من اليمن إلى الخليج وأفريقيا
نزار غانم يشرح جذور الأغنية وتحوّلات المشهد الثقافي
في الحلقة الثانية من «حكاتي» مع الدكتور نزار غانم، تخرج الأسئلة من إطار السيرة الشخصية إلى فضاءٍ أوسع: كيف تفاعل الفن مع تحولات الدولة اليمنية منذ بدايات التشكل السياسي في الشطرين، مروراً بمحطات الوحدة، وحرب 1994، وصولًا إلى 2022 وما تركته الحرب من أثرٍ على المسرح والفرق الموسيقية ومنظمات المجتمع المدني.
تدير الزميلة رحمة حجيرة هذا الجزء من الحوار بوصفه قراءة ثقافية في تاريخٍ مضطرب، تُستعاد فيه الذاكرة العائلية باعتبارها وثيقة: بيت محمد عبده غانم، وإرث آل لقمان، وعلاقة الصحافة العدنية بحركة الأحرار، وكيف تحوّلت «فتاة الجزيرة» إلى منصة احتضنت فكرة اليمن الكبير قبل اكتمال خرائطه السياسية.
ومن هذا المدخل، يتسع النقاش ليضع الثقافة في قلب السياسة لا على هامشها، ويتم الحديث عن المؤسسات، الإذاعة، اتحاد الأدباء، المسرح، ونماذج الدولة في دعم الفنون أو تطويقها. كما يتوقف الحوار عند مشروع نزار غانم البحثي الذي ربط اليمن بعمق محيطه الخليجي والأفريقي، قبل أن يعود إلى سؤال اليوم: ما الذي يمكن أن يفعله الفنّ - قصيدةً ولحنًا ومسرحًا - في صناعة السلام، وتخفيف الاحتقان، وإعادة ترميم معنى العيش المشترك؟
"النداء" تنشر النص الكامل لهذا الحوار بالتزامن مع عرضه المصوّر على قناة "حكايتي"، ضمن اتفاق تعاون إعلامي مشترك.

رحمة: مساء الخير. هذا المساء نفتح دفتر الفن صفحةً صفحة، من عام 1962 في شمال اليمن وعام 1964 في جنوب اليمن، ونفتح وثائق الوحدة اليمنية، وتحولات 1994، وهدنة 2022، وأثرها على النشاط الثقافي ومنظمة المجتمع المدني. ما الذي تحوّل؟ وهل كان إيجابياً أم سلبياً؟ كم عدد المسارح والفرق الموسيقية التي توقفت عن العمل والأنشطة؟ وكم عدد الأنشطة التي استأنفت من جديد، وغنّت للسلام، ودعت للحياة في ظل الحرب؟
مساء الخير دكتور نزار، في الحلقة الثانية، ودعنا نبدأ بموروث عائلتك حول الوحدة اليمنية: خالك المحامي المستنير، ووالدك، ووالدتك. ماذا كان موقفهم من الوحدة؟ وماذا كتبوا؟ وماذا غنّوا عنها؟
نزار غانم: طبعاً، القراءة يجب أن تبدأ بالمراحل التي تنقّل فيها الشخص. إن كان كمحمد عبده غانم كشاعر، نجد أنه برزت قصائده من الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وكان فيها نفس قومي عروبي، بما فيها قصيدة اسمها «معشوقة الملايين»، وهو يقصد بها الوحدة العربية. لماذا؟ لأن الخريطة الحالية للمنطقة تشكّلت بشكلها القطري بعد رحيل العثمانيين وخروج الاستعمار والاتفاقيات، وظل هناك حلم عند كثير من المستنيرين .

رحمة: وماذا كتب الوالد، أو كان ينتج فيما يتعلق بالوحدة، أو يحلم؟
نزار غانم: هناك قصيدة له كاملة حول هذا الموضوع، اسمها «معشوقة الملايين»، وكان النفس موجود. وهو عندما كان في التربية والتعليم في عدن لعب دوراً كبيراً في تعليم المناهج، والوضع الذي كان في شمال اليمن لا يشجّع أي شخص أن يتوحد أو يذوب فيه بسبب الإمامة، وبالذات أيام حكم يحيى وأحمد. ولكن كان هناك بناء كتربة تربوي على التشبّع بالقيم القطرية مع البعد الإنساني العام. ولذلك هو بدأ يؤلف كتباً مدرسية تحل محل الكتب التي قد تكون مستوردة من مكان آخر أو ليست موجودة بالأساس على الجغرافية الخاصة بالمنطقة. ثم بدأت قصائده تأخذ استدعاءً للأبطال اليمنيين، مثل قصة الأمواج، ثم مسرحية سيف بن ذي يزن، وهذه مسرحية شعرية. وهذا التراكم كله كان يدل على أنه يحتفي بهذا الإرث ويمارس دوره كمثقف وشاعر ملتزم بأهداف الأمة.
رحمة: طبيعي أن يكون ذلك، لأنه من تعز، وأنتم أساساً من القريشة.
نزار غانم: نعم، ولدي صورة لوالدي وهو على ظهر حصان في القريشة في الثلاثينيات أو الأربعينيات بعد أن عاد من بيروت. وحتى بالإمارة كان يرتدي طربوش، لأنه في تلك الأيام كانوا يرتدون طرابيش. وبالطبع ثورة يوليو في مصر هي التي أطاحت بهذه الألقاب: بك وباشا وبيه، وأطاحت أيضاً بالطرابيش.

رحمة: ووالدتك دبعية، أليس كذلك؟
نزار غانم: نعم، هي في الأصل كذلك من ناحية والدتها، وهمدانية من جهة الأب.
رحمة: وماذا كانت تحكي لك والدتك عن الوحدة عندما كنت طفلاً؟
نزار غانم: هي المسألة عندها تلقائية، لأنها جاءت من المرحلة التي لم يكن فيها هذه القطرية المقيتة جداً الموجودة حالياً. ولكن عندما بزغت أنوار الاستنارة في شمال اليمن كان شيئاً طبيعياً أن حلفاء هذه الاستنارة في الجنوب، ومن ضمنهم محمد علي لقمان، أن يحتضنوا هذه الحركة. وهناك كتاب للمؤرخ سلطان ناجي حول دور «فتاة الجزيرة» في حركة ثورة 48 في صنعاء. لماذا؟ لأنه بنفسه كصحفي ذهب بالطائرة إلى صنعاء، وحضر فترة الثورة التي استمرت شهراً ونصف قبل ان تنتكس، وكان يراسل، ولكن قبل ذلك عندما نزل مطيع دماج.

رحمة: هل كان شيخ مشايخ بكيل؟
نزار غانم: هو من بكيل في الأصل، ولكنه كان من خط الأحرار الذي فيه الزبيري، والنعمان، والشامي، وزيد الموشكي والفضول. وكل هؤلاء عندما نزلوا إلى عدن، وهم كانوا من مناطق مختلفة من اليمن، لكنهم كانوا بحاجة إلى الدعم الإعلامي، وحتى بعض الأشياء مثل السكن وغيره. وهذا لعب دوراً فيه جدي محمد علي لقمان.

