد أبو راس، وكان يحكم محافظة إب، ووصل نفوذه إلى ماوية وجبل راس في العدين والقفر وغيرها، وكان يقاتل الأتراك بكل تفانٍ. فوالي الأتراك، أحمد فيضي، جاء إلى تعز وأرسل إلى أبو راس رسائل ووساطات أنه يريد أن يلتقي به حتى يقوموا بحل المشاكل. فذهب أبو راس للقاء أحمد فيضي، فعندما وصل إلى الحوبان كان هناك بئر اسمه بئر المبوالة، وجهزوا له مدفعًا وأطلقوا عليه هذا المدفع، فأخذه مع حصانه. وكان هذا تعويرًا لا أول له ولا آخر عند قبائل ذو محمد؛ لأن أبو راس كان شيخ ذو محمد، والشايف شيخ ذو حسين، ومن يتمشيخ منهم يمكن أن يكون شيخ ذو غيلان، وهي تجمع ذو محمد وذو حسين. فنكفت القبائل وجرت حرب لم يشهد لها الأتراك مثيلًا في بعدان النادرة، حيث ما يتواجد الأتراك، والسياني وجبلة في الربادي وكل مكان. فكان يُتهم جدي أنه يقوم بدعم القبائل بالمال والأكل والشرب، لما يسمونه القبائل أو القباسيس كما يطلقون عليهم الأتراك. جاءت حرب الشايف إلينا في الربادي، فأخذوا جدي وسجنوه، وأخذوا النقائل من المنطقة بأكملها، وسجنوه حتى لا ينظموا إلى الشايف، والشايف كان يحارب معه. وهذه من القصص العجيبة: شخص يُدعى الشمج، وهذه المعركة تعرف بحرب الشمج أو الشايف. وهذا الشمج، وهو علي بن مرشد الشمج من قرية ورف التي كان فيها سنان أبو اللحوم. طبعًا الشمج دخل يقاتل مع الأتراك، فكان يقرب البندقية للخلف ويطلق على الأتراك، والأتراك يستغربون من الذي يقتلهم ومن أين يأتي الرصاص، حتى قتل ثمانية أشخاص. فعرفوه فطرحوه بفوهة المدفع ورموا به إلى الشايف. فكانت هذه التضحيات كلها من أجل أبو راس؛ لأن قتله كان عارًا وعيبًا أسود عندما جاء بدعوة، وبالتالي يُقتل بتلك الطريقة الغادرة.

رحمة: وتوحدت القبائل تحت ما يسمى بالنكاف، جميل جدًا.
أبو أصبع: نعم، يُسمّى النكف القبلي، ولهذا جدي تعرّض لهذه المشاكل، ولكن تعرّض لمشاكل أيام الإمام في عام 1944. هرب مطيع دماج وعبدالله بن حسن أبو راس مع الزبيري والنعمان وعقيل عثمان عقيل وأحمد الشامي وعدد كبير، وشكّلوا حزب الأحرار في عدن. فالإمام أمر كل الرعاية الإجراء لبيت أبو راس ودماج: أن لا يزرعوا أراضيهم ويتركوا النساء والأطفال يموتون من الجوع. فكانت تأتي النساء والأطفال إلى جدي ويطلبون الحب، فكان يعطيهم شعيرًا وبرًّا وذرة. فوصل الخبر إلى الإمام يحيى، وطلب الإمام يحيى من ولي العهد أن ينتقل عبدالحميد ويمنعه من هذا الكلام ويتخذ ضده الإجراءات. ولي العهد أحمد يعرف عبدالحميد، فأرسل رسالة مع شخص وقال: قولوا لعبدالحميد أنا أسأله هل أنت تنفق على بيت دماج وأبو راس؟ وهو ينكر ويقول: لا. فوصل الرسول إلى جدي وقال له: يقول لك ولي العهد أنكر أنك تعطي بيت دماج أو أبو راس حبًّا أو شعيرًا أو تنفق عليهم. قال له جدي: لا، لا أحد يكذب على ابن الإمام. فوصل إلى ابن الإمام وسأله أمام الذين يتوصلون بوالده والإمام يحيى من الهاشميين. قال له: هناك معلومات أنك تقدم حبوبًا وأكلًا لنساء بيت دماج وأبو راس. فأجابه جدي: نعم، هذا واجب، وهؤلاء أهلي وهم أقاربي، نحن جميعًا من قبيلة واحدة، ونحن متداخلين ومتصاهرين، فكيف يا ابن الإمام لا أعطيهم وهم يأتون إليّ جائعون؟ فأمر الإمام، عندما مسكوهم حينما ذهبوا بالأحرار في 1944 إلى حجة، وقال: اجعلوا عبدالحميد أول واحد، وأحضروا له القيد الكبير والمغلقة الكبيرة التي تُغلق على أيديهم وتُوصل برقبته، والسبب أنه اعترف. ونزلت جدتي إلى القاعدة عند ولي عهد الإمام، فاستقبلها.

