وما نيل المطالب…
«وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي»، ومقطع آخر يؤكد:
«وما استعصى على القومِ منالُ».
مقطعان قائلهما هو شاعر النيل المفوّه، لا فُضَّ فاه…
«النهر الخالد»، «القاموس الجامع»،
«أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامن»…
أحمد شوقي، شاعر مصر… أم الدنيا.
إن كانت الدنيا تُؤخذ غِلابًا، فما عسانا نحن، بسطاء الناس، فاعلون؟
استوقفتني لحظة تفكير قاتلة بعد التمعّن بمعنى النص العميق، وتساءلتُ مع نفسي:
ولِمَ البقاء في هكذا حياة عنوانها القوة الغاشمة، التي تُحدث الفعل الغشيم المتسلّح بالقوة الغاشمة؛ انتزاع الحق ظلمًا أو بهتانًا؟
ومن لا يملك أيَّهما، فعليه الرحيل من عالم الأقوياء…
عالمٌ تظلّلهم قوة مليشيات جرّارة غاشمة، ومالٌ لا ينضب، ونهب موارد تتزايد، واستعراض عضلات مختلفة الأشكال، أنواعًا وأحجامًا، وتأثير سلاح فتاك، ومؤامرات تشارك بها قوى إقليمية ودولية: تمويلًا، تسليحًا، توجيهًا.
وتبدأ معها لعبة اغتيالات سياسية، واستقطابات لانتماءات تعيد العبث بالمكوّن الوطني؛ تتغيّر معها الصورة، فلا مكانة للإنسان إلا إذا ذاب فيها وتحول إلى جزيء ضئيل يتحرّك فاقد الإرادة ضمن فيلق القطيع.
كلّ ذلك دار بمخيلتي وأنا أنظر إلى السماء، متعجبًا عجب العاجز عن الطيران تشبّهًا بذاك الطائر المرفرف في السماء، لا قيد عليه من تشكيلات القيود التي تكبّل حرية الإنسان الفاقد حرية الحركة وحق الاختيار.
فكّرتُ مليًا… يا لها من رائعة حياة الطائر!
العصفور الذي يرفرف متى شاء، كيفما يشاء، يطير متى وأينما يشاء.
وإن هبّت عواصف ورعود وأمطار، لديه الحاسّة السادسة وما فوقها؛ يتوارى، يعرف أين الملجأ الحصين.
يا له عالم بديع… عالم العصافير.
الطيور… نعم، توجد أنواع من جوارح الطيور والنسور، يشبهون شيوخ القبائل وأمراء الجهاد؛ يخوضون صراعات على الغنيمة، وإن انتهت معارك الاستحواذ عادت السماء صافية، واسعة، تستوعب الجميع ضمن حلف سماوي مقدّس لا ينتهكه متغطرس، لا بقوة المال أو الجاه، ولا بقوة القبيلة، ولا بشرف الانتساب لمولاه الحسين (كرم الله وجهه)، ناهيك عمّن يقول إنه وكيل الله في الأرض.
عالم فريد… عالم العصافير.
أنقياء لا يكذبون ولا يدّعون، يسرحون ويمرحون سواسية في فضاء واسع؛ لا نقاط ولا حدود، ولا تطاردهم قوات ابتزاز، ولا تعتقلهم أو تبتزهم عند أطراف الحدود ببركات قوانين الجمارك وألاعيب قوى الفساد والهيمنة.
أسئلة الموت القاتل البطيء تبدأ بـ:
– من أين أنت؟
– من أين أتيت؟
– إلى أين أنت ذاهب؟
وأسئلة أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
بينما عالم الطيور في السماء، ضمن طبقاتها المتعددة، لا حواجز تحول دون التنقل؛ لا جمارك، لا جبايات، لا اعتقالات تعسفية.
وما يعكّر صفو السماوات العُلى هو ما يمارسه الإنسان بجرائمه وصراعاته وتسابق طائراته الحربية والمدنية التي تلوّث السماء وتلحق الأذى بعالم الطيور البريء، براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
وأجمل ما في حياة الطيور حرية الحركة والقدرة على تدبير سبل العيش الكريم، بعيدًا عن التنافس القاتل وبث السموم وإلحاق الأذى العمدي.
في سماء عالم الطيور، كلّهم سواسية في سماء الله، يسرحون ويمرحون.
وإن بينهم عقابًا أو صقرًا يدّعي البطولة والرجولة، أو تنحنح نسرٌ يتطاول، فسطوته لا تدوم؛ فليس لديه عسس، ولا ثُلّة مجرمين، ولا أجهزة دولة مخابرات تفبرك، ولا شكاوى كيدية من ذوي النفوس الحاقدة.
يا له عالم الطيور، خالٍ من أوهام القوة والعظمة والبسط الرخيص على حقوق الآخرين.
بعدما أعيانا عالم البشر داخل ما تعارفنا على تسميته بالوطن، أوصلتنا بوصلة الحياة إلى أرض تسودها الحروب، تُراق فيها الدماء، ويسوسها البلاطجة فاقدو الإحساس بقيمة الإنسان وفضاء العيش المشترك.
عاد عالم اليوم إلى مفهوم غابات الأمس، مسكن الإنسان الأول… وحشًا من الوحوش.
لذا، قد آن لنا مغادرة عالمٍ قانونه: «تُؤخذ الدنيا غِلابًا»، إلى فضاء يعود فيه الإنسان طائرًا وديعًا، لا إنسانًا يدمّر حياته إما بأسلحة الدمار الشامل، أو بالمؤامرات، أو بالوشايات الكاذبة، أو عبر الأنساب القاتلة للمواطنة المتساوية، أو بالاتهامات الخالية من الدقة والحقيقة.
ما أجمل أن تسير حياة الإنسان وتطير في عالم يشابه عالم الطيور والعصافير، في سماوات عالية؛ لا سيف مسلط على الرقاب، ولا من يدّعي النسب الرفيع، ولا زعيم يتربّع على فراش وثير ترعاه قوى من خارج البلد المطحون، ولا منافق ينافق هذا وذاك.
عنوانها الفرز: الجاه قوة، والمال، وذبذبات رادارات المموّل من خارج الديار، ممّن يرغبون بإعادة هندسة ترسيم خرائط بلداننا استلهامًا لتراث سايكس ـ بيكو اللعين، وما استُجد بكتاب «التلمود الأمريكي الجديد».
والله المستعان على من يشاركون بهذه الزفّة، والإجابة مؤجّلة حتى يتبيّن الخيط الأسود من الخيط الأسود بين المحمدين، ومربط الفرس يشدّه ويرخيه سايس الخيل في البيت الأبيض اللعين، ومن يعلف الخيل بتل أبيب.
عفوكم، القرّاء الأعزاء، إن طال الحديث…
أخوكم،
باشد… حالات الأسى والضيق.
خاطبني طائر طليق يحلّق في سماه فرحًا دون قيود ودون حدود، يردّد معزوفة تقول:
ستظل سماؤنا واحدة موحّدة، نتحرّك ونطير فيها كما نشاء دون عوائق أو حدود أو قيود.
أمّا أنتم، أيها البشر، فنصيحتنا لكم:
لن تنفعكم أي قيود أو حواجز تمنع حركة الإنسان حرًّا على أرضه؛ ستزول قيودكم، وستنتصر إرادة الناس، لأنها الأقوى.
هكذا يخبرنا التاريخ، وهو خير وأقوى رفيق ودليل.