صنعاء 19C امطار خفيفة

قراءة في استقالة كبير بكيل بعد اغتيال الحمدي

كانت اليمن تقف على مفترق طرق؛ فبعد رحيل الرئيس إبراهيم الحمدي، الرجل الذي حمل مشروع دولة مدنية واعدة، توالت الأحداث سريعاً لتُسدل الستارة على واحدة من أنبل المحاولات الحديثة لبناء يمن جديد. وفي ذلك المشهد الضبابي، تقدّم النقيب أمين بن حسن أبوراس، كبير قبيلة بكيل وأحد أبرز رجال الدولة المعروفين بالاستقامة والوفاء، باستقالته إلى الرئيس أحمد الغشمي، في خطوة حملت من الدلالات أكثر مما حملته من كلمات.

لم تكن رسالة أبوراس مجرد طلب إعفاء من عدة مناصب، بل كانت وثيقة أخلاقية وسياسية تُعرّي مرحلة كاملة، وتجسّد ثقافة أصيلة تعتبر المنصب تكليفاً لا تشريفاً، وعهداً لا مكسباً.

أبوراس… حين تتحوّل السيرة الذاتية إلى شهادة وطن

ينتمي النقيب أمين بن حسن أبوراس إلى أسرة يمنية قدّمت الكثير في سبيل الوطن. تاريخه ليس تاريخ فرد، بل تاريخ قبيلةٍ ونموذجٍ لأسرة يمنية وضعت أبناءها في خطوط النار دفاعاً عن سيادة البلاد.
أمين أبوراس
في رسالته، يستحضر أبوراس إرث والده وإخوته ورجال قبيلته، لا ليفاخر، بل ليذكّر بأن استقلال وسيادة اليمن كان ثمرة دماء كثيرة، وأن بيوت آل أبوراس التي ظلّت خراباً منذ الدولة العثمانية والإماميين هي الشاهد الأبقى على أن انتماءه للوطن لم يكن يوماً شعاراً.

بين السطور يظهر رجل يؤدي شهادته للتاريخ:

– رجل أمضى الثلاث السنوات الأولى من الثورة في الجبال مقاتلاً ومفاوضاً وحاملاً لأمانة الدولة.
– رجل دخل المناصب وخرج منها مادياً بأقل مما دخل إليها، في زمن خرج فيه غيره بالكثير.
– رجل يحصي الأيمان التي أقسمها لا ليمتنّ، بل ليبرهن أنه بقي على العهد حتى آخر لحظة.

استقالة تحمل مرارة وطن… لا مرارة شخص

لم تكن دوافع الاستقالة شخصية بقدر ما كانت صرخة رجل أدرك أن مشروع الدولة الذي نذر نفسه لأجله قد أخذ بالانطفاء. كتب عن دَوره المهدّم، وعن أرضه الزراعية التي تآكلت، وعن أعباء أثقلت كاهله، لكن الرسالة تحمل ما هو أبعد من ذلك:
تحمل حزن رجل رأى أن الطريق الذي خطّه الحمدي – وكان شريكاً في معاركه – بدأ يتلاشى خلف ستار كثيف من الصراع والغموض.
صورة نادرة التقطت في فبراير من العام 1975
ولهذا جاءت استقالته بعد فترة قصيرة من مراسم التشييع الرسمية التي دُفن فيها صديقه إبراهيم الحمدي في مقبرة الشهداء… وكأن التاريخ أراد أن يدفن معهما مرحلة بأكملها.

من موقع القوة… يطلب الإعفاء

قيمة الرسالة تتجلّى في أنها لم تُكتب من موقع خصومة ولا يأس، بل من موقع قوة أخلاقية. لم يطلب أبوراس امتيازاً، ولم يساوم، ولم يترك في قلبه ضغينة على أحد. صاغها بلغة هادئة، لكنه حمّلها رسالة واضحة:
– أن اليمن لا تُبنى بالولاء للمناصب… بل بالولاء للعهد.
– وأن الرجولة السياسية لا تُقاس بما يُحصّل عليه المسؤول، بل بما يخرج به وهو نقيّ اليد والسمعة.
– وأن التاريخ لا يحفظ من رفعوا أصواتهم، بل من حافظوا على مبادئهم.