رحمة (مقاطعة): أستاذ يحيى، ما اسمها الثلاثي، وإلى من؟
أبو أصبع: والية بنت مرشد بن صالح أبو إصبع. طبعًا، بعد أن ذهبت والية إلى ولي عهد الإمام استقبلها، وطلب من أولاد أحمد ثابت في ذلك الوقت أن يستقبلوها ويضيفوها، والإمام لم يكن ينسى المعروف، وهذه من ميزته. فقالت له: لماذا تحبس عبدالحميد؟ قال: أنا قد طلبت منه وأرسلت له رسولًا بأن ينكر. فقالت: عبدالحميد لا يكذب ولا يمكن أن يكذب، ولو على قطع رأسه. فقال لها: هكذا قالت؟ نعم. قال لها: ولكن أنا سأراجع الإمام على أساس أن يطلق سراحه. فقالت له: متى؟ فقال: بعد سنة. قالت له: هيا، تمام، إذا جاء بعد سنة ولم يخرج فأنا سآتي إليك. فقال لها: تمام. ومضت السنة ولم يخرج جدي من سجن حجة، فذهبت إلى الإمام وعملت له رسالة، قالت له: أوَعِدتَ أن عبدالحميد سيخرج بعد عام، ولكنه لم يخرج، وأنت قلت بوجهك، وجهك أصبح وجه معطري.
رحمة: ماذا يعني وجه معطري؟
أبو أصبع: الإمام يعرف ماذا يعني وجه معطري.
رحمة: نحن نريد أن نعرف أيضًا.
أبو أصبع: نحن عندنا القبائل يقولون للشخص البائر أو الذي لا يوفي بعهده: يقولون وجهه وجه معطري، وهذه دائمًا نرددها. وأنا سأخبرك عن قصة المعاطرة. هؤلاء المعاطر هم إخوان ذو محمد في برط، وذو محمد يتشكل من خمسة أخماس: نحن خميس آل دمينة، وخميس الأحمد بن كول الذين هم بيت دماج وبيت أبو راس، وخميس ذو زيد الذي منهم البحور بيت البحر الذين في ماوية، وخميس آل صلاح الذي منهم بيت الصلاحي، وخميس ذو موسى الذين منهم اللواء عبدالله جزيلان، أحد قادة الثورة الكبار.
رحمة: لماذا جميعهم (خميس)؟
أبو أصبع: القبيلة خمسة أفخاذ، هم جميعهم أولاد أحمد بن سويدان، والسادس فعلوا المعطري. وأنا لا أريد أن أقول التفاصيل لأن المعاطر سيسمعوني، بينما سأقول: هم إخواننا وإخوان ذو محمد، ولهم ما لذو محمد، وعليهم ما لذو محمد. فقط هناك شيء واحد: أنه في قضية الوجوه، المحمدي مثلًا إذا كان هناك قاتل، فهو يستطيع أن يسير في بلاد الناس أصحاب الدم وهم لا يعترضون، لأنه سير محمدي، هذه بقواعد السبعين المتعارف عليها، والتي يعمل فيها جميع القبائل. هذه القواعد صاغوها سبعون رجلًا من ذو محمد، وفي أصعب القضايا يرجعون إلى قواعد السبعين. ولهذا هذا السير من ذو محمد أو ذو حسين أو نهم أو أي مكان يسير، والقاتل الذي لديه دم لأولياء الدم لا يتحركون لأنه سير فلان، وإذا قتلوه تحصل حرب لا تنتهي، والمعطري محروم من هذه الميزة.
رحمة: ولماذا المعطري محروم منها؟
أبو أصبع: المعاطرة لهم كل الحقوق والواجبات التي للمحمدي والحسيني، وذو غيلان وفي ذو حسين إخوان ذو محمد منهم ثمانية أثمان، والتاسع الحطباني، وهو وضعه مثل وضع المعاطرة. هذه قواعد متفقين عليها.
