صنعاء 19C امطار خفيفة

غرفة حسن!

حسن مشرح

وتدور الأيام فنفتقد أجملها، وأحسنها، أغناها بهجة.

الزمان: حين كانت الساعة تدور فلا ندري بأنفسنا.

والمكان: ذلك الذي كنا نحجّ إليه كل صباح.. لابد.. لابد.

لا يكاد يمرّ صباح لا نذهب إلى حيث كنا نحرص على أن نكون.

من منّا يمكن أن ينسى المبنى القديم لوزارة الإعلام، وضِفْ إليه الثقافة بين الحين والآخر…
في كل زاوية لنا ذكرى، وفي كل منعطف من المبنى ذي الطابقين ثم الثلاثة ألف حكاية…
وقبل المبنى: بوفية عبدالله الحمادي، المعلّم الذي سكن أرواحنا بلطف الرجل ونضاله في سبيل العيش الكريم. كم جلسنا على كراسي البوفية، كم تحدّثنا، كم ضحكنا، كم سألنا عن بعضنا… كم وكم.
إذا أردت فلانًا من الزملاء ستجده هناك، وإذا غاب عنك آخر تلتقيه هناك…
نتوزع بين تلك المكاتب لا نبرحها؛ فإذا مررت الآن وسألت الجدران ستحدثك عن عزالدين ياسين، عن الدحّان، عن إسماعيل الكبسي، عن المترب، عن عبدالرحمن مطهر، عن ثابت الغياثي، عن حسين العزي، عن عباس الديلمي، عن إبراهيم عبدالحبيب، عن حميد الدين، عن حميد زنبور، عن إبراهيم عبدالحبيب، عن أحمد ثابت الأنيق، عن لجنة رقابة أفلام السينما: المساح ورفاقه… وهناك ستجد حسين باسليم ومحمد شاهر…
ستجد الكون كلّه هناك في مكتب الصحافة والمعلومات: جرائد ومجلات من “آخر ساعة” و“الأهرام” حتى “النهار” و“الأنوار”، وبينهما “الرأي العام” و“القبس” و“السياسة”… هناك تجد “صباح الخير” و“روزاليوسف” و“الموعد” و“الكواكب” و“المصور”، وما شاء لك أن تجد من مطهر حسين نيابة عن إبراهيم إذا انشغل… هناك علي الأسدي، ومن الممر يمرّ الغابري…
وفي المسرح الصغير ستجد روح حسين الأسمر، واميل جرجس، ومديحة الحيدري، ونبيل حزام، و“الفأر في قفص الاتهام”… كم ستتذكر وكم ستتذكّر!!!
زمن طويل مرّ من هناك حتى أصبح المبنى يبابًا لا روح فيه… كم من الأقدام صعدت ذلك السلم وكم نزلت منه… وكم مرّوا، ذهبوا، عادوا ولم يعودوا. أين أحمد الراعي، عنوان المكان، اسمه؟ من كنا نطلق عليه تحبّبًا “وزير الوزير”. وأين محمد علي الشامي، وكم قصيدة كتبها على كرسي “اليمن الجديد”؟ وأين روح إسماعيل الوريث، ومحمود الحاج، وعبدالباري، ومحمود صغيري… وكم وكم…
وكم من الوزراء كانوا علاماتٍ وصاروا ذكرى حسنة في دفتر المبنى القديم:
يحيى العرشي
حسن اللوزي
باسندوة
عبدالرحمن الأكوع
أحمد الرعيني
أحمد دهمش
وآخرون مرّوا من هناك…
وكم من الوكلاء والوكلاء المساعدين…
ونحن…
ماذا عنّا؟
لقد كنا جزءًا من المشهد.
نبدأ من بوفية الحمادي وننتهي عند إبراهيم… قُل عند عبدالكريم بدري… قُل عند علي شيكان… قُل عند عبدالملك السندي… لنحطّ الرحال صباحات الطفَر القصوى عند حسن… وما أدراك ما حسن!!!
المسّاح، بجّاش، أحمد قاسم دماج، محمد الشامي… زبائن لابتسامة حسن مشرح، وهو ليس بالشخص العادي، بل الإنسان الجميل شكلًا وموضوعًا:
أنت طفران ولا يوجد في الجيب يا مسّاح حق الشاي؟ الحق لك رشفة عند حسن، ستجد الكأس لا يزال مملوءًا…
أنت خرمان يا بجّاش لخيط من الدخان؟ أسرِع، ففي يد حسن حبّة روثمان… خذ نفسًا وارتشف من كأس الشاي العتيق، واسأل عن الشيخ الذي لا يكذب خبرًا:
يطلّ بوجهه البشوش:
ـ يا حسن، أين الكلب ابن الكلب؟
يضحك حسن:
ـ اسأل ابن الشيخ.
أضحك أنا:
ـ نزل الآن عند إبراهيم عبدالحبيب يدور جرائد وسيعود.
تطل ابتسامة ابن المسّاح سريعًا:
ـ أين أنت يا أحمد قاسم؟ نحنا طفارى يا أخي.
يضحك الشيخ:
ـ أمي أرسلت الدخن، تعالوا اليوم نتغدّى عصيد.
لأكرم من أحمد قاسم لقمةً وشعرًا وموقفًا…
يظل حسن مشرح من يجمع الطفارى والمحتاجين، موزعًا بين كأس الشاي… من بقي ذلك الصباح بدون رشفة بنّ أو شاهي؟!!
عالم لو أن هنا صناعة سينما لصنع مخرج عبقري وكاتب سيناريو مبدع فيلمًا قصيرًا اسمه “غرفة حسن”… أو “عالم حسن”.
زمن ذهب… كان حسن مشرح مرجعنا. إليه نذهب بهمومنا وحاجتنا، نضمّ البضاعة كلها إلى همومه وحاجته، فنجد كل صباح: اليوم يدبّره المسّاح، آخر أنا، ثالث الشيخ، رابع أي مرتاد جميل لغرفة حسن التي كثرت فيها الكراسي والماسات وغاب عنها البشر الأحسن لأنها غرفة الطفارى الطيبين!!!
زمن جميل ذهب وولّى وظلّ يسكن أرواحنا، ذهب رموزه، وتوزّعت أيدي سبأ… لم يبق منه إلا بوفية الحمادي في الجانب الآخر وشوقه لمن مرّوا…
كم هو الحنين يسبق الشيء إلى تلك اللحظة الأجمل في زمننا… زمننا الشخصي الذي قوْلبناه كما نريد بفهمنا، بقدرتنا، بمواقفنا…
يظل المبنى القديم للإعلام معلمًا على زمنٍ مرّ، توزّع بين بشرٍ طيبين مبدئيين وآخرين انتهازيين… لكنهم ضاعوا. لم يبق في الذاكرة سوى الذهب الذي كلّما مرّ الوقت ازداد لمعانًا…
أين أنت يا حسن؟
هذا بعض مما في الذاكرة… وليس كله ولا نصفه.
يلزم الزمن كتابًا للمبنى وأهله…
للذِكرى ومن يحملها…
للتذكير ومن له قدرة على أن يحكي…
اليوم، كلما أرى حسن أمامي في الفيس — ولم يعد هنا — أحس بالحنين إلى ذلك الزمن…
شيء اسمه الحنين يا صاحبي… لم يكذب محمد عبد الولي ولم يدّعِ…
بالفعل، في أعماق كل منا شيء اسمه الحنين.
لقد تركتُ هنا دمعة… وذهبت.

الكلمات الدلالية