إنصاف للتاريخ… وإنصاف لمن ضحّوا

الكتابة عن النقيب أمين بن حسن أبوراس ليست كتابة عن فرد، بل عن نموذج يمني أصيل يجمع بين شرف القبيلة وشرف الدولة؛ بين السلاح حين يجب حمله، وبين القسم حين يجب الوفاء به، وبين الاستقالة حين يشعر أن بقاءه سيمنحه اسماً… لكنه لن يخدم وطناً.
إن الشعوب الحية هي التي تحفظ سيرة رجالها، وتعيد الاعتبار لمن بذلوا ولم يأخذوا، ومن ساروا في طريق الدولة يوم كان السير فيها مغامرة لا مكسباً.

ختاماً…

ربما طُويت صفحة الحمدي وأبوراس في تلك السنوات القاسية، لكن أثرهما لم يُطوَ. فالتاريخ لا يمحو مشروعاً صادقاً، وإن تعثّر. واليمن، رغم كل ما مرّ بها، ما تزال تبحث عن رجال يحملون يقظة ضمير كتلك التي حملها أبوراس في رسالته الأخيرة.
لقد غادر المنصب، لكنه لم يغادر موقعه في ضمير اليمنيين.
وغادر السلطة، لكنه لم يغادر شرف الكلمة… ولا شرف العهد.

نص رسالة الاستقالة:

"الأخ الرئيس
لقد كان لي شرف النضال من أجل اليمن الحبيب أسوة بوالدي وإخوتي والكثير من الشرفاء من رجال القبيلة، وحيثما أقول إنّا قدّمنا العديد من الضحايا لم أقصد أنني أمنّ على اليمن أبداً، إلا أنني أؤكد بذلك استعدادي الكبير للدفاع عن سيادة واستقلال اليمن كلما دعت الضرورة ومادمت حياً. وإن أكبر شاهد على حبي لليمن أن بيوتي التي ما تزال خاربة في برط ولواء حجة وقضاء ذي السفال من عهد الأتراك وآل حميد الدين، إذ كنا وما نزال ندافع عن شرف الوطن واستقلاله وسيادته.
لذا فإني أرجوك شاكراً قبول استقالتي من وزارة الدولة وعضوية مجلس الشعب التأسيسي، لأتفرغ لشؤوني العائلية والزراعية التي حُرمت حاصلها لأسباب كثيرة، منها نقص الأيدي العاملة، واجتياح السيول، وهدم الآبار، وما بقي تقاسمه الوكلاء والشركاء. وهذا ما حثّني إلى طلب قبول الاستقالة.
وكما عاهدت الله والشرف في ليلة العشرين من سبتمبر على المضي قدماً والقيام بشرف ونزاهة كما كُلّفت من القيادة آنذاك للتوجه لفتح لواء صعدة وحرف سفيان وبرط، وإدخال القوات العربية المصرية إلى الجوف المكوّنة من ستمائة متحركة، والتي عجزوا عن إدخالها بعد تضحيات جسام. إني وفيت بعهدي ولم أخن قط لا في سري ولا علني في مدة الثلاث السنوات التي قضيتها في الجبال، ومتمسكاً بعهدي وراضياً بالقليل مما يصلني.
والقسم الذي أقسمته عندما كُلّفت بعضوية المجلس الوطني، وعندما اخترت مستشاراً لرئاسة الجمهورية، والقسم الذي أقسمته عندما انتُخبت في مجلس الشورى، والقسم الذي أقسمته عندما عُيّنت وزيراً للدولة، والقسم الذي أقسمته عندما اخترت عضواً لمجلس الشعب التأسيسي، والوفاء الكامل للحكومة وللمواطنين عندما عُينت محافظاً للواء الحديدة. انتهت النتيجة بما علم به الخاص والعام؛ خرجت منها ولدي حوالي عشرة آلاف ريال، وخرج غيري بمليارات.
كل هذه الأيمان السبعة المغلّظة يشهد الله ورسوله – وهو خير الشاهدين – أني لم أحنث في عهد، ولم أخُن وطناً، ولم أستغل ريالاً ولا فلساً، صابراً على مقرّري الحقير، والله على ما أقول وكيل.
فإني أكرّر، وأقسم بما أقسمت به، أني سأظل – حسب عادتي – أميناً على ديني ووطني، حريصاً على سمعته واستقلاله، والله وليّ التوفيق.
راجياً من رئيس مجلس القيادة المقدم أحمد الغشمي، وعضو مجلس القيادة ورئيس الوزراء الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني، العفو وقبول المعذرة نظراً لسعة تكاليفي وضياع حقوقي…
أرجو – مع الشكر الجزيل – قبول الاستقالة خطياً".

الكلمات الدلالية