صنعاء 19C امطار خفيفة

حضرموت وواقع تقاسم النفوذ في اليمن: لماذا تبقى ترتيبات السلام أقل كلفة من ترتيبات الحرب

تشكل التطورات الأخيرة، التي بدأت بسيطرة المجلس الانتقالي على حضرموت والمهرة عسكرياً قبل ثلاثة أسابيع، وما رافقها من تصعيد غير مسبوق من مظاهرات في عدن ورفع سقف الخطاب السياسي والإعلامي ضد الحكومة الشرعية ومجلس القيادة الرئاسي، نقطة مفصلية في مسار الأزمة اليمنية. وهي تطورات لا تقتصر خطورتها على مستوى المحافظات الجنوبية فحسب، بل تمتد إلى اليمن ككل، بل وتطال بشكل أخطر التوازنات الإقليمية المنخرطة في الصراع.

لقد بات واضحاً أن سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على حضرموت بالقوة المسلحة، وبهذه السرعة، لم تكن حدثاً معزولاً، بل جاءت ضمن مسار طويل لإعادة تشكيل نفوذه خارج إطار الشرعية التي يُعدّ جزءاً منها، وبعيداً عن أي مشروع وطني جامع. كما بات واضحاً أن هذه السيطرة قد أزعجت المملكة العربية السعودية، التي رأت فيما حدث خطراً على أمنها القومي، أو على الأقل تقليصاً خطيراً لنفوذها على جارها الجغرافي اليمن، مقابل ازدياد نفوذ الإمارات، البعيدة جغرافياً والقريبة سياسياً من هذا التحول.
هذا الانزعاج انعكس في موقف السعودية الواضح الرافض لما تم توصيفه بـ"الخطوات الأحادية" التي أقدم عليها المجلس الانتقالي، وفي دعمها المباشر لمطالب رئيس مجلس القيادة الرئاسي بضرورة خروج قوات الانتقالي من حضرموت. كما ترافقت هذه المواقف مع تصعيد في الخطاب السياسي والإعلامي، ولغة تأكيد متزايدة على "أهمية وحدة اليمن وسلامة أراضيه"، وهو ما يكشف حجم القلق السعودي مما جرى، وربما حجم التنافس أو الصدام غير المعلن بين الرياض وأبو ظبي في اليمن، أو على أقل تقدير حجم التباين بينهما.
في المقابل، يواصل المجلس الانتقالي الترويج لخطاب مفاده أن استكمال السيطرة على الجنوب هو الخطوة الأولى والضرورية للتوجه نحو "تحرير صنعاء"، غير أن هذا الخطاب لا يبدو مقنعاً لكثير من الأطراف، إذ لم يعد واضحاً ما مصلحة الانتقالي فعلاً في تحرير صنعاء، أو بشكل أدق ما مصلحة الإمارات من ذلك. كما يطرح تساؤلاً مشروعاً حول ما إذا كان الانتقالي يمتلك، أصلاً، القدرة العسكرية والسياسية لمواجهة الحوثيين، بعد أن خسر معظم حلفائه الشماليين المناوئين لهم، سواء على الأرض أو في المشهد السياسي. لا يبدو هذا الخطاب، في جوهره، إلا محاولة من الانتقالي لامتصاص الغضب الشعبي والسياسي، سواء الحضرمي والوطني عموماً، أو السعودي على وجه الخصوص، مما حدث ويحدث، كما يمثل محاولة لإعادة تسويق المجلس الانتقالي بوصفه جزءاً من "المعركة الوطنية لاستعادة الدولة" تحت مظلة التحالف العربي، لا كقوة خارج إطار الدولة تفرض واقعاً جديداً بالقوة على الأرض.
إن المتابع للجغرافيا السياسية في اليمن اليوم، في حال لم يحدث تراجع عن سيطرة الانتقالي على حضرموت والمهرة، يستطيع أن يرسم ملامح خريطة تقاسم نفوذ جديدة واضحة المعالم:
يحكم الحوثيون معظم الشمال بقوة السلاح، دون اعتراف دولي، وبعلاقة استراتيجية معلنة مع إيران، وبعداء مع بقية الأطراف.
