الطبيب الذي ربّته الألحان
نزار غانم.. سيرةُ بيتٍ صاغ الموسيقى بالكلمة
في بيتٍ تتقاطع فيه الصحافة بالشعر، وتصعد فيه السلالم من عدن إلى صنعاء وبيروت والخرطوم على إيقاع المقام والغناء الصنعاني، تشكّلت شخصية ضيف هذا الحوار: الملحن والأديب والشاعر والطبيب الدكتور نزار غانم؛ ابن الشاعر الكبير محمد عبده غانم، وحفيد رائد الصحافة الأهلية في عدن محمد علي لقمان.
بين بيتٍ يوقّر الكلمة، وذاكرةٍ مزدحمة بحكايات الإذاعات الأولى، وبرامج الأطفال في تلفزيون عدن، وسينمات خور مكسر، تشكّل وعيه المبكر بالثقافة والسياسة والموسيقى معًا.
في هذا الحوار، الذي أجرته الإعلامية رحمة حجيرة، نرافق الدكتور نزار غانم في رحلةٍ تعود بنا إلى طفولته في عدن زمن الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، وإلى بيتٍ امتلأ بالشعر والقمبوس والعود، ثم إلى سنوات التكوين في بيروت والخرطوم، حيث درس الطب من دون أن يتخلى عن شغفه بالموسيقى والكتابة.
في الحلقة الأولى من هذا الحوار المطوّل، نتعرّف على البدايات الأولى للوعي، وأثر الأسرة، وملامح المدينة، وكيف تَجاوَر في حياته مبكرًا صوت المذياع مع رائحة الحبر والورق ووهج المسرح والتلفزيون.
"النداء" تنشر النص الكامل لهذا الحوار بالتزامن مع عرضه المصوّر على قناة "حكايتي"، ضمن اتفاق تعاون إعلامي مشترك.

رحمة: مرحباً بكم..
في بيوت تُنصت للجيران كما تُنصت للمقام. وُلد ضيفي اليوم على وقع الحكايات والأهازيج والتنقلات بين مدن شتى صقلت أذنه. عدنُ ببوصلتها البحرية، وتعز بسلالمها التي تتجه نحو الضوء، وبيروت بحفلاتها الموسيقية وصوت فريد الأطرش، والخرطوم بسُلّمه الموسيقي الخماسي. ضيفي اليوم الملحن والأديب والشاعر والطبيب الدكتور نزار غانم، الذي وُلد في بيت وَرث الإبداع ويوقّر الكلمة. وهذه أول حلقة ثقافية بعيدة عن السياسة في برنامج "حكايتي".
أهلاً وسهلاً دكتور نزار، وإن شاء الله نجري حواراً ثقافياً لا يكون فيه الانفعال السياسي الذي اعتدنا عليه في برنامج "حكايتي".
نزار غانم: أهلاً وسهلاً بك أستاذة رحمة، ويسعدني أن أكون معك في بداية هذا الشوط الإضافي لهذا البرنامج الناجح، وإن شاء الله نقدّم المفيد والجديد.
رحمة: وأنا متشوّقة لسماع حكايتك.. دكتور نزار أنت من مواليد 7 أكتوبر 1958، وأعتقد أن هذا التاريخ أكيد، لأن والدك محمد عبده غانم من أوائل الخريجين الجامعيين في اليمن. فدعنا، بدل أن نتحدث عن الميلاد، نبدأ من البداية. متى كانت أول محطة وعي بدأتَ فيها تُدرك ما يحدث؟ أعتقد خمس سنين أو ست، ستكون ثورة 26 سبتمبر أو 14 أكتوبر. فأيهما تذكر؟
نزار غانم: ما أتذكره بوضوح هو في سنة 67 عملية فدائية ضد الجيش البريطاني في منطقة خور مكسر التي كنا نسكن فيها. والذي حدث أن أحد الفدائيين ركب في الحوش، بدون أن نشعر، قذيفة ليصيب بها المعسكر البريطاني المجاور. وكنتُ في منطقة الشابات في الدكاكين، وكنتُ عائداً إلى المنزل وسمعت الانفجار، ولكن لم يخطر لي أنه انطلق من حوش بيتنا. وعندما وصلت رأيت المكان يعج بالجنود البريطانيين يحاولون إقناع والدتي بفتح الباب حتى يدخلوا، لأنه عندما دخلوا الحوش وجدوا القاعدة الخاصة بالقذيفة فاعتقدوا أن لنا علاقة بها.

رحمة: وأنت بكل تأكيد كنت خائفاً جداً.
نزار غانم: كان شيئاً مخيفاً جداً؛ حدث وصل إلى عقر دارك. ولكن كنت في كثير من الأحيان، وخصوصاً عندما أذهب إلى كريتر من خور مكسر، أرى عمليات فدائية مصحوبة بالغاز المسيل للدموع.
رحمة: أعتذر عن مقاطعتك، لكن هل كان هذا في عام 1967؟
نزار غانم: كان في 1966 و67؛ تصاعدت العمليات.
رحمة: وكان عمرك حينها تسع سنوات.
نزار غانم: نعم، وكنت في ذلك الوقت أحب سماع الإذاعات مثل صوت العرب وBBC لندن أحياناً، لكن للأخبار فقط. وكنت بدأت أشكّل ألفة مع أصوات المذيعين بحيث أنني أعرف الإذاعة من صوت الشخص مثلاً.
رحمة: متى كنت تفضّل سماع الإذاعة؟ صباحاً أم في الظهر أم مساءً ام بعد عودتك من المدرسة؟
نزار غانم: هي كانت تملأ لي الوقت المخصص للقيلولة، لأن قيلولتي نادرة جداً، وبالتالي أكون صاحياً والجميع في المنزل نائمون وقت الظهر، فأملأ الوقت حتى المغرب بمتابعة الإذاعات. وكانت لدي ورقة أقوم بتسجيل الترددات، وكانت هذه نافذة كبيرة للإعلام في ذلك الوقت لأنه لم يكن هناك بديل. وبعد ذلك يبدأ البث التلفزيوني.
رحمة: هل البث التلفزيوني كان في السبعينيات؟
نزار غانم: في عدن بدأ البث في 1964.
رحمة: بينما في صنعاء بدأ البث في عام 1970.
نزار غانم: وفي بداياته كانت ماما صفية لقمان التي كان لديها برنامج "جنة الأطفال".
رحمة: هل هي من أخوالك؟
نزار غانم: هي عمة والدتي، واستضافتني مع الأطفال في برنامج "جنة الأطفال".
رحمة: كم كان عمرك حين شاركت في برنامج "جنة الأطفال"؟
نزار غانم: كان عمري حينها ست سنوات.
رحمة: وبماذا شاركت؟
نزار غانم: لم تكن مشاركة فردية، بل كنا مجموعة من الأطفال من الجنسين، وكان المهتم كثيراً ببرامج الأطفال الموسيقار المرحوم شكيب جُمن، سواء في الإذاعة أو التلفزيون. وكان لديهم برامج أطفال وأغانٍ كتبها الشاعر الخالد لطفي حعفر أمان.

