صنعاء 19C امطار خفيفة

الشرق يشتعل والصراع يخرج إلى العلن

توتر سعودي- إماراتي يتصاعد فوق خرائط النفوذ في اليمن

توتر سعودي- إماراتي يتصاعد فوق خرائط النفوذ في اليمن
دبابة تابعة لقوات المجلس الانتقالي الجنوبي ـ AFP

تعيش المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن على وقع تحولات متسارعة أعادت تشكيل خريطة التحالفات وموازين القوة، في مشهد يعكس اتساع الهوّة بين السعودية والإمارات، الحليفين الرئيسيين في التحالف العربي. وتكشف المؤشرات المتلاحقة أن التفاهمات السابقة بين الطرفين وصلت إلى نقطة الانهيار، وأن الصراع على النفوذ بات ينتقل من مرحلة التنافس الصامت إلى مرحلة المواجهة المفتوحة فوق الأرض اليمنية.

بدأت شرارة التوتر في التصاعد، حين تقدّمت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتياً، في الثالث من ديسمبر الجاري، إلى وادي حضرموت، وسيطرت على مقر قيادة المنطقة العسكرية الأولى في سيئون، والقصر الجمهوري، ومطار سيئون، وعدد من المعسكرات والمقار الحكومية بعد انسحاب القوات المتمركزة فيها.
بالتوازي، تمددت القوات الجنوبية شرقًا لتُحكم سيطرتها على كامل الشريط الجنوبي وصولًا إلى المهرة، حيث تسلمت مواقع ومعسكرات ضمن عملية أوسع لإعادة توزيع السيطرة في جنوب شرق اليمن.
وفي الخامس من ديسمبر دخل لاعب جديد - قديم بقوة على خط المشهد، بإعلان قوات درع الوطن المدعومة سعوديًا، تسلم مسؤولية تأمين مطار الغيضة الدولي في المهرة، ومنفذ الوديعة البري، إلى جانب مباني أمنية وعسكرية، في المحافظة، في خطوة تعكس رغبة سعودية واضحة في الإمساك بالمنافذ البرية والمواقع الحساسة في الشرق.
قوات تابعة للمجلس الإنتقالي

تقاسم النفوذ

في خلفية هذه التطورات، برزت رواية سياسية - ميدانية مفادها أن ما جرى بدأ في الأساس كـتفاهم سعودي - إماراتي، مع مجلس القيادة الرئاسي لإزاحة نفوذ المنطقة العسكرية الأولى من شرق اليمن، باعتبارها "قوة شمالية" ذات صلة بحزب الإصلاح (الإخوان المسلمين في اليمن)، ومصدر توتر دائم مع المجلس الانتقالي والقوى المدعومة من أبوظبي، لكنّ القراءة الأعمق تشير إلى أن "الهدف الخفي" لم يكن فقط التخلص من المنطقة الأولى، بل إعادة توزيع النفوذ بين الرياض وأبوظبي شرق اليمن، حيث تسعى الإمارات لتثبيت حضور قواتها وذراعها السياسي - العسكري (الانتقالي) في حضرموت. بينما تريد السعودية أن تكون لها الكلمة الأولى في المهرة ووادي حضرموت ومنطقة الوديعة والحدود، تمهيدًا لمشاريع استراتيجية.

انقلاب الانتقالي يخرج اللعبة عن السيطرة

وفق هذه القراءة، كان من المفترض أن يجري إخراج المنطقة العسكرية الأولى، مع تمكين قوات محلية حكومية (ومن ضمنها درع الوطن) من بعض المنشآت الحيوية في الوادي، مع مراعاة دقيقة لحساسيات حلف قبائل حضرموت وميزان القوى المحلي. لكن ما حدث على الأرض أن المجلس الانتقالي - وبإيعاز إماراتي - وسّع تحركه إلى أبعد من حدود التفاهمات الأولية.
يمكن القول، إن الفعالية "الاستعراضية" في سيئون، تحولت إلى عملية عسكرية مكتملة الأركان انتهت بسيطرة قوات الانتقالي على مرافق الدولة، في مشهد رأته كثير من القوى المحلية عملية "استبدال سلطة بسلطة أخرى" أكثر من كونها إعادة انتشار منسقة.
بهذا السلوك، بدا الانتقالي، كما لو أنه استغل الضوء الأخضر السعودي - الرئاسي لإخراج المنطقة الأولى، ثم ذهب أبعد من المتفق عليه عبر فرض أمر واقع جنوبي - انتقالي على الوادي، على حساب الحلف القبلي والقوات المدعومة سعوديًا والمحسوبة على رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي (درع الوطن)، وعلى حساب قدرة الرياض على ضبط إيقاع المشهد.