رحمة: هل يعني أن جدك محمد علي لقمان استضافهم؟
نزار غانم: نعم، في البداية.
رحمة: هل كان لديكم بيت كبير؟
نزار غانم: هو كان لديه أكثر من منزل، وتحديداً في حافة الحسين، الذي نزل فيه مطيع دماج. ويمكن أن تقولي إنه وفر لهم مكان الإقامة، ولكن هم كان لهم خطهم الخاص وقضيتهم الخاصة.
رحمة: وهم كانوا ينشرون عندكم في «فتاة الجزيرة»؟
نزار غانم: «فتاة الجزيرة»، ثم «صوت اليمن»، و«الفضول» لعبدالله عبد الوهاب نعمان.
رحمة: أنت تحدثت أن لكل واحد فيهم خطاً، فما هو خطهم؟
نزار غانم: حركة الأحرار اليمنيين التي أخذت أسماء أخرى فيما بعد. لماذا؟ لأن عدن كان فيها حرية نسبية كمستعمرة، على عكس المحميات الأخرى. فهم أطلقوا على اسمهم حزب الأحرار اليمني، فقامت السلطة البريطانية واعترضت، وقالت: نحن لدينا تعاونيات وجمعيات، ولكن ليس لدينا أحزاب سياسية. ولأن محمد علي لقمان كان محامياً وقريباً جداً منهم، كيَّف الموضوع وقال: سموها «الجمعية اليمانية الكبرى». وفي إحدى المرات أخذت اسم الاتحاد اليمني الموجود في القاهرة. والمهم أن لا يكون حزباً، وبهذه الطريقة صار لديهم الرخصة التي ينشطون من خلالها. لذلك بدأ الإمام أحمد، وكان يقيم في تعز في تلك الفترة، يشعر بالقلق من هذا النشاط، لأنهم جمعوا تبرعات، وبدأت شخصيات عظيمة في المهجر، مثل ناشر في الحبشة، والحروي، والشرفي في السودان، وآخرين في مومباسا. هؤلاء المهاجرين، الذين هم في الأساس من أصول شمالية، قدموا دعماً مادياً لحركة الزبيري والنعمان والأحرار.

طبعاً حصلت مشكلة أخرى، أنه عندما جاء عبدالله علي الحكيمي من كارديف، وكان لديه جريدة اسمها «السلام»، وهي جريدة معروفة وشقيقة لجريدة «صوت اليمن»، عندما جاء إلى عدن، كان السفر عبر الباخرة، حصلت إشكالية أن أحد الأشخاص تقريباً دسّ مسدساً له خلال نزوله. فالشرطة تحفظت عليه وقالوا إن هذا يحمل سلاحاً في مكان ممنوع، وأنا هنا أتحدث عن المستعمرة في عدن وليس المحميات. وحصلت مشكلة، وكانوا سيقومون بترحيله. وهنا تدخل محمد علي لقمان كمحامٍ، ووضّح الملابسات التي تمت في الموضوع. ولكن المحكمة، لأنها تحت الاستعمار البريطاني، يجب أن تُعقد في شرق أفريقيا. ونحن كان بيننا وبين شرق أفريقيا أشياء مشتركة، مثل العملة والكوفية الزنجباري، أشياء كثيرة، لأنها كانت مستعمرة. وجدي سافر إلى شرق أفريقيا، وأوقف المحكمة هناك، وبرّأ ساحة عبدالله علي الحكيمي. حينها استطاع أن يستمر، وجريدة «السلام» تستمر. وحتى والدي لديه الكثير من الصور معه في كارديف في بريطانيا.

رحمة: هذا يعني أن النضال كان واحداً من أجل ثورة 26 سبتمبر وثورة14 أكتوبر، وكانت القضية واحدة.
نزار غانم: بكل تأكيد، كما أن الوعي الذي وُجد جعل المسألة تخضع لأولويات. حتى أولئك الذين كانوا يعتقدون أن بعض الناس ليسوا مؤمنين أو لم يعملوا الوحدة اليمنية كأولوية، هم كانوا قد وصلوا إلى البعد الأكبر، وهي الوحدة العربية، فيقولوا: هذا تحصيل حاصل. لكن كيف يتغير النظام السياسي الذي يسمح بالنهضة؟ لأن الوحدة بدون الحرية والنهضة تفقد قيمتها.
رحمة: بكل تأكيد. بعد ذلك جاءت 1990، كيف تلقيت الخبر، وبكل صراحة؟
نزار غانم: أنا أعتقد أن هذا كان يوماً فاصلاً جداً جداً في حياتي. وأتذكر في ذلك اليوم لم أكن مصدق الموضوع. لماذا؟ لأننا في سنة 1989، بعد أن تركت الجيش وكنت في السلاح الطبي في صنعاء، نزلت إلى عدن، وكانت هذه أول زيارة لعدن منذ خروجي في عام 1972. وكنت أجمع مادة لكتاب كنت أقوم بتأليفه في تلك الفترة، وهذه المضان والمرتادات كانت موجودة في المكاتب في الجنوب عند أشخاص. وذهبت أيضاً إلى حضرموت لكي آخذ بعض المواد المهمة، ثم عدت إلى صنعاء في يوليو 1989. وأهم تغيير حصل في آخر عام 1989 هو القصة المعروفة بين علي وعلي، والتي أدت إلى القرار بأن الوحدة تتم بأسرع وقت، وتمت بعدها بأشهر في مايو 1990. ولكن بالعودة إلى كلامك...

رحمة (مقاطعة): ولكن كانت الوحدة قد مرت بحوارات. هل نسيت اتفاق القاهرة وطرابلس والجزائر؟ هل نسيت زيارة الوفد الجنوبي والشمالي؟ وعملوا وزيراً للوحدة، رشاد ثابت، وهناك العرشي. كان هناك تحضير طويل الأمد ومناشدة في الشمال والجنوب. قل لي كيف تلقيت أنت تحديداً الخبر؟
نزار غانم: الإرادة السياسية كان ينقصها مثل هذا الشيء، ولكن الجهود وصلت إلى درجة أنه كان هناك وزير شؤون الوحدة في الشمال والجنوب، ومسودّة للدستور، وشخصية مثل عمر الجاوي، واتحاد الأدباء وعمالقته، وحدوا الحركة الأدبية اساساً ولم ينتظروا حتى مسألة الوحدة في 1990.
رحمة: حتى في الرياضة.
نزار غانم: وفي النقل كان هناك شركة للنقل، ولعل الأستاذ يحيى العرشي يكون ذكر هذا الشيء؛ لأن هذا الرجل أنا أنظر له كصندوق لأخبار السياسة والوحدة في اليمن.

نأتي الآن إلى كيف استقبلت موضوع الوحدة. في الحقيقة لم يكن بيدي شيء سوى أني ركبت السيارة من سكني في الجامعة أمام كلية الهندسة إلى التحرير. وكان هناك كشك في جمال جميل يقوم ببيع الجرائد، فقمت بشراء بعض الجرائد الموجودة. ومرات كثيرة، كما قلت لك، أحب أن أكافئ نفسي. وأتذكر أني تغديت خارج البيت مخبازة، فهي تعجبني لأن عملها في البيت صعب.
رحمة: هل كنت لوحدك ؟
نزار غانم: كانت معي عمتي، أخت والدي، وهي أيضاً كانت صديقة بالنسبة لي.
رحمة: كيف أثرت الوحدة اليمنية على أحلامك وطموحك، سواء في الجانب الطبي أو جانب الشعر أو الموسيقى؟
نزار غانم: هي أزالت الحرج الذي كان موجوداً. نحن كجنوبيين في الشمال، الذي قبلنا أو بعدنا، ظل هناك بعض المحاذير. وكما تعلمين، هامش الأنظمة السياسية الذي تُراعيه في الاتجاهين. لكن أريد أن أقول شيئاً للتاريخ ربما لم أقله في مكان آخر، وهو أن الكتل السياسية التي كانت موجودة في الجنوب عندما حصل الاستقلال في 1960، انظري إلى أين ذهبت. وهذا السؤال مهم، لأنها استجارت بالناس الذين هم أقرب ناس لهم. فمثلاً، السلاطين والمشايخ الذين كانوا موجودين، والـ23 إمارة، أكثرهم أقاموا في السعودية واحتضنتهم المملكة، ولكن أيضاً مارست عليهم رقابة على الدور السياسي، وأصدروا تقريباً جريدة هناك، أتذكر أني رأيتها هناك، ومحمد حسن عوبلي. الجماعة الثانية هي جبهة التحرير، وهؤلاء كان انتقالهم مباشرة إلى القاهرة. هناك كان عبدالله الأصنج، محمد سالم باسندوة، محمد سالم علي عبده، ناصر عُرجي. كل هذه الشخصيات، من بينهم عسكريون، وكانت جبهة التحرير قريبة جداً وتنسق مع الأمن المصري. وجميعهم في الحقيقة استقروا في هذه المنطقة، وبعضهم ذهب إلى الشمال باتفاقيات بعد حكم السلال، وحتى تقلدوا مناصب وزارية مثل باسندوة والأصنج. ولكنهم خرجوا من عدن، وأصبحت العودة إليها بالنسبة لهم مستحيلة.

