صنعاء 19C امطار خفيفة

إدارة الانقسام وسطوة التوازنات

في اليمن لا تدار الأزمات كي تحل بل كي تدار فقط. وهذا فارق جوهري يفهمه اللاعبون جميعاً، ويتجاهله الخطاب الرسمي ببلاغة خشبية لا تخطئها الأذن. بعد سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي على المحافظات الشرقية، اتضح أن ما جرى لم يكن تمرداً بل تمريناً عملياً على سؤال قديم يتجدد عن من يحكم الجنوب حين تغيب الدولة ولا تموت الشرعية؟

في هذا المشهد، بدت الشرعية كمن استيقظ ليجد البيت قد تغير مكانه. لا صراخ ولا مفاجأة حقيقية، فقط دهشة مصطنعة وبيانات تُكتب بلهجة من يعرف أنه يحتج على حدث انتهى. فالشرعية منذ سنوات لم تعد سلطة تتحرك بل سردية تتحرك عنها الأشياء. تُصدر المواقف كما تُصدر نشرات الطقس. توصيف للحالة بلا قدرة على تغييرها.
أما التحالف فقد تعامل مع الحدث بذات الفلسفة التي حكمت تعاطيه مع اليمن منذ البداية: لا مانع من التغيير طالما لا يخل بالتوازن. هنا يبرز موقف السعودية بوصفه سياسة قائمة بذاتها. الرياض لم تُفاجأ بما جرى، لأنها تعرف أن الجنوب يتحرك منذ سنوات خارج خرائط البيانات الرسمية، لكنها في الوقت نفسه لا تريد جنوباً منفصلًا يربك معركتها الكبرى في الشمال، ولا شرعية منهارة بالكامل تُسقط الغطاء القانوني للحرب. فاختارت خيارها الأثير، إدارة التناقض عبر بيانات باردة وكلمات محسوبة وغضب مؤجل لا مواجهة مباشرة مع الانتقالي، ولا شيك على بياض للشرعية. في الحسابات السعودية الاستقرار ولو كان هشاً أهم من استعادة دولة على الورق، ولذلك بدت كمن يطفئ الحريق دون أن ينهي أسبابه، مكتفياً بمنع تمدده.
في الجهة الأخرى، بدا موقف الإمارات أكثر وضوحاً وأقل التباساً. أبوظبي لا تخفي انحيازها لنموذج "المناطق المنضبطة" على حساب الدولة الثقيلة العاجزة. ما جرى في الشرق ليس خروجاً عن سياستها، بل امتداداً لها. دعم قوى محلية قادرة على الضبط والتأمين، حتى لو كان الثمن تفكيك الفكرة الوطنية إلى جزر مستقرة بلا سياسة. الإمارات لا تراهن على وحدة اليمن بل على قابليته للإدارة. ولا ترى في الانتقالي مغامرة بل أداة يمكن استخدامها وضبطها وتحديد سقفها. هي سياسة لا تُنكر الانقسام بل تستثمر فيه، وتعتبره أقل كلفة من دولة فاشلة كثيرة الشعارات.
وبين الرياض التي تمسك العصا من المنتصف كي لا تقع، وأبوظبي التي تمسك الخريطة من أطرافها، وجدت الشرعية نفسها خارج اللحظة. لا تملك قرار الحرب ولا ورقة السلام، ولا حتى حق الاعتراض الجدي. الخيار العسكري ظل نكتة ثقيلة الدم، والتفاوض صار فنًاً لتقنين الخسارة، والقبول بالأمر الواقع جرى بلا إعلان، لأن السياسة اليمنية لا تحب الوضوح.
أما تدويل القضية، فظل ملاذاً أخيراً لمن يشتكي من واقع شارك في صناعته. العالم يسمع ويسجل ثم يعود إلى ترتيب أولوياته، حيث لا مكان لليمن إلا بوصفه "ملفاً معقداً". في العمق، ما جرى في الشرق ليس انفصالاً مكتمل الأركان، ولا انتصاراً سياسياً نهائياً، بل خطوة إضافية في تفكيك المعنى. الجنوب لا يستعيد دولته، والشمال لا يستعيد وحدته، والشرعية لا تستعيد سلطتها. الجميع يستعيد فقط حقه في إدارة جزء من الخراب.
وهكذا نمضي إلى الأمام ونحن نعود إلى الخلف بمهارة. لا حرب فاصلة ولا سلام شجاع. فقط إدارة طويلة للأزمة بأسماء جديدة ووجوه قديمة. اليمن لا يُقسم بقرار، بل بالتراكم. وكلما بلغنا لحظة البحث عن الخيارات، تكشّف المشهد على حقيقته العارية. لا مسارات مفتوحة ولا قرارات حاسمة، بل مجموعة احتمالات مؤجلة تُدار بالحد الأدنى من الفعل والحد الأقصى من الانتظار.

الكلمات الدلالية