رحمة: ولكن لماذا؟ ما هو السبب؟
أبو أصبع: في قواعد السبعين العرفية، التي الآن القبائل جميعهم مهما كانت لهم من أعراف محلية، عندما تستصعب القضايا عليهم يرجعون إلى قواعد السبعين التابعة لذو محمد. ويمكن أن أقول لك فكرة عنها، وهي حلت مشاكل قبائل اليمن لـ 300 عام.
رحمة: كيف؟
أبو أصبع: اجتمع 70 شخصًا من ذو محمد وقالوا إن مشاكل كبيرة تحدث ولا نعرف كيف نعالجها ضمن أي تشريعات وأي قواعد قانونية عرفية، إلى آخره، فصاغوا قواعد السبعين وسموها باسم 70 شخصًا من ذو محمد قبل 325 عامًا، وهي موجودة لديّ.
رحمة: دعنا الآن نعود للمناضلة والية، عندما أرسلت للإمام أحمد وقالت له: وجهك وجه معطري، ماذا كان رد فعله؟
أبو أصبع: الإمام أحمد يعرف وجه المعطري، لأنه عندما أمه كانت حاملاً به، وأبوه كان في حالة حرب في شهارة وغيرها من المناطق مع الأتراك، فقام بتهريب زوجته، أم الإمام أحمد، إلى منطقة اسمها المرهنة في الجوف، وهي منطقة آمنة من ذو حسين، وولدته هناك. هذا على حسب ما يقول القبائل، وبيت حميد الدين لا ينكرون ذلك. أنا ذهبت إلى المرهنة أيام الجبهة الوطنية عندما كنت مسؤول الحزب والجبهة الوطنية في الجوف، وهذه المنطقة لا يزالون يعيشون على ما هم عليه قبل 200 سنة في عاداتهم ومأكلهم ومشربهم واستقبالهم للضيف، وهناك قصص وأشياء عجيبة. عندما نأتي ونتحدث عن الجوف ستستغربين منها.

رحمة: أنا ذهبت إلى الجوف ورأيت لا يزالوا في زمن قديم.
أبو أصبع (متابع): ولي العهد قال للإمام: مرسل إليك رسالة أم منصور، وأم منصور هذه كذا وكذا وكذا. وقال: أنا قد أديت لها وجهي أن أطلقه بعد سنة، وإلى الآن لم يخرج. وبسبب ذلك قالت: إن وجهي وجه معطري. يا والدي حفظك الله، أرسل عبدالحميد. وبعد سنتين الإمام يحيى أمر بإطلاق عبدالحميد، وطلب بإحضار أحد أبنائه بدلاً عنه في حجر، وأخذوا عمي حمود، ووصله إلى هناك، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يخرج إلا علامة وشاعر وكاتب، لأنه كبار القوم كانوا هناك في حجة. وخرج جدي في شهر مارس 1946، ولهذا أنا تاريخ ميلادي هو تاريخ خروج جدي من السجن ووصوله إلى الربادي.
طبعاً عبدالحميد، إلى جانب أنه كريم وشخصية كبيرة، إلا أنه كان يحب الشره والرقص والغناء. وعندنا في منطقة الرمادي والتعكر والقبرين من أجمل المناطق من الناحية الجيولوجية والتركيبة الجبلية في اليمن بأكملها، ولهذا هي منطقة النفس، أو كما يوصف حالياً السياحة، ويذهبون إليها في شهر سبتمبر، ويكون بداية نضوج الغلة. ولهذا يذهب الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويأتون من مختلف المناطق، بما في ذلك المديريات المجاورة. وفي يوم الخميس جبل التعكر، ويوم الجمعة القبرين. وبعدها تأتي النساء اللاتي تملكن الأصوات الجميلة ويهجلن، وهن يتكون من 20 فتاة بصوت واحد، صوت الهجلة الجميلة. فكان جدي يعطيهن المال ويهجلين عليه، ويشعرن بالقول:
قلت يا عبدالحميد
يا جيد يا ابن الدميني
جزعتك عسوجة
وقطبتك ليل داني
قلت عبدالحميد يا جور مغروس بنخلان
المدافن ملان والبر عامي من العام
وحدثت قصة، واجتمعوا المشائخ هناك. فأحد المشائخ المحمودي طلب من إحدى المغنيات، وأعطاها ريال فرنص، وقال: أريدك أن تشيدي بي وتتحدثي عن الشيخ محسن منصور بن ناصر، أخو يحيى منصور بن ناصر وأحمد منصور. وبيت منصور بن ناصر أسرة عريقة من 800 عام، وهم جاءوا من يافع. وغنت، كانت تمدح الحمودي وتسب ابن منصور، قالت:
غرديني يا صرع من فوق بيت الحمودي
اليهود أسلموا ومحسن مكانه يهودي
ومحسن أخذ سلاحه وأطلق النار عليها وتسبب في كسر رجلها، فاجتمع جدي وقال: هذه كبيرة، وفرض على الحمودي أن يجمعوا مالاً ويأخذوها إلى عدن، لأنه لم تكن هناك مستشفيات إلا في عدن عند بريطانيا. وجدي دفع ريالين وآخر ريالين، وجمعوا المبلغ، وجابوا شخصين وأخذوها إلى عدن، ولم تأتِ السنة القادمة إلا وهي موجودة تهجل وتغني.