رحمة: يعني أن الحراك السياسي كله كان مشتركاً، سواء في الشمال أو في الجنوب.
نزار غانم: هو توزّع ولاءات بشكل مدروس، ولكن السؤال: أين ذهب آل لقمان، الذين كان عندهم ما يُعرف بالجمعية العدنية وهذه الصحف؟
طبعاً، هم لم يذهبوا إلى السعودية أو بريطانيا، ولم يأتوا إلى مصر، ولكنهم ذهبوا إلى الشمال. وأصبح علي لقمان ينشر قصائده في جريدة «الجمهورية» في تعز، واختار اسماً مستعاراً كان اسمه «نزيل عُصيفرة»، لأنه سكن في عُصيفرة بتعز. وأنا ذهبت وزرته. وأيضاً شوقي لقمان، وإبراهيم لقمان، وعلي لقمان كانوا في تعز، وتوفوا هناك ودُفنوا هناك. أيضاً عبد الرحيم لقمان في الحديدة، وكذلك المؤرخ جدي حمزة علي لقمان.

رحمة (مقاطعة): حمزة الذي قاد نهضة في شمال اليمن.
نزار غانم (متابع): ومنيرة لقمان مع زوجها ذهبوا إلى صنعاء. إذاً، لو كان الوعي الوحدوي غير موجود لكان آخر احتمال أن هؤلاء الناس يأتون إلى هنا، لأنهم أتوا كجماعة.
رحمة: هذا يعني شعباً واحداً، نفس الثقافة والفكر والرؤية.
نزار غانم: وحتى الذين كانوا يوصموا، ربما لأنهم كانوا متحفظين في الانتقال المباشر إلى مرحلة الوحدة اليمنية نتيجة وجود النظام الإمامي، وليس بعد ذلك. أما الجمهورية فهم أنصارها. وشهادات السلال عن لقمان، وصوره التي نشرها الأستاذ محمد عبدالله الفسيل، تدل على هذا الترابط الذي تحدثتِ عنه.
رحمة: هذا يعني أن هناك كان ترابطاً كبيراً، وهو الذي خلق وأسس للوحدة، وفي الأساس الوحدة موجودة من قبل. الآن دعنا ننتقل إلى مؤلفات الدكتور نزار غانم. في عام 1987 نشرت «جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج» في دمشق. فما هي الفرضية المركزية التي أثبتها بالأمثلة؟
نزار غانم: الفرضية الأساسية في هذا الكتاب الذي صدر هي أن الفن والفنون الأدائية، حتى الرقص وغيره والعزف في الجزيرة العربية، فيها مراكز ثقل. هذه المراكز لم تأتِ مصادفة، ولكن نتيجة المكان الذي أتاح فرصة لها. طبعاً، المركزية الأولى كانت عدن، ليس لأبناء عدن نفسها. الفنانون الصنعانيون أتوا من الشمال وسجلوا أسطوانات في عدن. محمد جمعة خان لم يستطع التسجيل إلا في عدن. ما يُسمّى بالصناعات الثقافية هذه بدأت تتبلور هناك، ثم جاءت الإذاعة وأعطت دفعة كبيرة جداً. فكان الفنانون من الكويت، مثل عبداللطيف الكويتي، يأتي إلى عدن ويسجل في الإذاعة. هذا كله ثابت. أيضاً من عُمان، سهل مراشد الصوري لم يكن في المناطق هذه، قبل طفرة البترول، صناعات ثقافية، ولكن كان هناك فن. لماذا؟ لأنك عندما تعمل لا بد أن يكون عندك ما يرفّه عنك. فمثلاً الصفقة التي نراها عند الكويتيين وكذلك الحضارمة هي فن بحد ذاته، يُسمّى الإيقاع الزخرفي. لماذا؟ لأنهم كانوا أهل بحر، ولم يكن لديهم غير صيد اللؤلؤ والتجارة بالمراكب الشراعية القديمة، ويستفيدون مما يُسمّى برياح "المونسون" التي تهب في فترة ثم تهب في الاتجاه الآخر، ويكون وكأنك تقود سيارة ولكنها تسير بنفسها.

رحمة: هذا يعني أن الجغرافيا تنعكس بشكل أو بأخر على الأداء الموسيقي. لدينا سؤال حول هذه النقطة، هناك من يقول بأنه لا يوجد فن خليجي، بل فن يمني، وهو الذي انعكس على دول الخليج بأكملها. دعني أسألك حول هذه النقطة: إذا عدنا إلى الستينيات وقسّمنا الفن الغنائي في دول الخليج واليمن، من الذي كان الأبرز في هذه الدول؟ أم أن اللون الغنائي اليمني هو الذي انعكس على دول الخليج؟
نزار غانم: لا، كل إنسان، حتى لو جئتِ إلى الناس في الأدغال، ستجدين أنهم يغنون. الغناء هو جزء من إيناس النفس في وحشة الحياة عبر المراحل. لكن الفنون التي كانت موجودة في الخليج، باستثناء الصوت، أكثرها فنون شعبية لها علاقة بدورة الحياة، مثلاً للختان أو للزواج، عندما يغنين النساء بالطبل، اشياء خفيفة. والشعراء الذين يكتبون القصيدة التي ستُغنى كانوا قلة قليلة جداً، وأهمهم عبدالله الفرج، الذي عاش مع اليمنيين في مومباي واستوحى منهم طريقة الشعر الحميني. وهذا يُعتبر الكبير الذي يسمونه أبو الأصوات. تطور فن معين ما بين مومباي والكويت والبحرين وحضرموت وعدن يُسمّى الصوت. هذا 70% من نصوصه ليحيى عمر وحمينية، وهكذا. وتقريباً 30% أو 25% الباقية هي من القصائد العربية الفصحى القديمة، بعضها للمتنبي وأحمد شوقي والبهاء زهير، وربما أشياء قليلة جداً لعبدالله الفرج وشاعر آخر اسمه العقيلي. وإثباتاً للحقيقة، أنا درست هذا الموضوع بعمق، وأنا بإحساسي القومي لا أدخل في هذه المفاضلات.

