الرجل الذي افتقده!!
كنت لا أزال في ذلك البيت، لتلك الطيبة "أمي فاطمة"، العجوز التي تأتي كلما ذُكرت استلام الإيجار من منطقة حدّين.. ومعظم الأشهر أذهب أنا به خوفًا من التراكم، فتلقاني بكل ترحاب:
خليه يا ابني، أنا شنزل له للمه التعب.
عجوز كانت، رحمها الله، طيبة طِيبة طين الأرض.
كنت أيامها معلقًا بين السماء والأرض، أحصل على رزقي من صحف أرسلها إلى الخارج، ولم أعد إلى قاعدتي العتيدة بعد "بيتي صحيفة الثورة".. كانت أيام جميلة بتعبها وطعم الرزق الحلال…
تعودنا معظم الأيام أن المقيل عندي في بيت مطهر، وهنا أقصد ممن أنا مستأجر…
من كل أطياف المشهد كانوا يأتون، وفيه تعرفت لأول مرة على الجميل صاحب القلم الأجمل، رحمة الله تغشاه، حسن عبدالوارث. كنا أيامها في المؤتمر التوحيدي لنقابة الصحفيين اليمنيين، وكلما كنت أستفزه أسأله:
أين تعارفنا؟ دعني أختبر ذاكرتك.
يرد عليّ ضاحكًا:
بطّل يا ابن الشيخ.
يمتلئ الديوان أو يكاد.
يأتي هو بدون مقدمات.
أكون قد هيأت له نفس المكان "نفس الزاوية".
يدخل مبتسمًا، يجلس بهدوء، لا يتكلم، يظل يستمع، فإذا دنا الغروب أخذ نفسه وخرج بدون أن يترك وراءه أثرًا إلا ما هو طيب..
عبد الرحمن الأهدل،
الإنسان البحر.
بل هو كان، رحمه الله، بحرًا لحاله، إضافة البحر تهامة الذي أتى به إلينا بين جواهر ولآلئه..
سنوات من المعرفة.
سنوات من التعارف.
سنوات من الفعل الثقافي الجميل، والأهدل في معمعته، مساهمًا، مشاركًا، مشيرًا، ناصحًا أمينًا…
نعرف بعض.
نساهم مع الآخرين.
نتواجد وسط الفعل الذي كان وغادر.
الكل يعرفه، الكل يحترمه،
الكل يقدّره،
وهو سيد من يحترم نفسه.
حتى إذا أتى ذلك النهار، عرفنا بعضنا!!
دعانا وجمع غفير من الأدباء والصحفيين الأستاذ فيصل سعيد فارع إلى مناسبة السعيد السنوية..
وضعنا حظنا على كرسي واحد في الباص النظيف الذي خُصص لكل من دُعي من صنعاء إلى تعز…
ومن لحظة جلوسنا، وكان النبيل محمد القعود بالقرب منا، بدأنا الحديث الذي لم يكل ولم يمل حتى وصلنا إلى تعز… تخيلوا أننا ظللنا نتحدث كل تلك المسافة بين صنعاء وتعز بدون توقف… لم تترك شاردة ولا واردة إلا وتحدثنا فيها أو عنها "من الإبرة حتى الصاروخ" كما يقولون..
عندما توقف الباص أمام الفندق قال عبد الرحمن لعبدالرحمن:
اليوم فقط عرفتك.
هززت رأسي:
نعم، عرفنا بعض.
عبدالرحمن الأهدل أحد مثقفي هذه البلاد الكبار، رحمه الله… مفكرًا، أديبًا، حزبيًا.
خلوقًا، مهذبًا، تراه مبتسمًا طوال الوقت.
تسمع ضحكته تدوي عندما تذكر له فؤاد عبدالقادر.
تراه كالسيل يندفع:
نعم، فؤاد اللعين لا يصلح لزيارة أديس أهو.
وإذا أردت رفيقًا إلى تلك البلاد الخضراء أرضًا وبشرًا، فليكن رفيقك فؤاد النقي والإنسان…
جاء عبدالرحمن الأهدل إلينا من بيت علم، فكان المثقف الشامل ابن الواقع الذي لم يحاول أبدًا أن يكبر عليه… لم يختصم مع أحد، ولم يتجنح، ولم يعارك تلك المعارك السخيفة بشعاراتها الأسخف… ولم يكن ثوريًا نزقًا، بل ظل ابن تهامة التي نحبها وأحببناه…
كنت كلما تضيق بي اللحظة فأنظر إلى وجهه، فتتحول أعماقي إلى بساتين من ورود وأزهار، وكلما زعلت من عبدالباري ألجأ إليه، فيحولني إلى سماء زرقاء بابتسامته التي لم تفارقه من يوم أن أتى إلى يوم ذهب…
ذلك الصباح كنا هناك، وعندما رأيته في قاعة بيت الثقافة انتقلت إلى جانبه، بعد مرور بعض الوقت استأذنت وذهبت.
اتصال تليفوني:
عبدالرحمن الأهدل، أسعفناه من القاعة… توفي.
توفي، توفي، توفي، توفي، توفي، ظلت تدوي وتدوي في كياني كله.
لم أستوعب…
لم أستوعب أبدًا.
كلما أتذكر الزاوية، والابتسامة
، والضحكة المجلجلة، والمقدرة الفذة، وكل القيم النبيلة،
أفتقد ذلك الرجل…