رحمة: ما هي أكثر أغنية لازلت تذكرها وأنت طفل أو اعدت حفظها من جديد؟
نزار غانم: كانت عبارة عن أهزوجة عملها أحمد قاسم لأبنه الأكبر "حمادة" وكان معنا في المدرسة، ولكن رأيناه في التلفزيون اسود وابيض. تقول كلماتها: "أنا موسيقي صغير، أعشق اللحن الكبير..." وهكذا. هي بالطبع بسيطة لأنها أغنية أطفال.
رحمة: وأعتقد من تلك الفترة بدأت تفكر في أن تكون موسيقياً، أو تركت أثراً في داخلك حتى جاءت الفرصة.
نزار غانم: بالتأكيد واحدة من العوامل التي ساهمت في تعزيز الثقافة الموسيقية هي الإعلام الذي كان متاحاً؛ إذاعة وتلفزيون.
رحمة: لنتوقف هنا ثم نواصل. ودعنا نعود إلى الخلف قليلاً ونسمع عن والدك الأستاذ محمد عبده غانم. حدثنا عنه. هو من مواليد 1912وتخرج من الجامعة في 1936 وتوفي في 1994، وكان أول خريج. دعنا نسمع عنه كثيراً: ماذا كان تخصصه وبماذا كان يركز بشكل أساسي؟ وما أبرز شيء تعلمته منه؟
نزار غانم: محمد عبده غانم، شخصية تعددت لديه القدرات، وكنت آخذ منه أكثر من جانب. ولكن لا شك أنه ظل يقدم في نظري نموذج الاستقامة؛ كان الموظف الحكومي معظم حياته، والمخلص لمهنة التربية والتعليم، والشخصية العامة التي حَظِي بها بسبب شهرته كشاعر، والشاعر يكون شخصية عامة. فكنت أشاهده في التلفزيون وهو يلقي شعر. وأذكر مثلاً في مرثاة جمال عبدالناصر ألقى قصيدة في التلفزيون.

رحمة: هل يمكن أن تذكر لنا بعض الأبيات؟ وكم كان عمرك عندما حفظتها؟
نزار غانم: كان عمري حينها 12 عاماً، ولكني لا أتذكر الأبيات حالياً. لكن أذكر شعراء آخرين مثل لطفي أمان؛ كان عنده قدرة ساحرة على إلقاء الشعر، وكانت لديه قصيدة مرثية بثّوها اسمها "يا جمال". وهذه كانت السمة الأبرز في حقبة أواخر الستينيات.
رحمة: ولم تكن تشعر أنك كنت مميزاً لأنك ابن محمد عبده غانم ويشار إليك بالبنان؟
نزار غانم: هو شخصية بارزة في تلك الفترة ولا شك أن هذا يعطي نوعاً من التميز. ولكن أنا شخصياً جربت هذا التميز حين كانت ماما نجلاء شمسان في برنامجها للأطفال على التلفزيون تترك مسألة قراءة "قصة العدد" دقائق لطفل يقرأها. ولم يكن هناك تسجيل مسبق؛ كان كله على الهواء. وكان التلفزيون يقع أعلى التلة قبل أن ينتقل إلى موقعه الجديد، وكنت أقرأ هذه القصة.
رحمة: في أي سنة قمت بقراءتها؟
نزار غانم: تقريباً 1969 أو 1970. وحينما كنت أمشي في الشارع أسمع الناس يقولون: "أنت اللي كنت البارحة في التلفزيون".
رحمة: هل قرأتها وأنت بعمر الست سنوات؟
نزار غانم: كنت أكبر من ذلك.
رحمة: من أين كان يتم اختيار القصة؟ هل كانت من المناهج الدراسية أم ماذا؟
نزار غانم: أعتقد أن الأمر كان يُترك لماما نجلاء لأنها كانت في فريق الإعداد الخاص بالبرنامج.
رحمة: كانت تختار لكم القصة وأنتم تقرؤون؟
نزار غانم: نعم، كانت تسلّمنا قصة بسيطة وأقرأها.
رحمة: ما هي أول قصة قمت بقراءتها؟ وأعتقد كان عمرك حينها اثني عشر عاماً.
نزار غانم: نعم كان عمري اثني عشر ، ولكن لم أعد أذكر.