رحمة: ولكن أنت هنا وكأنك تؤكد أن اليمن ضمت النسبة الأكبر من القصائد الشعرية وأنواع الموسيقى والألحان والإيقاع. بعد اليمن، من من الدول الست نستطيع أن نرتبها تدريجياً وبإنصاف؟
نزار غانم: مكة والمدينة. لماذا؟ لأنه كان قد تراكم أسلوب في القراءات منذ آلاف السنين، بحيث صار لديهم أنه يمكن أن يغنوا النص بمعنى صوفي. تكون لديهم شيء اسمه المجس، وهو الإلقاء الحر. وحتى أنا أتذكر في صنعاء الفنان الحجازي المشهور محمد أمان، رحمه الله، جاء إلى منزلي، وكان لديهم آلة يطرق عليها، وهي أشبه ما تكون بآلة القانون متعددة الأوتار. وفي العراق أيضاً هناك شيء شبيه لها.

رحمة: هل كان لهذه الآلة اسم معين تتذكره؟
نزار غانم: أنا أتذكر اسم الفن أو الطقس نفسه، وكان يُطلق عليه «المجس». وهذا المجس نفسه لا يستغني عن كثير من النصوص اليمنية، والقصائد الأخرى ليست لشعراء سعوديين، لأنه لم تكن موجودة الهوية السعودية في تلك الفترة. هؤلاء كانوا يذهبون أينما وجد النص الجميل واللحن الجميل. وإذا كان الإنسان موهوباً فهو أيضاً ينفخ فيه من روحه. مثلاً، في مكة والمدينة هناك شيء آخر اسمه الدانات. وأيضاً في المنطقة القريبة لها، ولأن الطائف مدينة وقد تغنى بها أبوبكر، لديهم رقصة معينة. وأتذكر عندما جلست مع طارق عبدالحكيم في منزله في جدة، أراني بعض هذه الأشياء، وهي أشياء ليست بدوية ففي الصحراء لديهم السامري والخمَّاري وغيره. بعد ذلك تأتي إلى البحرين، وكان فيها استقرار نوعاً ما، وظهرت فيها جريدة في وقت سبقت كل المناطق الأخرى، وكان اسمها «صوت البحرين». ومقدمة ديوان والدي «موج وصخر»، الذي صدر في عدن في عام 1946، كتبها شاعر بحريني معروف وعروبي اسمه إبراهيم العريض. إذاً كان هناك وشائج.

رحمة: البحرين كانت توجد فيها نهضة فيما يتعلق بالإعلام أو الموسيقى.
نزار غانم: بكل تأكيد، كانت هناك مناطق إشعاع في المنطقة، والبحرين هي حضارة قديمة، "دلمون"، ولكن البريطانيين اهتموا بها في بداية القرن الماضي، وبالتالي سرعان ما بدأت فيها المدارس، وحتى مستشفيات تبشيرية، والصحافة.
رحمة: وفيما يتعلق بالموسيقى؟ ما هو اللون الذي كان يميزهم، وما اسمه؟
نزار غانم: البحرين بدأت تأخذ شخصيتها الموسيقية الخاصة على يد فنانين معينين، من بينهم واحد من أفراد الأسرة الحاكمة، وهو محمد بن فارس آل خليفة. فهذا كان له تلميذ اسمه ضاحي بن وليد، وآخر تلميذ لهم محمد زويّد. هؤلاء وجدوا أنهم يستطيعوا أن يسجلوا ألحانهم في بغداد، وبغداد لم تكن بعيدة من هناك. لماذا؟ لأنه لم يكن هناك شركات أسطوانات في البحرين نفسها ولا في الكويت. كل هذه التسجيلات، رغم أنها تعكس نغمة ما يُسمّى بالصوت البحريني أو الصوت الكويتي.

رحمة (مقاطعة): ما هو الصوت البحريني؟ ما هي ملامحه؟
نزار غانم: هو عبارة عن قالب معيّن.
رحمة: ما الذي يميز هذا القالب؟
نزار غانم: مثلاً، حتى نعرف أن هذا الغناء الذي يؤديه الفنان صنعاني، سنجد أن هناك أشياء معيّنة. النص قد يُغنّى بلحن آخر وإيقاع آخر، وبالتالي تحصل لخبطة.
رحمة: ولكن ما الذي يميز اللحن البحريني؟
نزار غانم: هم يبدأون بشيء اسمه صوت استماع، مثل الموال، بدون موسيقى، ثم يدخل في غناء الصوت، ويجب أن يرافقه آلة العود. وآلة العود ليست موجودة في الفنون الشعبية في البحرين والكويت وغيرها، هو قرين بالصوت. ويجب أن يكون الصوت نصّاً فخماً، وتلحينه يجب أن يحمل نفس الكلاسيكية العربية التي تجدها. ثم يجب أن يكون في قفلة، وهم يسمونها توشيح، وهذا التوشيح، النص التابع له، يجب أن يكون من قصيدة مغايرة، وليس من نفس النص الذي بدأ فيه.
رحمة: هل هذا موجود في البحرين فقط؟
نزار غانم: أيضاً موجود في الكويت، ويسمّوه قالب الصوت.
رحمة: ومن بعد البحرين؟
نزار غانم: بعد البحرين الكويت، ولقد كان لها حضور...
رحمة (مقاطعة): إذا قسمناهم كالتالي: اليمن أولاً، ثم مكة والمدينة، وبعدها البحرين، ثم الكويت. وماذا عن عُمان؟
نزار غانم: عُمان، فنونها كانت في الجزء الجنوبي من السلطنة، في زنجبار في أفريقيا. وعُمان هي التي أدخلت التعريب والإسلام إلى شرق أفريقيا بشكل كبير، إلى جانب الحضارم. وسلطنة زنجبار، التي أصبحت جزءاً من تنزانيا، كانت قطعة عربية. حتى أن بعض الناس كانوا يسمونها الفردوس المفقود الآخر، على وزن الأندلس. فكان فيها فن اسمه فن الطرب، الذي هو بالعود والكمنجات. ولو تري حتى الفنانات التابعات لهم عندما يغنين، مثل «بي كيدودي»، وهي موجودة في اليوتيوب وتوفيت قبل سنوات بسيطة، تغني على طريقة أم كلثوم، وبالقانون، وتمسك أيضاً منديل أم كلثوم، وتؤدي بهذه الطريقة، لحن شرقي وليس خماسي. صحيح أن الكلمات بالسواحلية، ولكن نص هذه الكلمات بمفردات عربية.

رحمة: هذا يعني أن عُمان جاءت بعد الكويت؟
نزار غانم: عُمان، في داخل مسقط وظفار، في الحقيقة كان هناك نوع من التزمت، ولم يكن يسمح بالفنون والموسيقى.
رحمة: نحن هكذا مررنا على دول الخليج واليمن. الآن ننتقل إلى كتابك في عام 1989 «بين الخرطوم وصنعاء». ما الذي كان المشترك بين الخرطوم وصنعاء وتطرقت إليه؟
نزار غانم: هذا كان مقاربة أولى، جمعت فيها المقالات التي كنت قد نشرتها في الصحف السودانية، وتتحدث عن الأثر الثقافي للسودانيين في اليمن، مثل المعلمين وغيرهم، أو الشعراء اليمنيين الذين عاشوا في السودان وكتبوا، مثل عبدالله حمران، وهذا عرفته شخصياً، ولطفي أمان، ووالدي محمد عبده غانم. خلال وجودهم كانوا يكتبون أشياء. هو كان كتيباً صدر عن دار العودة سنة 1989، وبعد ذلك طورت هذا العمل في كتاب ضخم صدر في 1994 اسمه «جسر الوجدان بين اليمن والسودان»، وهذا الذي استخدمت له مصطلح «السومانية».