رحمة: استاذ يحيى أشكرك من أعماق قلبي لأنه كان هناك معلومات مهمة عن أعراف السبعينيات كنا بحاجة للاستماع إليها الآن حدثنا عن والدك منصور أبو اصبع؟
أبو أصبع: أبي منصور عبدالحميد أبو اصبع كان طويلاً وأبيض ووسيماً، ويحب القات، وكان أكثر واحد في محافظة إب يحب القات الجميل. وكان باعة القات من بعدان والخريب وبلادشار وكل مكان يدخلون بالقات، ويطلب من البائع أن يجلس ويمضغ القات، وفي اليوم الثاني إذا كان القات جميلاً يسلمه قيمة القات مضاعف. وكان أبي منصور يحب الفن والرقص، ولهذا سموه مكتشف المغنيات، اكتشاف حمودة العدنة، وهي فنانة عظيمة وشاعرة، صوتها من أجمل ما يمكن، وكانت جميلة جداً، وتصوري أتذكرها في 1956، وأنا كان عمري حينها عشر سنوات، وأتذكر أن شعرها يصل إلى أقدامها من طوله. وهي اكتسبت ثقة أمي، لأن أمي اختبرتها في أخلاقها ورأتها أنها محترمة ولا تسلم نفسها بسهولة، ولهذا كانت تغني. بعد ذلك نفذوا على أبي، كان هناك شخص يدعى إسماعيل سلامة، عامل في جبلة، وأخبر أحمد السياغي أن هناك فنانة جميلة ومدهشة. وقال له أحمد السياغي: نريدها. فجاءوا إلى أبي وطلبوها، ولكنه رفض، لأنه يعلم أنه لو سلمها لهم لن يروها بعد ذلك. ولهذا سجنوا أبي بدعوى أن هناك اختلاطاً وغناء، والغناء محرم في أيام الإمام، والاختلاط هذا شيء كبير. واحتسب الشيخ حسن محمد علي سلامة، وهو المنافس لأبي على مشيخة المنطقة، وسجن أبي. وكان معه عبده صالح القادري، ودعه وقال: أسألك بالله، كيف جمال حمودة العدنة؟ فقال: يا مولانا، إذا كان الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقد جلس ستة أشهر يخلق فمها وبعدها ابي هربها.
بعد ذلك حمودة العدنة كانت تغني وتشعر، وقالت:
من يشتي الجنة عزم حمودة
يسقيه عسل ويبخره بعودة
وجاء السيد علي بن أحمد بن عبدالله المتوكل من جبلة إلى عند أبي، وكان صديقه جداً، وأبي وعده أنه سيجعله يرى حمودة العدنة. فأبي أوعز لها، وقال لها: لدى السيد مصباح. والسيد كان قد حصل على المصباح ذلك الأسبوع، وأوصله له الشيخ محمد بن لطف الهبوب ولأول مرة احضر معه مصابيح من عدن وأوصل أيضاً طواحين إلى جبلة. وتصوري أن الطواحين وصلت في الخمسينات إلى جبلة، لأنه في تلك الأيام كانوا يستخدمون الرحى. طبعاً وصل هذا السيد وجلس، وأبي قد أوعز لها من أجل المصباح، وهي أخذت التنك ودقت عليه، وقالت:
يلعن أبوه من زاد سمر بلمبة
إلا بإتريك والحبيب جنبه
السيد أدرك وقال: يا منصور، أرسل لي اثنين رسل هذا الخاتم، واذهبوا إلى الزوجة أم زيد، وقولوا لها تسلم المصباح، وهذا خاتمي. وجاء المصباح وولع، وخرجت الأنوار من النوافذ، والقرى الذين رأوا الأنوار الذين نقلوا يعلم الله ما الذي يحدث.