رحمة: من المؤكد أنك كنت مميزاً وأنت ترى نفسك في التلفزيون والعائلة تراك.
نزار غانم: أنا لم أكن أرى نفسي في التلفزيون لأنه لم يكن هناك تسجيل، وكنت أُسجَّل مباشرة. وهو يتطلب أن تكون لغتك على الاقل مقبولة لأنه امتحان أمام الجمهور، ويستمر لدقائق. وليس أقل من ثلاث قصص قمت بقراءتها.
رحمة: وكم كانت مدة كل قصة تقوم بقراءتها؟
نزار غانم: بضع دقائق.
رحمة: بالطبع، هذا يقودنا إلى والدتك منيرة محمد لقمان. نريدك أن تحدثنا عنها - رحمها الله - وأثرها في حياتك، ونتطرق أيضاً إلى الأستاذ محمد علي لقمان.
نزار غانم: ما أتذكره فقط لقطة واحدة في طفولتي التقيت فيها بجدي محمد علي لقمان، وكان هذا في منزله في كريتر عندما ذهبت أمي لزيارة والدها واصطحبتني معها.
رحمة: كم كان عمرك حينها؟
نزار غانم: محمد توفي سنة 1966، وفي سنة 1965كان عمري سبع سنوات. وأذكر أنه كان يرتدي "فرنجي" كله أبيض لأنه كان يحب هذا اللون.
رحمة: هل هو مؤسس صحيفة "فتاة الجزيرة" أم خالك؟
نزار غانم: نعم، هو مؤسس صحيفة فتاة الجزيرة، وبالتالي هو أول من عمل في الصحافة الأهلية في البلد.
رحمة: كانت "فتاة الجزيرة" تستضيف الأحرار من الشمال والجنوب، وكان أي شخص يكتب فيها يعتبر ذلك فخراً كبيراً. حدثنا كيف أسسها، إذا كان والدك أو والدتك قد حدثاك عنها.
نزار غانم: ساعدتني على فهم هذه المرحلة المذكرات التي كتبها وكان ينشرها. ومن خلالها كان ينبه كيف يمكن لبلد أن ينهض إذا لم يكن فيه صحيفة، وباللغة العربية كونها لغة أهل البلد، خصوصاً وأن هناك نشرات إنجليزية. وهو أيضاً أصدر صحيفة بالإنجليزية كان اسمها "Aden Chronicle"، لكنه كان مؤمناً برسالة الصحافة في تلك الفترة.
رحمة: من كان يموله؟ من أين جاء بثمن المطبعة وكل هذه الإمكانيات؟ هل كان وضع أسرة والدتك جيداً؟ هل كانوا أثرياء؟
نزار غانم: هو عندما أسسها في الأول من يناير 1940 كان يعمل في المحاماة. وهو تخرج بعد والدي؛ فوالدي أول خريج جامعي سنة 36 من الجامعة الأمريكية في بيروت، وجدي محمد - رحمه الله - تخرج سنة 1937 محاماة من الهند. وبدأ يصبح اسمه "محمد علي لقمان المحامي".

هكذا كانوا يقولون زمان. كان يأتيه الناس، وهو يذكر أنه جاءت إليه حالة عائلية فتَعاطف معها ووقف مع المرأة، وكان نصير المرأة. ولهذا سمّى الجريدة "فتاة الجزيرة". وقال إن هذه القضية التي ترافع فيها ونجح كانت بداية الدخل بالنسبة له كمسؤول عن أسرة كبيرة. ثم تحسن وضعه بكونه يمارس مهنة القانون. وقبلها اضطر أن يعمل في شركة "البيس" ، وهي شركة كبيرة جداً تابعة لثري فرنسي اسمه "توني بيس" . لكنه عمل معه في "بربرة" في الصومال في مسألة التجارة، وأول من كان هناك الأديب الكبير علي أحمد باكثير. وبعد ذلك أتيحت لي الفرصة - عندما كنا في مصر - أن أجلس مع علي أحمد باكثير في مرحلة لاحقة.

رحمة: نحن سنتدرج من الطفولة إلى هناك. وطالما أعطيتنا نبذة مهمة وأساسية، وهناك الكثير يتوقون لسماعها حول الأستاذ محمد علي لقمان والأستاذ علي محمد لقمان. دعنا نرى منيرة علي لقمان؛ إلى أي مدى أثرت في حياتك؟ ماذا درست؟ وما أبرز النصائح والتوصيات التي ما زلت تذكرها حتى اللحظة؟
نزار غانم: بكل تأكيد منيرة محمد علي لقمان هي الابنة الكبرى لمحمد علي لقمان، وفي تلك الفترة لم يكن هناك تعليم للمرأة. وكانت تخبرني بأنها في حارة حسين، وقبل أن تتزوج والدي كان هناك فقيه - اسمه الفقيه أحمد - كان يعلمهم أشياء بسيطة في القرآن. وبعد أن تزوجت والدي، قرر والدي أن يعطي شقيقاته - وخصوصاً عمتي شفاء رحمها الله - دروساً يومية في اللغة العربية، وهو بالأساس تربوي. وأعتقد أن هذا التدريس هو الذي مكنها من القراءة والكتابة. ووالدتي كانت تكتب بعض الشعر بالعامية. وأذكر مثلاً عندما ذهبت إلى لبنان لأدرس الإعدادية هناك، أرسلت لي رسالة فيها بضعة أبيات شعرية.
رحمة: هل لازلت تتذكرها أم لا؟
نزار غانم: نعم أتذكرها. طبعاً المدينة التي سكنت فيها اسمها عاليه، وكانت تقول:
عاليه يحميك العزيز العالي
فلقد أقام بك الحبيب الغالي
لولا طموح العلم ما فارقته
والنفس قد ضاقت بذي الأحوال
يوم "قيس" والتخرج بيننا
حتى رضيتُ بغربةٍ لنزارِ
قيس كان أخي الأكبر، وهو أول فرد في الأسرة سافر إلى بريطانيا من أجل الدراسة. وجميعهم كانوا يدرسون، حتى الدكتورة عزة.

رحمة (مقاطعة): كم عدد إخوتك وأخواتك؟ أريد أن ترتبهم من الأكبر إلى الأصغر، وما هو ترتيبك بينهم؟
نزار غانم: نحن عددنا ستة إخوة وأخوات.
رحمة: هل جميعهم من أم واحدة؟ ألم يتزوج والدك بأخرى؟
نزار غانم: لا، لم يتزوج، ولا يوجد له أولاد غيرنا. الابن الأكبر هو قيس غانم، وهو الآن في كندا طبيب، وعمل في عدن وصنعاء فترات طويلة. وهو طبيب متخصص في الأمراض العصبية، وهو إلى جانب ذلك يكتب الأغاني، وهو روائي، وربما يكون أول يمني يكتب رواية بالإنجليزية وينشرها بهذه اللغة.
رحمة: لا بد أنه كان مَثلك الأعلى، لأنه جمع بين الطب وبين الأدب والثقافة. كم يبلغ من العمر الآن؟
نزار غانم: هو في الثمانينيات. وطبعاً هو صاحب أغنية "الزين جزع مرة"، وهي أغنية معروفة وغناها طلال المداح.

رحمة: ومن كان بعد الدكتور قيس؟
نزار غانم: يليه أخي الدكتور شهاب. وعندما أقول "دكتور" فالمقصود أنه حاصل على دكتوراه لكنه ليس طبيباً. هو مهندس درس في بريطانيا، وشهاب صاحب تقريباً "المئة كتاب". وقد أصدر عدداً كبيراً من الكتب خاصة بعد التقاعد، وهو شاعر حقيقي، والأكثر شعراً.