رحمة: حدثنا عن مصطلح السومانية.
نزار غانم: بالنسبة لمصطلح السومانية، عندما عدت إلى صنعاء في عام 1985، كان الأستاذ عبدالوهاب المؤيد، وهو أحد الإعلاميين الرواد في اليمن، كان يترأس مكتب الشرق الأوسط في شارع حدة، وطلب مني أن أكتب عموداً. فقلت له: ما رأيك أن يكون اسم هذا العمود «من الذاكرة السومانية»؟
رحمة (مقاطعة): أولاً، من أين جاءت كلمة السومانية؟
نزار غانم: من كلمة سوداني - يماني، فتكون سوماني.
رحمة: ومن الذي أوجد هذه التسمية؟
نزار غانم: أنا أوجدتها في تلك الفترة، ثم استصحبها آخرون. ولكن أنا ذهبت بها إلى الأستاذ عبدالله البردوني، وكنت أزوره ويزورني في الأعياد وغيرها. ولكن في تلك الفترات قلت له: ما رأيك بهذه الكلمة؟ قال: لماذا لا تكون يمن سودي؟ قلت له: ولكني أراها ستكون ثقيلة قليلاً من أن تقول سوماني.

رحمة: المهم أن المصطلح انتشر بشكل كبير، وبعد ذلك كتبت كتاب «أفريقانية اليمن».
نزار غانم: أنا أشرت إلى أن علاقة اليمن بأفريقيا وشرق أفريقيا قوية جداً، إلى درجة أنه هناك قطرين عربيين موجودين في آسيا وأفريقيا في نفس الوقت. الأول هو مصر، باعتبار أن سيناء جزء من آسيا. ولكن اليمن، الصفيحة التكتونية الجيولوجية لسقطرى، هي أقرب للصفيحة الأفريقية من الصفيحة العربية. طبعاً حصلت تغيرات جيولوجية، شقت منطقة البحر الأحمر وغيره، ولكن أنا ذهبت لتعميق هذه المسألة على مستوى أفريقيا. وجدت أن أفريقيا، التي يقولون أنه لم تنشأ فيها حضارات تُذكر، عندما تأتي إلى منطقة الهضبة "الأبسينية" الحبشية وغيرها، تجدِ أن أقدم نماذج البشر كانت في هذه المنطقة. وتجد أن الجغرافيا المتماثلة مع اليمن قصة لا تنتهي من الوجود هنا أو هناك. مثلاً، الناس يتحدثون في الأدبيات الإسلامية عن أبرهة أنه احتل اليمن، ولكن اليمنيين ذهبوا إلى الحبشة قبل ذلك بمئات السنين، وكونوا مستعمرة اسمها "ياحا" في منطقة "التيغراي" ، وكأنها نقل لأعمدة مأرب وخط اللغة السامية.

رحمة: هناك من يقول إن بلقيس إثيوبية وليست يمنية. هل هذا ما تحاول أن تشير إليه؟
نزار غانم: هذه جزء من الجدلية، التي تظهر أن هناك مشتركات كثيرة. ولكن عندما يدخل الدين على الآثار يحدث تقاطع خطير، لأن الآثار هي علم وثائق ونقوش تستطيع أن تؤرخ لها. أما إذا كان عندك اعتقاد ديني فهذا خاص بك. ولكن الآثار، حتى الآن، لم تثبت لا وجود بلقيس بالشكل الذي نتصوره في اليمن، ولا بالشكل الذي نتصوره في إثيوبيا، وإنما في إثيوبيا بسبب أنه معتقد، بدءاً من اليهودية. طبعاً، الدولة هذه جاءت لها اليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام..
رحمة (مقاطعة): دعنا لا ندخل في الجانب الديني، كونه أمراً شائكاً. هربت من الجانب السياسي ودخلت في حفرة أوسع وأكبر. ولكن العجيب أن لديك مؤلفات كثيرة، وفي الطب لا يوجد لديك إلا كتابين: «الطب البديل» في 2000، وكتاب «الوسواس القهري» في 2024. لماذا كتابان فقط في الطب؟ هل كان ولاؤك واهتمامك بالجانب الفني أكثر بكثير من الجانب المهني؟
نزار غانم: هذا إذا كان على مستوى النشر، لكن على مستوى الجهد العملي فالمدرّس له مفاصل معينة في التدريس، وخاصة على مستوى الجامعة. وأنا أشرفت على رسائل دكتوراه وماجستير في الطب، فهذه تأخذ وقتك: التدريس والتصحيح.
رحمة: منذ 25 عاماً وأنت تدرّس، أليس كذلك؟
نزار غانم: نعم، ولكن هذا في اليمن، وهناك ثمان سنوات درست بها في جامعة الأحفاد والنيلين في السودان، إحداهما جامعة أهلية، والأخرى حكومية.

