قراءة في خطاب وطني من أجل إطلاق سراح ضابط أسير
من القبيلة إلى الدولة والمواطن أساس الشرعية
ليست كل الرسائل السياسية سواء؛ فبعضها يتجاوز ظرفه الزمني ليغدو مرآةً لمرحلة كاملة، وشاهدًا على مشروع وطني لم يُكتب له الاكتمال. ومن هذا النوع يأتي خطاب الشيخ أمين بن حسن أبو راس، الموجَّه إلى مشايخ وقبائل وائلة في الأسابيع الأولى لقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م. خطابٌ كُتب في بداية تحوّل مفتوح، خلا من لغة التهديد والوعيد، واستعاض عنها بمنطق الدولة، وأخلاق الجمهورية، والرهان على المواطنة قبل السلاح.
تنبع أهمية هذا الخطاب من كونه لا يطالب بإطلاق سراح ضابط وقع في الاسر فحسب، بل يقدّم تصورًا متكاملًا للعلاقة بين القبيلة والجمهورية، وبين القوة والشرعية، وبين النصر والكرامة. إنه خطاب يسعى إلى نقل القبيلة من منطق الغلبة إلى أفق الشراكة الوطنية، ومن سلطة العصبية إلى مسؤولية الدولة.
غير أن الخطاب لم يبلغ غايته العملية؛ فقد سبقته الأنباء بأن الضابط الأسير إسماعيل العلفي، الذي صيغت الكلمات من أجله، قد جرى التفريط به ونقله إلى نجران، حيث فارق الحياة لاحقًا متأثرًا بالتعذيب، بعيدًا عن أي أفقٍ اخوي وإنساني.
إن هذا الخطاب «المكتوب» ليس مجرد وثيقة تاريخية، بل مرآة لليمن الذي أريد له أن يكون: جمهورية أخلاقية، ودولة عادلة، وقبائل مندمجة في مشروع وطني جامع.
النص الذي بين أيدينا خطّه راس القبيلة، يوضح بجلاء شكل الجمهورية كما رآها: فكرًا، وروحًا، وأهدافًا. وهو خطاب من كان في طليعة من قادوا الوجه المضيء للقبيلة الوطنية، وسعوا للعبور بها من ضيق العصبية والانتماء الضيق إلى رحابة الدولة العادلة وفضاء الانتماء الوطني.
يؤكد الخطاب أن الجمهورية ليست انقلاب ضباط، ولا مشروع فئة أو طبقة، بل حركة شعبية شاملة شارك فيها المشايخ والقبائل والجيش والناس بمختلف طبقاتهم. وهي، في جوهرها، فعل تحرر أخلاقي قبل أن تكون تحولًا سياسيًا، هدفه إنهاء الرجعية لا استبدالها باستبداد جديد. هذا الفهم يضع كاتبه في مصاف المفكرين السياسيين، لا مجرد القادة القبليين.
ويبرز البعد الإنساني للمواطنة المتساوية بوصفه السمة الأوضح في الرسالة؛ إذ لا يُختزل الأسير في كونه ضابطًا جمهوريًا، بل يُقدَّم باعتباره كرامة وشرف وطن. يربط الخطاب مصير الفرد بمصير الجماعة، ويجعل من حمايته معيارًا أخلاقيًا لمستقبل الجمهورية، مستندًا إلى مرجعية دينية وإنسانية جامعة دون توظيفها للتحريض أو الكراهية.
إنها دعوة للإخاء لا للغلبة، وللشرف والكرامة لا للثأر، ولمستقبل مشترك لا لصراعٍ مفتوح. وبذلك تتجسد رؤية دولة لا تقوم على كسر الخصوم، بل على احتوائهم ضمن عقد وطني جديد.
ويمكن تلخيص الرؤية الوطنية التي تضمنها الخطاب في نقاطٍ أساسية:
الدولة فوق القبيلة، مع احترام الدور الاجتماعي للقبيلة بوصفها رافعة وطنية لا غاية في ذاتها.