ثم الدكتورة عزة. كانت تكتب نثراً في "فتاة الجزيرة" في الفترة التي كانت فيها في بريطانيا للدراسة، ولها عدة مؤلفات في مجال تخصصها، وهو الإعاقات عند الأطفال. وهي أساساً تربوية.
ثم الدكتور عصام - رحمه الله - لديه دكتوراه في القانون، وله اهتمام بعزف العود. ولحنوا له الكثير من الفنانين؛ منهم محمد عبده زيدي، وحسين فقيه، وبشير ناصر، وسالم بامدهف.
وتأتي بعده سوسن، وهي خريجة جامعية، درست مجال التجارة، وتقيم في الإمارات.
رحمة: هل سوسن هي الوحيدة التي لا تكتب الشعر؟
نزار غانم: نعم. وعزة - حتى أتذكر - كانت الصحف في "القلم العدني" التابعة لخالي علي محمد لقمان، و"فتاة الجزيرة" التابعة لجدي محمد علي لقمان تُنشر لها. لكنها كانت تقول: هذا "نثر" وليس شعراً؛ فهي تنفي عنها "لوثة الشعر".

رحمة: ولكنها كانت تكتب.. الأن نأتي إلى آخر العنقود. حدّثنا عنك أكثر.
نزار غانم: لكوني آخر العنقود، كان قدوتي أشقائي وشقيقاتي الذين سبقوني. عادةً الأب والأم لهما التأثير الأكبر دون شك، ولكن نحن كنا أسرة متضامنة، وكنا نشعر - بشكل أو بآخر - بأننا استمرار للوالد والوالدة. وكنت ألاحظ أن إخواني لهم حظوظ في الحياة العامة حتى في العمر الصغير. ولذلك عندما رأيت عصام يعزف العود قلت لوالدي: أريد أن أتعلم العزف على العود. فعلّمني والدي بعض الدروس.

رحمة: نريد أن نعرف متى أول مرة عزفتَ على آلة موسيقية، وهل كانت عندما علّمك والدك هي المرة الأولى التي تعزف فيها على آلة موسيقية؟
نزار غانم: نعم.
رحمة: حدثنا عن هذه البداية؛ في أي تاريخ كانت؟
نزار غانم: كانت سنة 1975 في الخرطوم، وكان قد أخذ معه العود إلى السكن الذي كنا نعيش فيه عندما كان أستاذاً جامعياً في جامعة الخرطوم. وكان يعزف أحياناً عندما يأتيه بعض الأصدقاء اليمنيين - مثلاً سفراء اليمن الذين كانوا هناك كانوا مثقفين، وهم كانوا قبلها ضباط أحرار ومنفتحين على الأدب العربي.
رحمة (مقاطعة): كما هو الحال في شمال اليمن؛ كانوا أمراء وكانوا يكتبون الشعر. لكن والدك ماذا كان تخصصه؟
نزار غانم: كان تخصص والدي الأدب العربي.
رحمة: متى تعلم العزف على آلة العود؟ وأين؟
نزار غانم: تعلم العزف على العود في عدن، وكان العود الموجود في تلك الفترة هو "القمبوس" الذي يحتوي على أربعة أوتار، وليس العود الموجود حالياً.
رحمة: حدثنا عن القمبوس.
نزار غانم: القنبوس كان لدينا في المنزل…
رحمة (مقاطعة): وهل كان خاصاً باليمن؟ أم كانت دول الخليج أيضاً تستخدم القنبوس؟
نزار غانم: كانت هناك دول أخرى تستخدم القمبوس؛ شرق إفريقيا وإندونيسيا. ولكن أعتقد أن هذا تم بأثر يمني لأن اليمن موسيقاها وفنها ورقصاتها وصلت إلى هذه الأطراف في المحيط الهندي. والآلة هذه هي الآلة الوترية الأساسية التي كانت موجودة.

رحمة: ما هو الفرق بين القمبوس وآلة العود؟
نزار غانم: الفرق في الصوت بسبب اختلاف الحجم، وكذلك عدد النغمات لأن القنبوس لديه أربعة أوتار ولا يعطيك مساحة أكبر كما هو العود الذي يحتوي على خمسة أوتار، والآن ستة أوتار. وكذلك الصنعة؛ لأن القنبوس يُنحت من خشبة واحدة، بينما العود يُركّب من أضلاع ثم تُلصق. وأنا شخصياً فيما بعد اهتممت بأن يكون لدي هذه الآلة، فاقتنيت آلة بمساعدة الأخ الشاعر صالح بافخاري من الشحر، وعمرها الآن حوالي 170 عاماً. وهي آلة غريبة حتى جون لامبير يستعيرها مني ويعرّف الناس بها.
رحمة: من هو جون لامبير.
نزار غانم: جون لامبير هو المستشرق الفرنسي الشغوف بالغناء الصنعاني واليمني.

رحمة: ماذا قال لك عن الآلة؟
نزار غانم: طبعاً الآلة تتكون من جزأين: البطن لوحده، ثم العنق لوحده ينفصلان. وعندما تجمعهما من أجل العزف هناك "مغلَق" يقوم بلصق الجزأين. وعندما تنتهي من العزف، بسبب عيون الناس - خلال الفترة الإمامية لأنه كان ممنوع - كانت تُغلق وتحملها وكأنك تحمل "زنبيل بطاط".
رحمة: وماذا كان يُطلق عليها في شمال اليمن؟
نزار غانم: كان يُسمى "الطربي" وأحياناً يُسمى باسم مستعار: "الكتاب". ولماذا؟ لأن كلمة "الكتاب" لا تثير تساؤلات. أما "الطربي" فهي تأتي من "الطرب".
رحمة (مقاطعة): كان عندهم التعليم حرام والغناء حرام.. دكتور نزار، نريد أن نعرف متى كانت المرة الأولى التي تعلمتَ فيها العزف على آلة موسيقية؟ وماهي وأين؟
نزار غانم: كان في الخرطوم عام 1975، وكان عمري حينها 17 عاماً. طبعاً العود كان موجوداً دائماً في البيت، وإنما عندما كنت أسمع والدي يؤدي بعض الأغاني كنت أطرب لها. فتمنيت أني اتعلم.
رحمة: ما هي أبرز الأغاني التي كان يعزفها الوالد، والتي كنت تستمتع عند سماعها؟
نزار غانم: كان يتجلّى عندما يعزف الغناء الصنعاني.
رحمة: وما هي أبرز الأغاني؟
نزار غانم: "يا هلال الفلك"، و"الشوق أعياني". وبالطبع كانت أطروحة الدكتوراه الخاصة به بعنوان "شعر الغناء الصنعاني" التي أخذها من جامعة لندن.