رحمة: ما هو أبرز ما أنجزته فيما يتعلق بالتدريس الجامعي؟ هل كان لديك مناهج معينة أو أبحاث جديدة أضفتها في البلدين؟
نزار غانم: أنا حاولت أن ألعب دوراً في أن أفهم الناس أن مفهوم الصحة المهنية وصحة البيئة، إذا اهتم به، ليس أقل من 23% من الوفيات العالمية تنزاح. لماذا؟ لأنك تتخذ رعاية خاصة بكيف الشخص يعمل وينتج، ولكن دون أن تضرّه الآلة أو المواد التي يستخدمها خلال العمل. تعرضات العمل مختلفة، وبعضها حتى لا نعرفها.
رحمة (مقاطعة): أولاً، أخبرني ما هو الجديد الذي أوجدته خلال عملك كمدرّس جامعي؟ هل هناك فكرة جديدة، مادة جديدة؟
نزار غانم: هي تعميق مفهوم في منطقة ليس فيها هذا المفهوم، وهو مفهوم الصحة المهنية. بدليل أننا عندما نتكلم عنه انتِ تحاولي ان تري في أي اتجاه يمضي هذا الشيء، في الحقيقة نجد أن كل مهنة حتى الإعلام لا تخلو من مخاطر. وأنا كنت أشجع الطلاب على عمل بحوثهم الخاصة، وكنت أشرف عليها.
رحمة: هذا يعني أنك وجهت طلابك إلى مجال الطب المهني؟
نزار غانم: وأن يبدعوا فيه ويتخصصوا فيه في المستقبل. وهكذا صار. ناس مثل الدكتور الدبعي، وهو كان طالباً عندي، وأصبح أستاذاً في ماليزيا في مجال الصحة المهنية. ودرّست الدكتور علي المضواحي، وكان بحثه عندما كان طالب عن الإصابات الرياضية، ويقصد هنا الإنسان المتفرغ للرياضة من ناحية مهنية وليس كهواية.
رحمة: يعني أسست مجالاً جديداً في اليمن، وهذا شيء جميل. وفيما يتعلق بعيادة المبدعين المجانية التي أسستها في 1992، هل هذه كانت من ضمن الإنتاجات؟
نزار غانم: أيضاً أسير في نفس الاتجاهات. الناس الذين يعملون في الإنتاج الفكري من المبدعين لا يخلون أيضاً من مشاكل. وليس صحيحاً أن مشاكلهم فقط ضغوط نفسية وغيرها، ولكن هناك أشياء عضوية. ولكن قد لا تكون واضحة لهم، لأن كثيراً من الأشخاص الذين لديهم روح الفن تختل الساعة البيولوجية عندهم، والإيقاع. مثلاً، يقوم العمل بالليل بدلاً من النهار، ولا يكون منتظماً، وقد يمارس بعض العادات الضارة.
رحمة: حدثنا عن أبرز أو أكثر عادة ضارة وجدتها في مجال الصحة المهنية.
نزار غانم: ما رأيته أن كثيراً من الناس الذين يستخدمون آلة العود لا يستخدمون الوضع الأرغنومي السليم. هو لا يذهب إلى المدرسة ليريه كيف الجلسة وطريقة مسك العود. ففي مرة من المرات قلت لأيوب طارش إن مشكلته المزمنة في الرقبة، وكان يذهب للعلاج في الأردن دائماً، سببها الانحناء على الآلة.
رحمة: تقصد طريقة الجلوس السيئة للموسيقيين أو الصحفيين الآن عند استخدام الكمبيوتر؟
نزار غانم: هذا شيء مشترك. ومن الأشياء الجديدة، الشيء الآخر أن كثيراً من هذا الغناء يتم جلوساً في المقيل، وهذا يعمل ركوداً في الأوردة، لأنك تجلس بساعات في هذا الوضع.
رحمة (مقاطعة): هذا بالإضافة إلى الضغوط النفسية المرتبطة.
نزار غانم: لكن هذا، لو عملت أبحاثاً قياسية تجريبية عليه، سيجدون أن المسألة لا تخلو من الالتواءات وتخَّثر الدم نفسه.
رحمة: يعني نفسياً وعضوياً.
نزار غانم: بكل تأكيد، عضوياً.
رحمة: مجالاتك متعددة وكثيرة، أو كما يقولون قبعاتك متعددة. وفيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني، ايضاً كان لديك نشاط هل يمكن أن تحدثنا عنه، ومتى بدأت؟ بالطبع، أنت ذكرت في الإمارات أنك أسست نشاطاً، ولكن لن نتحدث عنه. وسنتحدث بعد عودتك إلى اليمن: متى بدأت عمل مؤسسات منظمات مجتمع مدني؟
نزار غانم: عندما جئت، قلت طالما أن هناك مؤسسات ومنظمات تطوعية، لأنني دائماً أحب أن أشغل نفسي بإنتاج. فمثلاً، كان موجوداً جمعيات الهلال الأحمر، فانضممت مع الدكتور الخميسي فيها، وتطوعت وكنت أقدم محاضرات فيها سنة 85- 86. ثم جمعية رعاية الأسرة عند الدكتور يحيى البابلي. الأشياء التي كانت موجودة، ولكن بسيطة. وهذا كان قبل سقوط جدار برلين، الذي أدت تداعياته إلى انتفاضة في العالم. وكانت الدكتورة رؤوفة حسن، رحمة الله عليها، تقول لي: نحن - وتقصد منظمات المجتمع المدني - يسمونا القطاع الثالث.
رحمة: عام 1990، ما هي أبرز الأنشطة فيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني؟
نزار غانم: أول شيء يكون هناك مأسسة أو تنظيم للعمل التطوعي. وأنا أتصور أن اليمن لم تخلُ من الأعمال التطوعية التشاركية، بدليل مثلاً المدرجات، أو حتى في فترة الرئيس الحمدي كان هناك هيئات التطوير التعاوني، وهذه لعبت دوراً كبيراً جداً في تعبيد الطرق والمدارس وغيرها.
رحمة: دعنا نقيم أداء الإدارات السياسية المتعاقبة في حكم اليمن شمالاً وجنوباً. ابرز القرارات أو مشاريع التي قاموا بها فيما يتعلق بالنشاط الثقافي أو الصحي أو المجتمع المدني. إذا كان هناك شيء يُذكر، سواء رؤساء الشمال أو الجنوب. ودعنا نبدأ من السلال وقحطان الشعبي. هل هناك شيء يُذكر فيما يتعلق بالنشاط الثقافي والصحي والمجتمع المدني؟
نزار غانم: بكل تأكيد. هذه مفاتيح للتقدم. مثلاً، إذاعة صنعاء أصبحت إشعاعاً للوطن، وبالتعاون مع إذاعة صوت العرب. ولو راجعتي هذا المسار ستجدي أن هناك تراكمًا حقيقيًا برز في تلك الفترة. لكن مثلاً قانون المنظمات المدنية، الذي كان في فترة السلال، أو قانون العمل الأهلي، هو منقول من القانون المصري الذي كان في تلك الفترة، كما هي الكثير من الأشياء، تقريباً القانون رقم ستة في عام 1963.

هذه الفترة كان فيها ما يُسمّى الأنظمة الشمولية، لم يكن يُسمح لحراك اجتماعي حقيقي أن يكون ويدير نفسه، وإنما تحت الرقابة. في الجنوب، صحيح أن كثيراً من المؤسسات بدأت تبرز، ولكن السيطرة الحكومية والحزبية كانت تحدياً، وقيّدتها سياسة الحزب الواحد، رغم أن هناك تاريخاً سابقاً لهذه المؤسسات.
رحمة: في عهد سالمين وعهد عبد الرحمن الإرياني، وقبل أن ندخل بالرئيس الحمدي، هل هناك شيء يُذكر فيما يتعلق بالنشاط الثقافي لا زلت تتذكره؟
نزار غانم: هو ظل محصوراً، ولكن طبعاً في بداية السبعينيات، في فترة حكم سالمين والإرياني أيضاً، وُلد اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وولد منذ البداية كمنظمة واحدة. فهذه المنظمة، ومجلتها «الحكمة» التي جاءت إحياءً للحكمة، التابعة للوريث زمان ، بدأت كمؤسسة تلعب دوراً. ولم يكن أي شخص يُقبل كعضو إلا الأشخاص البارزين. فمثلاً، الاتحاد كان فيه شخصيات عظيمة مثل عبدالله البردوني، عمر الجاوي، يوسف الشحاري، إسماعيل الوريث، أحمد قاسم دماج، عبدالرحمن عبدالله، عباس الديلمي. وأيضاً من حضرموت كان هناك مجموعة من الأشخاص مثل الصبان. هذه القامات التي أساساً كونت نفسها قبل تلك المرحلة، ولكنها ارتأت أن يكون مفتاحية الوحدة تأتي مما يُسمّى المثقف العضوي، وكان عمر الجاوي فعلاً نموذجاً لذلك.

رحمة: وفيما يتعلق بفترة الرئيس إبراهيم الحمدي؟
نزار غانم: هو فكر فيها في بعد تنموي. بمعنى ماذا؟ مثلاً، أن هناك عزلة في ذمار أو غيرها، يقول لهم: أنتم، بالتحويلات المالية التي تأتي من السعودية من المغتربين، كان هناك نشاط، وكان الريال قوياً لها السبب. أنتم مثلاً تبنوا المدرسة في هذا المكان، ووزارة التربية في صنعاء ستزودكم بمدرس مصري أو سوداني، وأنتم ستضمنون له السكن. وبالطريقة هذه طبق في مجال الصحة. وبعد ذلك وصل إلى مرحلة أكثر، أن الضرائب التي تُجمع من تلك المنطقة، جزء منها يذهب إلى تمويل هذه المشاريع. ثم تطور وأصبح لها مؤتمرات تُعقد في صنعاء، التي يسمونها مؤتمرات هيئة التطوير التعاوني. هذه، في القراءات الاقتصادية الأمريكية، يمكن ساهمت في 30% من التنمية الريفية.