الجمهورية مشروع أخلاقي، لا قيمة لأي نظام سياسي إذا فقد معناه الإنساني.
المواطن أساس الشرعية، وكرامة الفرد هي المعيار الحقيقي لنجاح الثورة أو سقوطها.
الوحدة المجتمعية شرط الاستقرار، فلا مستقبل للجمهورية دون مصالحة وطنية مبكرة وشجاعة.
بهذا المعنى، لا يقدّم هذا الخطاب سردية عن الماضي فحسب، بل يطرح سؤالًا مؤلمًا على الحاضر: كيف ضاعت تلك البدايات الأخلاقية؟
نص الخطاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الشيخ الضياء حامس عبدالله العوجري، والاخ محمد بن حسين لثلة، وكافة مشايخ وايلة على الإطلاق وافرادها، حماكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وحفظ الله لنا دين الإسلام وشرفنا وكرامتنا، والهمنا رشدنا، وبعد:
فانه سبق اليكم كتابين منا نترجاكم فيهما العطف والرجوع إلى امتكم اليمنية عامة، والى اخوتكم همدان وشاكر خاصة، وان نكون أحسن من ذي قبل في المودة الصافية التي لم يكن عليها رقيب وعتيد في الاستبداد والرجعية، بل تكن مشجعة من جميع الجهات، وان نسير بقبائلنا وبلادنا واولادنا إلى حيث المستوى اللائق في الحياة الإنسانية المنشودة.

ونحن على يقين وواثقين بأنكم عرب صميمين تفهمون معنا الجمهورية والحرية التي انبثقت من جميع طبقات ومنظمات وهيئات الشعب اليمني، ومن افراده ومشايخه، وليست زقرة وطفرة من جهة عبدالله السلال والضباط فقط، وإنما كانت الحركة للقضاء على الرجعية الذميمة في الشعوب سيما العربية.
وماهي إلا حركت القلوب والجوارح والارض، وإنما وكل شي فيها، حتى الحجار الجامدة، سابقت وساهمت في المعركة. وكلما سمعنا عنكم بانكم (مفسدين)، الا إلا هي لم نصدق، وتسليم انفسنا باحتمالات قوية، لان معقولتكم لا تنكر، وفهمكم وافر.
فالى العز والشرف يا ابناء شاكر، إلى المخوة، والى ميدان الكرامة، لا خلاكم الله عنا ولا ابعدكم، يا اخوتي، يا أبناء ابي، هلموا الينا، ونحن معكم ومن ورائكم.
ومن اعز واجود ما نرجوه منكم هو إطلاق سراح الضابط اسماعيل العلفي، الذي هو في قبضتكم وتحت رحمتكم، فاشوروا. انه لا بقل أهمية في صدورنا وصدور الملايين الشعبية اليمنية.
وإنا نحذركم كل التحذر في التفريط به وتعذيبه، فكونوا كراما اذا ظفرتم به. وما ذنبه بالنظر اليكم؟ ومن اجل من يفعلون به كل هذا الضيم بالمذكور؟ تذكروا على حساب من؟!
انه في قلوبنا ونظرنا كشعب ليس فرد من افراده فحسب، وهذه كرامتنا التي سوف نعيش في حياتنا المستقبلية، ان شاء الله، كل فرد كامة، كما قال الله سبحانه وتعالى:
«... كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا ....».
والله المسؤول يرد الينا اخوتنا رافعين الرووس، مكرمين، محفوفين بالعزة والشرف. ونرجوكم سرعة الجواب، اسمعنا الله عنكم خيرا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا وقد امرتنا القيادة العليا ان نبلغ جهودنا في الاحتمال عن الجميع، وتقديم جميع وسائل الرجاء، ولو أرادوا لفعلوا. والسلام.
التاريخ: 17 جمادى الأولى 1382 هـ
(يوافق 15 أكتوبر 1962 م)
اخوانكم
امين بن حسن ابوراس واخوانه