رحمة: وهذا أثّر فيك كثيراً وأحببت أن تتعلم. عندما كان عمرك 17 عاماً، ما الذي كنت تعمل حينها في الخرطوم؟ وماذا كنت تدرس؟
نزار غانم: وصلت بداية المرحلة الثانوية، وقضيت فيها ثلاث سنوات، ثم أصبحت جاهزاً للانتقال إلى الجامعة.
رحمة: إذاً حدّثنا: ما الذي كان يفعله والدك في السودان؟ ومنذ متى؟
نزار غانم: والدي دُعي إلى جامعة الخرطوم كأستاذ للأدب العربي عام 1974. وكنت في تلك الفترة قد انتقلت من عدن إلى بيروت وبدأت أدرس الإعدادية ثلاث سنوات. ولكن عندما اندلعت الحرب اللبنانية في نفس ذلك الوقت انتقلت.
رحمة: أين كنتَ تدرس في ذلك الوقت؟
نزار غانم: كنت أدرس في مدرسة داخلية في مدينة اسمها "عاليه".

رحمة: ألم يكن لديكم أقارب هناك؟
نزار غانم: لا.
رحمة: هذه شجاعة منك ومن عائلتك أن تذهب للدراسة في بيروت وأنت بعمر صغير.
نزار غانم: كانت التجربة الأولى
رحمة: وهل كنت تعاني وحيداً؟
نزار غانم: بكل تأكيد، وخاصة في الإجازة كونها مدرسة داخلية. حتى الطلاب الآخرون كانوا من نفس البلد؛ يأتون للدراسة ويرجعون. لكن في الإجازة يكون هناك فراغ وأشعر أني وحيد.
رحمة: ألم تكن هناك سفارة؟ ألم يكن هناك يمنيون يتواصلون معك؟
نزار غانم: كان هناك يمنيون، ولكن ليس في عاليه، وإنما في بيروت. وإذا أردت الذهاب فهي تحتاج إلى رحلة.
رحمة: ولماذا اختاروا هذه المدينة؟
نزار غانم: لأنها تضم المدرسة الإعدادية التي درست فيها؛ "مدرسة الجامعة الوطنية"، وكانت ممتازة. وكان هناك مدارس أخرى مثل الشويفات. وكثير من اليمنيين بدأوا يرسلون أبناءهم للدراسة هناك بسبب الأوضاع في الشطرين. وأذكر منهم فيصل أمين أبو راس، الذي أصبح سفير اليمن في لبنان فيما بعد، وكان معي في الدراسة.

رحمة: هذا يعني أن هناك مجموعة يمنيين كنتم تستأنسون مع بعضكم.
نزار غانم: نعم، هناك عبدالله علي السنيدار، ومحسن شايف شعفل - الذي كان والده أمير الضالع - وكنا أربعة. وفي السبت والأحد وقت الإجازات كانوا يسمحون لنا أن نخرج إلى المدينة نفسها. وصادف في تلك الفترة أن فريد الأطرش أقام في لبنان فترة، وصوّر فيها الأفلام الملونة، وهما الفيلمان الأخيران: "نغم في حياتي" و"زمان يا حب". وسمعته في المسبح وهو في الجبل وليس على البحر، وكان يغني "زمان يا حب" في حفلة، ومررت أنا وزميلي سعيد فرحات - وهو أقرب شخص لي - بجوار المسبح المغلق الذي يغني فيه. وكان هناك سينما نستطيع دخولها.

رحمة: كنت عندما تذهب إلى أي مكان يترك فيك أثراً ويدفعك نحو الموسيقى. وبعد ذلك ذهبت إلى السودان في 1974، وفي 1975 بدأت التعلم. اشرح لنا كيف قررت أن تتعلم، وما الذي بدأت به مباشرة؟
نزار غانم: أولاً كان لا بد أن نتفق على طريقة نكتب بها النوتة، وليس النوتة المعروفة، ولكن ترقيم يعرفك بمواقع الأصابع. وبهذه الطريقة كان يكتب لي والدي، وأنا أتابعها. وكنت في ذاكرتي - ولو أنني كنت طفلاً في ذلك الوقت - الأغاني العدنية الخفيفة الحلوة التي كان هو من كتب كلماتها…
رحمة (مقاطعة): مثل ماذا؟
نزار غانم: مثل أغنية "قولوا له ليش ما يكلّمنا"، و"من علّمك يا كحيل العين"، و"حرام عليك تقفل الشباك"، و"قمري تُغَنّى على الأغصان". هذه أغاني كان يغنيها الفنانون في عدن وهي من كلماته. وقلت إن هذه الأغاني تنفع معي أكثر من الأغاني الصنعانية. وبدأ يدونها لي وبدأت أتعلمها.
رحمة: ومتى أول مرة بدأت تشعر أنك تعزف لحناً مقبولاً إلى حد ما؟
نزار غانم: هذه المرحلة أتت بعد أن استقليت، وأصبحت أستطيع أن أعرف مواقع الأصابع.
رحمة: وكم احتجت من الوقت للتعلم؟
نزار غانم: أخذت عاماً، وليس أكثر من ذلك. وبعدها صار العود رفيقي في الأماكن التي أسافر إليها، لأنني أشعر بنوع من الوله معه. وبنفس هذه الفترة بدأت أقوم بعمل ألحان خاصة. أذكر مثلاً أنني عملت لحناً من كلمات لوالدي؛ هي كلمات بالعربي الفصيح وبالتالي قوية، ورغم ذلك لم آخذ في تلحينها غير دقائق.
رحمة: أي قصيدة؟
نزار غانم: اسمها "أنشودة البدر"، وهي مسجلة في إذاعة صنعاء.
رحمة: طالما أنك فنان وتعزف على الموسيقى وتحب الأدب والشعر، ووالدتك شاعرة ووالدك شاعر؛ لماذا دخلت كلية الطب؟ هل الوالد أم ماذا؟ أم هو قرار شخصي وأردت أن تكون كأخيك الدكتور قيس؟
نزار غانم: أشقائي جميعاً درسوا أشياء علمية. لكن شهاب - وهو المهندس - هو الأكثر شعراً. ويعود السبب الرئيسي لدخول الطب في تلك الفترة إلى أن زملائي المقربين في المدرسة الثانوية جميعهم كانوا يتنافسون لدخول الطب. ووجدت الفرصة للالتحاق بالطب، فدخلت معهم وتحولوا من زملاء ثانوية إلى زملاء جامعة… وهكذا.
رحمة: وهل كنت تحصل على درجات عالية؟
نزار غانم: نعم، كنت متفوقاً في دراستي، واستطعت أن أدبر أمري في المرحلة الجامعية. مرحلة كلية الطب - جامعة الخرطوم - التي كانت قاسية قليلاً، وتحتاج تفرغاً كاملاً. وهذا كان يسبب لي ضغطاً إضافياً، لأنني بطبيعتي في البيت منفتح على الحياة. كان لازم في الأسبوع أدخل سينما؛ وإن لم أدخل أشعر بأن شيئاً ناقصاً. جزء من ثقافتي كان يأتي عبر الأفلام السينمائية. حتى عندما كنت صبياً في عدن - في خور مكسر - كانت هناك سينما مشهورة اسمها سينما شاهيناز. وهي الآن ليست موجودة. وكان والدي يسمح لي بالذهاب لحضور العرض الأول الذي ينتهي عند الساعة 8:30. فأذهب وأقطع التذكرة وأدخل وحدي. وشاهدت هناك أفلاماً روسية ضخمة مثل "الحرب والسلام"، وأفلام "دكتور جيفاغو"، لأنها كانت الأفلام التي تعرضها سينما شاهيناز؛ أفلام أجنبية ونخبوية. وليست مثل سينما هريكال التي تعرض أفلاماً هندية أو كاراتيه وغيرها.