رحمة: وكل هذا كان بسبب حمودة العدنة ومنصور أبو اصبع.. وبالنسبة لوالدتك، ألم تكن تغار من حمودة أو من المغنيات؟ حدثنا عن والدتك؟
أبو أصبع: أمي كانت عظيمة، واختبرت أخلاقها، ولهذا كانت تثق بها. أمي كانت الوحيدة في المنطقة كلها تقرأ القرآن، وكان أبوها يفضلها على أولاده جميعاً، ولهذا جعلها تقرأ القرآن معهم، وهي الوحيدة من بين خواتها. وكانت تحفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم، ولهذا كانت عند أبي وأهل الربادي لها مكانة خاصة. وكان أبي يناديها بالشيخة بنت الشيخ، لأن أبوها الشيخ عبدالجليل بن عماد بن قائد البخيتي، هم من الأصابح، على بعد حوالي ساعتين أو ثلاث ساعات من الرمادي، وهم بالجهة الغربية.

ووالدتي كانت تتعامل مع أبي الند للند، وكان أبي يعرف مكانتها ويقدرها. ولهذا أبي طلق أمي مرة واحدة في حياته. لماذا؟ لأنني كنت السبب، كوني لم أكن أرضى أذهب إلى الفقيه. وجلست ثلاث سنوات وأنا ألعب وأشاكس وأقوم بعمل مشاكل. فالفقيه سعيد حتى لا يسأله أبي ذهب إليه وأخبره أنني لا أقرأ. فجاء يوم شعبانية، وكانوا حينها يقيمون الشعبانية في الخامس عشر من شهر شعبان، لاعتبارها يوماً دينياً. فكان أبي يقيم الشعبانية ويذبح فيها، ثم سألني: إلى أين وصلت يا عماد؟ وكان عندما يريد أن يشيد بي يقول: يا عماد الإسلام، يحيى كنيته العماد. وأنا ذهلت، لأنني لا أعرف أسماء السور في القرآن غير "قول يحيى" واقصد بها " قول اوحي الي" وقلت له إنني وصلت إلى قول يحيى، وكنت أذكرها بهذه الطريقة لأني كنت أذكر فيها اسمي. قال: تمام.
وفي السنة الثانية جاء، تصوري، في نفس شعبان، وقال: إلى أين وصلت؟ وأنا ذكرت السنة الأولى أني قلت له بأني في أول قول يحيى، فقلت له إنني في آخر قول يحيى. وجاءت السنة الثالثة، وسألني نفس السؤال، وذكرت أني قلت له في السنة الأولى بأني في أول قول يحيى، والسنة التي بعدها قلت إنني في آخرها. وأدركت وقلت: في أول قول يحيى فاصلة. فهو أخذ إناء فيه "سحاوق" ورماني فيها، فالسيد استلقفه، وتطاير السحاوق علينا. والمهم أن الإناء الذي كان سيقع في وجهي التقطه السيد. وكان سادة ذو قاشة دائماً يأكلون عندنا. وكان لدينا قرية اسمها ذو قاشة، جميعهم سادة من بيت الحسني، وهم محترمون جداً، عاشوا مع أبي وجدي، وعشت معهم، ومن أوفى الناس.
رحمة: ولكن، لماذا طلق والدك والدتك؟
أبو أصبع: بعد أن رماني أبي، كانت أمي تمسك بين أيديها إناءً من الفخار يحتوي على اللحم، وهي عندما رأت ذلك رمت إناء الفخار على أبي، وأبي طار عقله وحاول الناس ايقافه ولكنه أخذ الجنبية، أراد طعنها، فالسادة وعمي عبدالعزيز وغيره أرادوا منعه، ووقعت السكين على يد السيد محمد بن يحيى الحسني، فسال الدم، فأبي لا يعرف ماذا يقول للناس: هل يقول لهم إن زوجته رمته بإناء اللحم فرمى عليها يمين الطلاق؟ وقالت: تمام! و بينما وهو يطلق امي أنا أخذت لي قطعة من اللحمة وجلست في المطبخ لآكلها. بعد ذلك سافرت أمي الأصابح، وأنا معها، وبعد شهر جاء جدي عبدالحميد وأبي واعتذروا، ثم عادت أمي، وكانت هذه الطلقة الوحيدة، وأنا كنت السبب فيها. و لكن ومن بعد تلك اللحظة بدأت أقرأ عند أمي وعند الفقيه، ولم يأتِ شهر إلا وأنا أقرأ فاصلة. ذهبت إلى أبي والمصحف في يدي، وأخبرته بأنني أقرأ سورة البقرة، فقال لي: أنت لم تخرج من سورة قل يحيى. فقلت له: انظر، وفتحت له سورة البقرة، وبدأت بالقراءة، فطار أبي فرحًا، وأعطاني حلاوة "زعافير". وبعد ذلك وظفني إلى جانب القراءة، وكنت مسؤولًا عن أراضي أبي بأكملها.