رحمة (مقاطعة): بمشاركة المجتمع؟
نزار غانم: ليست مشاركة، وإنما ديمقراطية، لأنها كانت انتخابات.
رحمة: ولكن كانت سنوات قليلة، لأن إبراهيم الحمدي حكم أربع سنوات. طيب، فيما يتعلق بالرئيسين عبدالفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد، ما هي أبرز الأنشطة الثقافية وحضور المجتمع المدني؟
نزار غانم: كشخص، عبدالفتاح عرفته شخصياً وجلست معه، وسمعته وسمع مني، وأنا لازلت صبياً. وكان كثيراً ما يزور والدي ويعرض عليه أشعاراً، وكذلك استعان به في بعض الحاجات في اللغة وأشياء مثل هذه. عبدالفتاح خلق علاقات مع المثقفين العراقيين اليساريين واللبنانيين والفلسطينيين، ولذلك كثير منهم جاءوا واشتغلوا أساتذة في جامعة عدن عندما نشأت في تلك الفترة، وكانوا يسهمون في الإنتاج الشعري والأدبي. كل الناس الذين لديهم موقف تقدمي كان يحرص على أن يكونوا من ضمن القريبين إليه. وكان هناك شخص بجواره مهم في الثقافة، وهو راشد محمد ثابت، وابن أخوه سعيد الجناحي، وهذا الذي كان فعلاً صديقاً لي شخصياً.

رحمة: كان سعيد الجناحي يمتلك صحيفة «الأمل».
نزار غانم: نعم. وبالنسبة للرئيس علي ناصر محمد، كان لديه استعداد في هذا المجال، لأنه كان رجل علاقات عامة.
رحمة: كانت هناك فرقة الإنشاد في عهده، وأغنية «تيك تاك توك» المشهورة للقضية الفلسطينية، والفعاليات الثقافية التي تدعم فلسطين، أليس كذلك؟
نزار غانم: علي ناصر محمد جاء بأفكار جديدة في هذا العمل. وكان هو يزور شخصياً معهد الفنون الجميلة، ويرى الاحتياجات، ويجلس معهم. وكتب نصاً لأحمد قاسم «حبيبي يا كبير القلب»، وكتب أغنية لعبد الرحمن الحداد وغنّاها.
رحمة: والمحضار كتب قصيدة «لا تغرك نودلهي»، كتبها وهو مع الرئيس علي ناصر محمد.
نزار غانم: وكان المحضار يعرف والد علي ناصر محمد. ومرة عندما طلب أن يقدموا له سيارة في تلك الفترة، أعتقد تعاونوا معه في فترة التوسع في هذا المجال. بعد ذلك، عندما عرف المحضار أن والد علي ناصر نفسه لا يمتلك سيارة، ذهب إليه وعاتبه وقال له: أنا أعطيتني سيارة ولم تعطي لوالدك؟ فضحك.

رحمة: هذا من كثر اهتمام الرئيس علي ناصر محمد بالثقافة. الآن ننتقل إلى الرئيس علي عبدالله صالح، الأطول حكماً بينهم. هل كانت هناك فعاليات ثقافية تُذكر، وكانت صنعاء في 2004 عاصمة الثقافة العربية، وأنشطة مجتمع مدني مميزة في عهده قبل الوحدة؟
نزار غانم: من المؤكد، بحسابات معينة، علي عبدالله صالح سياسي بارع، فهو لن يأتي ليقف ضد الثقافة، ولكن كان يحاول أن يجعلها تمضي في اتجاهات تناسبه. مثلاً، عندما تأسس النادي الأدبي، الذي رأسه الأستاذ علي المضواحي، كان له دور في الدفع. المحطة التي ذكرتِها، صنعاء عاصمة الثقافة، والتي ينبغي أن أذكر معها الأستاذ الفاضل خالد الرويشان، هذه كانت انجح مناسبة لعاصمة ثقافة عربية بصفة عامة .كمية الكتب والتكريمات وغيرها، والبنى التحتية كالمسرح في السائلة، الذي عُمل في تلك الفترة، مدهش، وتدل على أنه إذا وجد التمويل يمكن أن تكون مثمرة جداً.

رحمة: المسرح، والأغاني، والثقافة، وأوبرت "خيلت براق لمع" ما هو رأيك بهذا الأداء؟
نزار غانم: رجل مستعد أن يتابع هذه الأمور شخصياً، حتى لو كنت لا تُعرف من أين يأتي بهذا الوقت، ولكنه مستعد لمتابعتها. وإذا لمس أنك تستطيع أن تقضي الحاجة وتقدمها بالشكل الأجمل والأقوى، هو لن يبخل. ولكن أنت لا تنتظر أن يأتي ويطرق عليك الباب ويطلب منك أن تعمل معه.
رحمة: الرئيس علي عبدالله صالح، ألم يحقق حلم والدك إلى حقيقة، حكاية توثيق شعر الغناء الصنعاني الذي بدأه الأستاذ محمد عبده غانم، وطبعه التوجيه المعنوي؟ وكانت المقدمة التي كتبها الأستاذ علي الشاطر، رحمه الله، أنها كانت توجيهات وطلباً من الرئيس علي عبدالله صالح. وأعتقد طبعوا حوالي 13 كتاباً بثمان مجلدات فخمة. هل أنت قرأت أو اطلعت على الكتب التي طبعها التوجيه المعنوي حول شعر الغناء الصنعاني؟
نزار غانم: نعم، اطلعت عليها، وأعتقد كان هناك جهد لتنقيح بعض الأخطاء في الطبعة الأولى. وكذلك هم استعانوا بشخصيات قديرة في هذا المجال شاركوا كمحررين لهذا العمل. وفعلاً، الكم الأكبر من شعر الغناء الصنعاني تجده في هذه المجلدات.