رحمة: هذا يعني أنك كنت منفتحاً أيضاً في الجانب الثقافي. عرفنا أن لديك أصدقاء وذكرت أسماءهم. في بيروت.. بالنسبة للخرطوم، هل كان لديك أصدقاء يمنيون؟ أم أنك انخرطت مع السودانيين وأصبحوا هم البديل للأصدقاء اليمنيين؟
نزار غانم: بالنسبة للزملاء في كلية الطب نفسها لم يكن لدي زملاء يمنيون. فيما بعد جاءت طالبة تقريباً في الصيدلة من عدن، لكن في تلك الفترة لولا أني وجدت بعض الأصدقاء السودانيين الذين تربطني بهم أخوة…
رحمة (مقاطعة): تعمقت العلاقة وأصبحوا كأنهم يمنيون وأكثر، رغم أن اليمنيين لا يبنون علاقة بسهولة مع غيرهم. لكن ما هو أكثر شيء جذبك بزملائك السودانيين حينها؟
نزار غانم: البساطة، وأنهم "دُغري"، وما في قلبهم على لسانهم. وكانوا جميعهم قادمين من الأقاليم والريف، وليسوا من أبناء مدينة الخرطوم. والمدن لها طابع ينعكس على سلوك الناس. هناك طلاب من أبناء المدينة يأتون إلى الجامعة بسيارة، في حين أن هؤلاء لم يكونوا حتى يحلمون باقتناء سيارة لأن ظروفهم المادية بسيطة. ويأتون من مناطق بعيدة بالقطار، ويعيشون في "الداخلية" التي أصبحت المسكن.

رحمة: هل دراسة الطب في الخرطوم كانت تأخذ سبع سنوات؟
نزار غانم: نعم.
رحمة: هذا يعني أنك تخرجت وأنت تبلغ من العمر 25 أو 26 سنة. عندما تخرجت، كم كان عدد الألحان التي لحّنتها في تلك الفترة؟ رغم أنك لم تكن متفرغاً كما ذكرت.
نزار غانم: الألحان التي كانت شبه مكتملة بحدود سبعة، ومختلفة فيما بينها. لكنني بدأت أكتب الشعر في تلك الفترة، ولذلك معظم الكلمات التي كتبتها كنت أنشرها في الصحف، وبالتحديد في مجلة اسمها "الشباب والرياضة". وهذه المجلة كانت حميمية إليّ. ومن خلالها تعرفت على آخرين يكتبون الشعر. فكان هناك شيء من الإنتاج الفكري، وكان الإعلام يتيح تقديم أشياء.
رحمة: ماذا كان الفرق مثلاً في 1979 أو 1980؟ كيف كان الإعلام في الخرطوم أفضل من عدن على سبيل المثال؟
نزار غانم: في البداية، أنا بعد أن تركت عدن لم يعد باستطاعتي أن اتلقى بمادة فنية للإذاعة؛ لأن البث كان ضعيفًا. وفي تلك الفترة بدأت الكاسيتات تأتي لنا، وكنا نستمع إليها، والتلفزيون لم يكن يصل مداه. لكن كنت أحرص على أن أحضر الفعاليات اليمنية التي تُعقد خلال وجودي، وأتعرّف على الناس. وهذه أَتاحت لي الفرصة - على سبيل المثال - عندما يحدث مهرجان ثقافي يُدعى فيه اليمن للمشاركة. فمثلًا: وفد سنة 79- 80 الذي جاء من صنعاء كان فيه السنيدار والحارثي وأحمد فتحي، وكنت أجلس معهم. غير ذلك، كان هناك فنان اسمه محمد العدّادي درس هناك، وكان لديه ريشة جميلة في العزف. وكذلك جاء الثلاثة الكوكباني، لأن الرئيس الحمدي جاء في زيارة إلى السودان، فالثلاثة الكوكباني جاءوا وغنوا معهم الثلاثي البلابل - وهنّ ثلاث فنانات سودانيات معروفات.

رحمة: هل لازلت تتذكر الأغنية التي غنّوها؟
نزار غانم: لا أتذكرها، ولكن أتذكر أنه كان معهم في نفس الرحلة أيوب طارش. فجلست مع أيوب وسجلت له بعض الأغاني بالكاسيت، وأتذكر أنه غنّى لنا فيها بالعود لوحده "حرام عليك ترمي الغزال يا رامي". وعندما عدت إلى البيت بعد سفره حاولت أن أطبّق هذا اللحن، لأنني شعرت بأن فيه شجنًا كثيرًا، وكنت في حالة اشتياق للتربة اليمنية. وظل هذا الشوق معي يحرّكني في مراحل مختلفة في الحياة؛ وكأن كل الحالات التي أعملها خارج اليمن - التعلم في لندن، والتخرج، والتفوق - كلها أريدها أن تُحسب لليمن، وتكتسب قيمتها ومعناها لليمن.