وهناك ثلاثة أشياء كنت أحبها في طفولتي: المطبخ، وأنا صغير وكبير، وحتى هذه اللحظة أنا طباخ ماهر وأطبخ كل شيء. أطبخ من وأنا طفل، قبل الثورة كنت عندما أجوع تطلب مني أمي أن أجهز الحطب وأعجن وأعمل وأتعلم، ثم علمتني عمتي زوجة إسماعيل مجلي طريقة المدينة، عندما كنت أقرأ في جامع جبله عمتي الشيخة، وكنت أجلس عندهم. أنا أجيد عمل الخبز والعصيد والرز والبطاطس، وعندما كنت في الصين أربع سنوات تعلمت الطبخ الصيني. أنا أحب المطبخ كثيرًا، وحتى هذه اللحظة أنا دائمًا من أقوم بعمل الفطور والعشاء بنفسي ولا أكلف النساء.
وثاني شيء أحبه هو الزراعة. أنا مزارع منذ أن كنت في سن العاشرة، كنت أزرع، ولم تقم الثورة إلا وأنا أكثر المزارعين إجادة ونضجًا وفهمًا للزراعة، من الثومة إلى البصل والبطاط والذرة والشعير والبلسن وكل شيء، وليس هذا وحسب، وكذلك أبتل بالأثوار وكنت أحسن بتول على الإطلاق، بشهادة جدي.

الشيء الثالث الذي أحبه وكنت أجيده منذ أن كنت صغيرًا: الرقص والغناء. كنت أرقص وأغني وأدق على التنك. هذه الأشياء الثلاثة لا يستطيع أحدٌ إجادةَ جميعها إلا نادرًا، وأنا كنت أقوم بها الثلاث وكنت مبدعًا في الرقص، وأدق بالطريقة اللبنانية، لأن الرقص عندنا في اليمن كان رتيبًا كئيبًا، لا أحد يتحرك إلا بصعوبة، ما عدا صنعاء كان فيها نوع من الحركات. وأنا جئت وأبدعت في الرقص وأغني، فكانوا النساء والرجال، ولم يكن في ذلك الوقت أي عقد أو مشاكل مع بعضهم، وكنت عندما أذهب إلى القرى لا أستطيع أن أكمل طريقي بسبب النساء لأنهن يطلبن مني الغناء والرقص معهن. طبعًا، ولأنني أرقص وأغني وأدق في التنك، فيعني هذا أنني طبال، وهذا بالعرف مثل المزين والجزار، ويعني هذا أنني ناقص. فقاموا بتحريض أبي وقالوا له إن ابنك طبال، وأبي لأنه يحب الرقص والغناء كان يتسامح، ولكن والدتي كانت تغضب، وكانوا يقولون لوالدتي: انظري إلى ولدك كيف يرقص، ويبدو أن به جن "زيران"، لأنني كنت أقوم بحركات مثل الرقص اللبناني والمصري، وكنت مبدعًا.
رحمة: أستاذ أبو أصبع، ما أجمل الحوار معك، متعدد، متنوع، بسيط، خالٍ من العقد والتكلف. ولا زلنا في البداية، في الحلقة القادمة سندخل في تفاصيل طفولتك.
مشاهدينا، كما شاهدتم وسمعتم، يحيى منصور أبو أصبع، البساطة والتلقائية في الحديث، لكننا لا زلنا في البداية، وفي الحلقة القادمة سندخل في الطفولة والمعاناة والنشأة التي خلقت أبو أصبع، الذي سيصبح أحد الشخصيات التي تناضل لأجل السلام والتقارب ما بين الأطراف اليمنية.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)