رحمة: كل نشاطك الثقافي والطبي، وكل هذه المؤلفات، وكل القبعات التي ارتديتها، ولا يوجد لديك أي منصب حكومي. هل كنت عازفاً عن تولي أي منصب؟ أم لم يكن لديك الاستعداد للتملق ومسح الجوخ، كما يقولون، للحصول على موقع؟ أم كنت تختلف مع الإدارات السياسية المختلفة؟
نزار غانم: أنا لم يكن لدي إحساس أنه من الممكن أن أكون مفيداً للبلد كثيراً في هذه المواقع، لأنني سأغرق في التزامات أخرى. أنت تدخل هذا المنصب ولديك أشخاص وتنفذ سياسات، ويمكن رأيك تحجبه كمجاملة للخط الذي أنت فيه. أنا كنت أؤمن أنه يجب أن أُسهم في التغيير، ولكن من أدنى إلى أعلى، وليس من أعلى إلى أسفل.
رحمة: ألم يُعرض عليك حتى الآن أن تصبح مستشاراً ثقافياً؟
نزار غانم: أنا عملت مستشاراً ثقافياً مساعداً في السودان من عام 2002 إلى 2006. وفي الحقيقة أنا أحببت أن أخلص لرسالة تدريس طب المجتمع في السودان، الذي هو وطني الثاني، ولكن جاءت الأحداث وسبقتنا.
رحمة: من عام 2011 إلى عام 2015، أين كنت خلال هذه الفترة؟
نزار غانم: الجزء الأول كنت في حضرموت لحوالي سنة أعيش هناك، لأنني متزوج من هناك، وكنت في بلدة اسمها الشحير وجلست فيها.
رحمة: هل كان اعتزالاً أم تفرغاً للكتابة؟
نزار غانم: في البداية حدثت قراءات كثيرة ومراجعات كنت أريد القيام بها. وبعد ذلك عدت إلى صنعاء، ولكن كنت أسافر في مهمات ثقافية خاصة بي في مناطق مختلفة. مثلاً، قدمت برنامجاً ثقافياً في إذاعة الخليج في قطر، وشاركت في المهرجانات الفنية في الكويت والبوسنة وكوريا الجنوبية.
رحمة: هذا يعني أن الأنشطة الثقافية كانت مستمرة.
نزار غانم: كانت تأتيني دعوات. على سبيل المثال، جاءتني ثلاث دعوات لإرسال فرقة فنية إلى الخارج، التي سميتها «فرقة صيرة»، كونتها من لفيف من الأصدقاء، وشاركت في مهرجان في إيطاليا، أهم مهرجان هو"لورا فينا، ومهرجان الشرق في السويد، ثم مهرجان المتحف البريطاني. هذه كانت تأتي فرصة للناس الذين أرى أن لديهم استعداداً، ومن الضروري أن يعرفهم الناس في الخارج. مثلاً، الفنان حمود الجنيد لم تكن الدولة، عندما يكون هناك أسبوع ثقافي يمني في السعودية وغيرها، ترشحه من ضمن الناس، وأنا سخرت علاقاتي في هذا الاتجاه.
رحمة: ألم تستمر في 2011 في تدريس الطب؟
نزار غانم: أنا استمريت ولم أنقطع.
رحمة: وماذا كنت تعمل في حضرموت؟
نزار غانم: أنا كنت في حضرموت لفترة حتى أصبحت مدينة صنعاء آمنة.
رحمة: هذا في 2011 تقصد؟
نزار غانم: نعم، مع الثورة.
رحمة: وهل وقفت مع احتجاجات الشباب أم لا؟
نزار غانم: لم أذهب إلى ساحة التغيير إلا مرة أو مرتين، ومن الذين كانوا هناك، لأنهم قريبين من البيت، كانوا يأتون عندي.
رحمة: ألم تكن أنت من الأشخاص الذين صرحوا تصريحات نارية؟
نزار غانم: لا، أنا أحب أنني لو قدرت أن أعمل أكثر مما أتكلم.
رحمة: وأنا أحببت أن أسلط الضوء على هذه النقطة. بعد ذلك جاءت حرب 2015، أين كنت حينها؟
نزار غانم: أنا كنت في ماليزيا أحضر تخرج ابني فريد من الجامعة، وهناك جاءني عرض من السودان بترقية إلى بروفيسور وتدريس هذه المادة. وذهبت إلى السودان مباشرة، وقضيت فيها ثمان سنوات في التدريس في نفس المجال.
رحمة: بعد ذلك انتقلت إلى القاهرة، متى وصلت إليها؟
نزار غانم: وصلت إلى القاهرة في عام 2023م.
رحمة: يعني بعد الحرب في السودان. من 2023، كيف تنفق على نفسك؟
نزار غانم: هذه المشكلة التي حاولت طرحها أمام رئيس الوزراء السابق أحمد بن مبارك. قدمت له ملفاً بأنني أريد أن أدرس في واحدة من الجامعات، التي كانت جامعة سيئون وفيها كلية طب ناشئة. فقال لي: هذا الشيء مؤجل. وأنا أصبحت من غير المرضي عليهم حتى يكون لدي إعاشة، ولا أنا قادر أن أستعيد الخدمة، لأني فصلت تعسفياً في 2015. فالناس الذين كانوا في هذا الوضع كان يُسمح لهم بالتدريس واستعادة المرتب البسيط هذا في المناطق المحررة، ولكن أنا لا قدرت أحقق هذا ولا ذاك.

أنا، مثلما قلتِ، عندما يعيش الإنسان مستقلاً بالطريقة هذه، التي قدمتِني بها، إلا من حياة فيها قدر من التقشف، فهو يحتاج أن يكون لديه دخل طالما أنه لا يزال يعطي. فأنا أستغرب أنه لا يتم استقطاب بعض أساتذة الجامعات التي في المناطق لكي يعملوا في الجنوب.
رحمة (مقاطعة): يدرّسوا في بلادهم، أو حتى مجلس استشاري يُستفاد منهم، بدلاً ما هم يتخبطون هنا وهناك. وأنا هنا لدي سؤال: ما الدور الذي من الممكن أن يلعبه الفن والشعر فيما يتعلق بالسلام والمصالحة في الفترة القادمة؟
نزار غانم: أي نشاط في اتجاه الجمال بصفة عامة هو يخفف الاحتقان، ويسمح بالتسامح، ويخفف العدوانية وثقافة الكراهية. أنا أتذكر عندما افتتحت المدرسة للفنون الجميلة في شارع الرقاص عام 1997، كانت تدرّس أشياء لم تكن موجودة.
رحمة: مثل ماذا؟
نزار غانم: مثلاً تدريس الموسيقى بالنوتة.
رحمة: كيف يمكن مستقبلاً أن نعمل نفس العمل من أجل السلام والمصالحة؟
نزار غانم: الفكرة تبقى نفس الفكرة، ولكنها يجب أن تكبر لتناسب التطورات.
رحمة: بمعنى أن تكون مثلاً الموسيقى جزء من المناهج الدراسية؟
نزار غانم: بالتأكيد، لأن الموسيقى وغيرها من الفنون هي المدخل إلى الجمال. أنت تعيش مستوى أعلى من الأنسنة عندما تتفتح ذائقتك لهذا الشيء.
رحمة: مثلاً تلحين وكتابة كلمات تحرض الناس من أجل البناء والتنمية وإعادة الإعمار.
نزار غانم: هذا موجود إلى حد ما. دعينا نقول إن النهضة الثقافية اليمنية في القاهرة، من خلال الشباب والشابات، شيء يبعث على الأمل.
رحمة: يمكن أن نبدأ منه؟
نزار غانم: هم شغالين عليه، مثل فعاليات المركز الثقافي وغيره من هذه الأشياء، وهي تسد فراغاً كبيراً.
رحمة: أنا لدي سؤال. إذا عدت إلى صنعاء، وكان هناك رئيس سلام موحد، إن شاء الله، دعاك وسألك: ما هو أول مشروع تريد عمله في صنعاء؟ ما هو؟
نزار غانم: أنا أعتقد أن ملف المنظمات غير الحكومية في داخله الكثير من العبث والتسييس واصطياد الفرص. وأتمنى أن يكون لدي قدرة، ولأنني عايشت هذا الشيء وساهمت مع المرحوم عبدالعزيز السقاف والدكتورة رؤوفة حسن في صدور القانون رقم واحد لسنة 2000، الذي هو قانون تنظيم المنظمات غير الحكومية والعمل التطوعي، أجد نفسي - مهما كان عمري - سأظل قادراً على أن أقدم في هذا المجال شيئاً بسيطاً أو كثيراً. ولكن من المهم أن يكون في هذا الاتجاه وهذه الروح. أعتقد أنها موجودة في الإنسان اليمني، وإلا لما وُجدت هذه المدرجات الزراعية والروح التعاونية. وكما ذكرتِ قبل قليل، فترة هيئات التعاون التي حصل فيها من التنمية في الريف أكثر من الخطة الخمسية، التي مفروض فيها أن تنهض بالأعمال التنموية.
رحمة: دكتور نزار غانم، شكري لك ليس له سقف، لأنك أخذتني من السياسة وهرمها إلى الجانب الثقافي، وإلى العود واللحن والإيقاع. شكراً لك.
مشاهدينا، انتهت سيرة الدكتور نزار في «حكايتي»، ولتبدأ الخطة: المسرح، الثقافة، الأوركسترا، كل ما نستطيع القيام به لشحن المجتمع اليمني من أجل السلام والمصالحة والتسامح. وحيا على العمل، حيّ على السلام. نلقاكم في حلقة جديدة وضيف جديد.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)