رحمة: عندما تخرجت من كلية الطب عام 1982 كان عمرك 26 عامًا. هل استمريت في الخرطوم وبدأت تعمل هناك أم عدت إلى اليمن أو انتقلت إلى دولة أخرى؟
نزار غانم: انتقلت إلى دبي، وهناك كان يوجد بعض أشقائي، وعملت كطبيب امتياز في مستشفى راشد الحكومي في إمارة دبي. واستمريت عامًا، وخلال هذه الفترة كانت قد تكونت شخصيتي الاجتماعية، لأني دائمًا قريب من الناس. ولذلك عندما ذهبت هناك حاولت - من الزاوية الثقافية - أن أتعرف على المجتمع. بالطبع دبي تغيّرت كثيرًا، أو بالأصح تطوّرت، لكن في تلك الفترة كانت محدودة. وأنا عرضت فكرة أن تتكوّن رابطة للفنانين الإماراتيين. وجاء هذا الموضوع في المستشفى، في النادي الذي يحتوي على المسبح والكافيه. كان هناك مكان للقاءات ولكن لم يكن أحد يستفيد منه. وكانت إلى حد ما الدكتورة رفيعة غُباش - وهي شخصية بارزة وطبيبة نفسية كبيرة في دبي - تهتم بمجال النقد السينمائي، وكان يوم الأربعاء يقدم عرض سينمائي، وكان الجمهور من الأطباء وأسرهم. وبعده يتم تحليل ونقد العرض السينمائي. والنقد السينمائي له خصوصيته، لا يتحدث فيه أي أحد، ولكن كان هناك بعض الإخوة اللبنانيين والفلسطينيين بارعين في ذلك، فكانوا يأتون ويتحدثون. كانت هناك جرعة ثقافية.

رحمة: كان هناك ربط بين الطب والفن حينها في الإمارات، وانت عمدتها بالفكرة فهل تحققت أم لا؟
نزار غانم: نعم، تحققت، وقمت بعمل "صالون الثلاثاء الثقافي". وكان هناك الكثير من التلفزيونات تبحث عن فعاليات مثل هذه لتغطيتها، وكان في كل مرة لدينا فعالية مختلفة.
رحمة: هل كانوا يأتون لتغطية الفعاليات؟
نزار غانم: نعم، كانوا يأتون من أبوظبي ومن الشارقة.
رحمة: كم هي الفترة التي بقيت فيها في الإمارات؟
نزار غانم: بقيت لعام واحد، وخلاله تكونت لدي علاقات. مثلًا لحنّت أغنية لشاعر من دبي - رحمه الله - اسمه علي السيّد، وكان مدير الجوازات والدفاع المدني. الأغنية بكلمات عامية إماراتية، وغناها فنان عُماني اسمه سالم اليعقوبي، وأنا لحّنتها.
رحمة: هناك تنوع: كلمات إماراتية، والملحن يمني، والفنان عُماني! هل بُثّت؟ ومشهورة؟
نزار غانم: نعم، وهي موجودة لدي بالفيديو.
رحمة: كل هذا حدث خلال عام واحد؟ وهل كنت تمارس عملك كطبيب أم لا؟
نزار غانم: نعم.
رحمة: ألم يؤثر هذا الانخراط في الفن والشعر والأدب والغناء والعلاقات على عملك كطبيب، الم يكن لديك ابحاث في مجال الطب؟
نزار غانم: لم تكن سنة أبحاث، ولكن سنة تطبيق. لكن شعرت ن داخل نفسي - بسبب أنني عشت لوحدي كثيرًا في الغربة - حتى أنشط في الدراسة وأحرص ألا أتأخر فيها، خصوصًا وأنها دراسة غير عادية وتحتاج إلى الحفظ أكثر من الذكاء، فكان لابد أن أعمل نوعًا من المكافأة الذاتية لنفسي، وهذه كانت المكافأة. وهؤلاء الفنانون الذين أكثرهم معروفون - مثل عبدالله بالخير - كان يأتي إلى البيت، وعارف الخاجة الذي كتب أكثر من أغنية للفنان أحمد فتحي، وأحمد فتحي نفسه كان يأتي. وما في البيت يختلف عن الصالون الثقافي الرسمي، ففي الصالون مهيأ لاستقبال 30 شخصًا، فيأتون، وتأتي عربة التلفزيون التابعة لأبوظبي. وكان يأتي عبد الحميد أحمد - رئيس اتحاد الكتّاب الآن ورئيس تحرير الجريدة الإنجليزية التي تصدر في دبي "خليج نيوز" ويحاورنا. وكانوا يقولون لي: طالما أنك نجحت هذا النجاح، لماذا لا تبقى؟

رحمة: أنت، لماذا لم تبقَ؟
نزار غانم: لم أبقَ لأن والدي كتب لي قصيدة مؤثرة، يقول فيها:
لا تهاجر يا حبيبي
عُد إلينا
بوركت كفُّ المآسي والمؤازف
وكم اشتقنا بغيابك...
كنت سبع سنوات في الخرطوم، وهو في صنعاء مع والدتي، وتمضي السنتين والثلاث وأنا لا أراهم.
رحمة: وتأثرتَ وقررتَ الرجوع؟
نزار غانم: نعم. ووضح لي في الشعر أنه يحتاج إليّ "لأنك تنقذ الباقي من الداء الذي في جسمي". وسماها "ترنيمة العودة". شعرتُ أن كل ما كنت أعمله قبل ذلك هو استثمار للوصول إلى مرحلة أستطيع فيها أن أعطي وطني - اليمن شمالًا وجنوبًا - ما يستحق.