يفرض المجلس الانتقالي سيطرته على أغلب الجنوب بالقوة ذاتها، دون اعتراف دولي، وبعلاقة استراتيجية مع الإمارات، وبعداء مع بقية الأطراف.
تُدار مناطق مثل مأرب وتعز كمساحات شبه مستقلة، بغطاء سياسي وعسكري لحزب الإصلاح، وبدعم سعودي.
تُدار أجزاء من الساحل الغربي وباب المندب عسكرياً من قبل قوى محسوبة على المؤتمر الشعبي العام، بدعم إماراتي مباشر.
وفي قلب هذا التقسيم تبرز الحكومة المعترف بها دولياً أشبه ما تكون بحكومة منفى، تؤدي دور الغطاء السياسي والإجرائي لتمرير الترتيبات التقاسمية على أرض الواقع أكثر مما تمارس سلطة سيادية فعلية. وهو ما أشار إليه غير مرة ممثلو المجتمع الدولي، الذين تحدثوا دائماً عن قلقهم من "تعدد مراكز القرار" و"غياب شريك حكومي موحد قادر على تنفيذ أي اتفاق سلام".
أضف إلى ذلك أنه إذا لم يتراجع المجلس الانتقالي عن سيطرته على حضرموت والمهرة، وبالتالي على كامل جنوب اليمن، بهذا الشكل، فإنه سيكون مضطراً لحسم علاقته بالحكومة الشرعية التي استفاد سابقاً من وجوده داخلها، رغم عمله المستمر على تقويضها. كما يتطلب ذلك من الشرعية نفسها إعادة التفكير في طبيعة هذه العلاقة. فهل نشهد انسحاباً واضحاً للانتقالي من مؤسسات الشرعية، وإعلان فك الارتباط السياسي عنها كجزء من التصعيد في مسألة فك الارتباط الجغرافي؟ أم سيواصل، عبر ضغط حلفائه ومساعدتهم، استغلال موقعه داخل الشرعية بوصفه أداة مزدوجة: شريكاً شكلياً في الحكم، وخصماً فعلياً على الأرض؟
إن فشل المساعي التي تقودها السعودية ورئيس مجلس القيادة الرئاسي لدفع المجلس الانتقالي إلى الخروج من حضرموت والمهرة، والتوقف عن التصعيد، سيضع مشروع "استعادة الدولة"، الذي رفعه التحالف العربي عام 2015، أمام مأزق حقيقي، إذ سيفقد معناه العملي. فالسؤال هنا: أي دولة يُراد استعادتها؟
ومن بين كل هذا الغبار، يبرز مشروع السلام الذي ننادي به دائماً، لا كخيار سياسي بين خيارات عدة، بل كضرورة وطنية لوقف هذا النزيف. فلم تعد هناك معطيات حقيقية تؤكد إمكانية "المعركة الكبرى" التي سوّّق لها الكثيرون والتي انتهت عملياً منذ سنوات، كما تشير إلى ذلك موازين القوة على الأرض والمشاريع المتناثرة هنا وهناك. فلماذا إذن تستمر حالة الحرب في اليمن؟ ولمصلحة من؟ ولماذا يُسمح باستثمار هذه الحالة من قبل أمراء الحرب في مختلف الاتجاهات والمستويات، بينما يدفع المواطن اليمني وحده الثمن، وقد بات على حافة المجاعة والانهيار؟
إن الذين يقفون اليوم، في ظل هذه المستجدات، ضد خطاب السلام، كما وقفوا ضده بالأمس تحت ذرائع واهية، أو يعملون على تعطيله، هم بالضرورة منتفعون من استمرار الحرب بدرجة أو بأخرى. حرب انتهت على الأرض، لكنها ما تزال تُستخدم ذريعةً لمزيد من التقاسُمات والمصالح على حساب اليمن ومستقبله وشعبه المنهك. إن الترتيبات التي يمكن لجميع الأطراف التوصل إليها عبر التفاوض ضمن عملية سلام شاملة، تبقى، بالضرورة، أفضل بكثير للمواطن اليمني من تلك التي تُفرض بقوة السلاح.

الكلمات الدلالية