صنعاء 19C امطار خفيفة

جنرالات الدولة المؤجلة

جنرالات الدولة المؤجلة

في فضاء عربي يشيخ فيه مفهوم الدولة أسرع من دساتيرها، ويعاد تعريف السياسة وفق عدد العربات المدرعة لا وفق عدد الأفكار، يظهر حميدتي وعيدروس الزبيدي بوصفهما عرضين جانبيين لمرض واحد يسمى "الفراغ". فراغ الدولة حين تنسحب من أطرافها، وفراغ السياسة حين تُستبدل بالبنادق، وفراغ الخيال حين يُعتقد أن التاريخ يمكن اختصاره في بيان عسكري أو علمٍ يُرفع على عجل.

عيدروس خرج من رحم الجنوب وهو يحمل على كتفيه عبءَ سردية ثقيلة. سردية المظلومية وسردية الدولة المفقودة وسردية الاستعادة. رجلٌ آمن مبكراً بأن الرموز يمكن أن تقوم مقام المؤسسات، وأن رفع العلم قد يغني عن بناء الدولة. يتحدث باسم الجنوب كما لو كان الجنوب حزباً صغيراً يمكن ضبطه بقرار تنظيمي، وينسى أن الجغرافيا لا تُدار بالعاطفة، وأن التاريخ لا يعترف بالاختصارات الخطابية.
لا يبدو عيدروس رجل دولة بالمعنى الكلاسيكي، بل رجل مرحلة من تلك المراحل التي تُكتب على عجل وتُدار بأعصاب مشدودة. لم يدخل السياسة من بوابة الفكرة، بل من نافذة اللحظة. الجنوب بعد 2015 كان أرضًا بلا مخطط، دولة مؤجلة، وشرعية تمارس الحكم كما يُمارس الحنين. في هذا الفراغ ظهر عيدروس لا لأنه يحمل نظرية، بل لأنه يحمل قدرة على الحضور. رجل يعرف أن السياسة في اليمن لا تُربح بالبرامج بل بالتموضع، وأن الفراغ أخطر من الخصم.
أما حميدتي فهو النسخة الأكثر فجاجة من الحكاية نفسها. إذا كان عيدروس ابن مدينة متعبة وحلم دولة مؤجل، فحميدتي ابن صحراء تعلّمت مبكرًا أن الدولة كائن عابر. اكتشف أن السلاح أسرع من التعليم، وأن الولاء أثمن من الدستور. في دارفور لم تكن الدولة غائبة فقط، بل غير مرغوب فيها، وهناك تعلّم الرجل أن العنف حين يُنظَّم يتحول إلى سلطة.
حميدتي لا يهتم كثيراً بالزينة الأيديولوجية. هو ابن الواقعية الخشنة. يرى الدولة كغنيمة مؤجلة والسياسة كهامش مناورة. لا يضيع وقتاً في الحديث عن الهوية أو المستقبل البعيد. اللحظة عنده هي كل شيء. من يملك القوة الآن يملك حق التفاوض الآن، ومن يفاوض الآن يكتب سطراً في تاريخ الغد. منطق بسيط، لكنه مكلف، لأن الدول التي تُدار بمنطق اللحظة غالباً ما تفقد المستقبل.
عيدروس يقدّم القوة في علبة سياسة، وحميدتي يقدّم السياسة بلا علبة. الأول يغازل فكرة الدولة ليُديرها، والثاني يُعرّي الدولة ليحلّ محلّها. لكنهما يلتقيان في نقطة واحدة. كلاهما ابن فراغٍ لم يُترك وحيدًا. اليد الإقليمية لم تكتب النص كاملًا، لكنها حدّدت الإضاءة ومن يستحق الميكروفون. لا تصنع البطل لكنها تعرف متى تُبقيه محتاجًا.
عيدروس يتحدث عن الاستقرار بينما أدواته أقرب إلى توازنات القرى، وحميدتي يتحدث عن السلام بينما تشتعل القرى. الأول يَعِد بدولة جنوبية بلا مؤسسات جاهزة، والثاني يَعِد بسودان جديد وجثثه لم تبرد. وبين الوعدين تُدار الفوضى بحسابٍ بارد. استقرار مُسيطر عليه أفضل من دولة مكتملة لا تطيع.
الفرق بين الرجلين ليس أخلاقيًا بقدر ما هو أسلوبي. عيدروس يحاول تغليف القوة بخطاب سياسي، وحميدتي يجرد السياسة حتى تبقى القوة وحدها. الأول يناور داخل فكرة الدولة، والثاني يبني دولة داخل الدولة. لكن المشترك بينهما أن كليهما تحرّك في فضاء لم تصنعه موهبتهما وحدها، بل هندسته تحالفات إقليمية ترى في الاستقرار المُسيطر عليه قيمة أعلى من الدولة المكتملة.
الإمارات لا تظهر كقائد أوركسترا يكتب النوتة كاملة، بل كمنتج يعرف أين يضع الميكروفون ومن يستحق الإضاءة. لا تصنع القائد من عدم، لكنها تعرف كيف تلتقطه في اللحظة المناسبة، وتمنحه ما يكفي ليستمر دون أن يصبح مكتفيًا بذاته. دعمٌ محسوب، مسافة ذكية، وإنكار دائم لأي مسؤولية مباشرة عن المآلات.
عيدروس مرآة لجنوب لم يتصالح مع دولته الغائبة، وحميدتي مرآة لسودان لم يحسم علاقته بالعنف. شخصيتان تثبتان أن الفراغ حين يطول لا يبقى فراغًا بل يتحول إلى قائد، وأن الدولة حين تتأخر كثيرًا يأتي من يقنع الناس أنها لم تكن ضرورية أصلًا.
ليست الحكاية عن عيدروس أو حميدتي، بل عن بلاد قررت تأجيل الدولة، فدخل الآخرون لإدارة الفراغ. وحين يُدار الفراغ خارجيًا يتحول القائد المحلي إلى وظيفة، والمشروع الوطني إلى ملحق.

الكلمات الدلالية