رحمة: في تلك الفترة، هل كنتَ قد تزوجتَ أم لا؟
نزار غانم: لم أكن قد تزوجت، وتزوجت بعد أن عدت إلى اليمن.
رحمة: وهل كان زواجك عن حب؟ لأنه ليس من المعقول كل هذه الأغاني ولم تقع في الحب أكثر من مرة!
نزار غانم: نعم، ولكن يمكن أن نقول عنه "وهم الحب" وليس الحب. أنا إنسان أتذوق الجمال والعاطفة، ولذلك كل ما يمرّ شيء يستوقفني، فما بالك بمرحلة الشباب.
رحمة: بعد قصيدة الوالد وعودتك إلى اليمن من الإمارات، ما أبرز الأحداث التي تمت إلى أن قامت الوحدة، تقريبًا بحدود 1985؟ ما الأحداث التي ظلت عالقة في ذاكرتك؟
نزار غانم: في تلك الفترة، بلدنا اليمن وصنعاء نفسها - في رأيي - عاشت فترة من الرخاء الاقتصادي، والذي ينعكس على المجتمع والإبداع. وعندما عدتُ انخرطتُ في القوات المسلحة - السلاح الطبي - كضابط.
رحمة: لماذا؟
نزار غانم: لأنه كانت هناك إمكانية، لو بقيت تابعًا للجيش أصلًا وليس مجندًا، أن أُبعث في منحة دراسية إلى بريطانيا. وأنا كنت قرأت عن هذا فالتحقت بالجيش كطبيب. وفي تلك الفترة...
رحمة (مقاطعة): كم بقيت مع الجيش؟
نزار غانم: أربع سنوات.
رحمة: وبأي قسم كنت؟
نزار غانم: كنت في قسم الأشعة، ثم قسم الباطنية. ولكن ما بين هذه الأربع سنوات قضيت عامين في بريطانيا تخصصتُ فيهما في الطب المهني، وحصلت على الماجستير من جامعة لندن في هذا المجال.
رحمة: ما هو الطب المهني؟ حدّثنا عنه باختصار.
نزار غانم: الطب المهني هو إصابات وأمراض تنفسية وكيميائية وفيزيائية وبيولوجية وما إلى ذلك.
رحمة: تقصد الأمراض المرتبطة بالعمل، مثل التوتر والإصابات والأعصاب؟
نزار غانم: حتى الطبيب نفسه لا يمكن أن يخلو من الأمراض التي يمكن أن تنتقل إليه من مهنته.
رحمة: هذا يعني أن طموحك المهني مازال مستمرًا. أربع سنوات قضيت سنتين منها في لندن وتخصصت. عندما عدت، هل قمت بفتح عيادة أم ماذا؟
نزار غانم: عندما عدتُ طلبت أن أُحال إلى المدني، وقدمت لجامعة صنعاء كمدرّس مساعد، لأنه لم يكن لدي غير الماجستير في هذا التخصص. ودخلت الجامعة عام 1990 قبل الوحدة، وبدأت أكتشف متعة التدريس الجامعي في الطب، مع أشخاص كانوا طلابك وطالباتك، ثم يتحولون إلى زملاء وزميلات. وأخلصت في هذه المسألة، وبقيت في مجال التدريس رحلة العمر كلها، حتى عندما انتقلت إلى السودان بسبب الحرب الدائرة في اليمن. عملت في مهنة التدريس في نفس المجال لمدة ثمان سنوات.

رحمة: ألم تفكر في فتح عيادة؟
نزار غانم: عملت في عيادة الدكتور أبو بكر القربي، وبفترات متقطعة. وهذه أعطتني الفرصة - كما يقولون - أنه بالنسبة للطبيب عندما يعمل في مجتمع معين لابد أن يعرف الخريطة الوبائية: ما هي الأشياء الأكثر حدوثًا، وليس كل ما يأتي في الكتب. ولهذا اسموها "الأمراض الاستوائية" لأن المناخ والجغرافيا ينعكسان. ومن هنا بدأت أستمتع في مقابلة كل مريض كحالة خاصة، وكان هناك مكسب مادي بالنسبة لي. لكن العيادة التي اشتهرت بها تمت بعد الوحدة بسنتين.
رحمة: سنتطرق لها، لكن أريد أن أعرف: من الثمانينات إلى 1990، ألم يكن هناك أي إنتاج إبداعي آخر؟ مقالات؟ أغاني لحنتها؟ حدثنا واذكر لنا ما هي هذه الإنتاجات الإبداعية؟
نزار غانم: كانت إذاعة صنعاء فرصة أني تعرّفت بالناس الذين فيها. وقدمت أول برنامج إذاعي لي، كان اسمه "بين أغنيتين". وأنا عندما كنت في الخليج سجلت في الكاسيت النصوص اليمنية التي تُغنّى بألحان خليجية، ولكن بصوت مختلف عن الدقة الموجودة في اليمن. فكان البرنامج 13 حلقة، كانت تقرأه عائدة الشرجبي، وكنت أنا أقوم بإعداده. فكان أول شيء يفاجئ الجمهور، مثلًا يسمع أغنية "يا بروحي من الغيد" ولكن بطريقة مختلفة، بصوت خليجي مع الإيقاعات والصفقة، من التسجيلات التي عُملت زمان في الكويت أو البحرين في العشرينيات قبل النفط. وكان لديهم هذا النوع من الغناء. ويتكلم عن النص وكيف انتقل، وفي الأخير تُقفل باللحن اليمني المعهود للأغنية. والبرنامج كان لمدة ربع ساعة.

رحمة: كيف كان التفاعل مع البرنامج؟
نزار غانم: كان التفاعل كبيرًا، لدرجة أن الإذاعة قالت لي: إذا كان لديك أغنية خاصة بك يمكن أن نسجلها لك. وبالفعل سجلت عددًا من الأغاني التي قمت بتلحينها.
رحمة: ما أبرز هذه الأغاني؟
نزار غانم: أغنية "لو سواد العين سايل"، و"بنت بلدي"، و"أنشودة البدر" التي حدثتكِ عنها، وأغنية رابعة لشقيقي شهاب غانم.
رحمة: إذن سنتحدث عنها في الحلقة القادمة. مشاهدينا، وصلنا إلى نهاية الحلقة الأولى، ورأينا مراحل حياة الدكتور نزار، كسلمه الموسيقى درجة بدرجة. وفي الحلقة القادمة سنتحدث عما قدّمه الدكتور نزار غانم خلال 35 سنة من خبرته الطبية والفنية والثقافية.
ينشر هذا الحوار بالتزامن مع بثه على قناة "حكايتي" على يوتيوب، إعداد وتقديم الإعلامية رحمة حجيرة. لمشاهدة الحلقة (اضغط هنا)