انسحاب سعودي.. رسالة سياسية وعسكرية

هذا الانزلاق الميداني أثار غضب الرياض التي بدت وكأنها تُزاح من "ساحتها الاستراتيجية" شرق اليمن، ما دفعها الى اتخاذ عدد من التدابير الميدانية والدبلوماسية، حيث أقدمت الرياض على سحب طواقمها من مطار عدن ومستشفى الأمير محمد بن سلمان، بالتزامن مع تعطيل متعمد لتراخيص الإقلاع والهبوط قبل استعادة الحركة. هذا التحرك أعاد طرح سؤال جوهري: هل قررت السعودية كسر حالة "التعايش القسري" مع الانتقالي؟
مصادر سياسية أكدت لـ "النداء" أن الخطوة السعودية ليست إعادة تموضع طبيعية، بل جزء من تصعيد محسوب يهدف إلى إعادة ضبط العلاقة مع المجلس الانتقالي وإعادة تعريف خطوط النفوذ داخل عدن، بعد أن تجاوز الانتقالي - بدعم إماراتي- حدود السلطة المتفق عليها في إطار الشرعية.
في الشرق، ظهر مركز الاشتباك الأهم. فقد دفعت السعودية بتعزيزات كبيرة من قوات درع الوطن إلى المعسكرات الممتدة بين العبر والوديعة، وهو تحرك يحمل قراءة واحدة: الرياض لن تسمح للانتقالي بنقل مشروعه الانفصالي إلى وادي حضرموت والصحراء، ولن توافق على وجود قوة خارج سيطرة الدولة على حدودها الشرقية الحساسة.
وتدرك السعودية أن حضرموت والمهرة تمثلان ميدان المنافسة الأخطر، فهي مناطق غنية بالنفط والموارد، وتشكل منفذاً استراتيجياً يصل البحر العربي بالداخل الخليجي. في المقابل ترى الإمارات أن هذه المناطق جزء من مشروعها طويل الأمد لبناء شبكة نفوذ تتجاوز حدود عدن إلى الشرق العميق.

العليمي في الواجهة

شعر رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، أن عيدروس الزبيدي يريد ازاحته من المشهد، وفرض امر واقع على كل الجنوب، واستبعاد القوات المحسوبة عليه ( درع الوطن)، ما دفعه الى مغادرة فورية عاجلة لمدينة عدن باتجاه الرياض واصدر توجيهات بالتحقيق في احداث حضرموت وعبر عن رفضه قطعيا للخطوات الانفرادية ومحاولات فرض السيطرة من جانب احادي.
وفي الرياض، أعادت السعودية تنشيط موقع الرئيس العليمي، الذي ظهر خلال لقاءات مكثفة مع سفراء الدول الراعية للعملية السياسية بخطاب واضح ضد الانتقالي، واتهمه بارتكاب خروقات صريحة لمرجعيات المرحلة الانتقالية و"تقويض سلطة الدولة".
العليمي خلال لقاءاته في الرياض
هذا الظهور المكثف للعليمي لم يكن ليحدث بهذه النبرة لولا الإشارة السعودية الواضحة بأن الشرعية يجب أن تستعيد زمام القيادة السياسية، وأن دعم المجتمع الدولي يجب أن يتجه حصرياً للدولة، لا للسلطات الموازية.
وفي السياق ذاته، فعّلت الرياض أدواتها الدبلوماسية، واثمر ذلك بصدور بيانات من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى تؤكد دعمها للحكومة اليمنية ومجلس القيادة، وهو ما منح الشرعية مظلة سياسية قوية في مواجهة تمدد الانتقالي.

تحركات على الأرض

ضمن هذا التحرك، زار وفد سعودي رفيع بقيادة اللواء محمد القحطاني حضرموت، الثلاثاء، حيث شدد على ضرورة انسحاب قوات الانتقالي من حضرموت والمهرة، مؤكداً أن إدارة المحافظات يجب أن تكون بيد مؤسسات الدولة وسلطاتها المحلية. وكشف عن اتفاق مبدئي يقضي بإحلال قوات حضرمية في مواقع النفط ببترومسيلة، بما يضمن تحييد الموارد الاقتصادية عن الصراع.
 وفد سعودي بقيادة اللواء محمد القحطاني
في المقابل، رفع عيدروس الزبيدي سقف خطابه، مؤكداً أن "المرحلة وجودية"، وقال أمام قيادات في المجلس الانتقالي الجنوبي، الثلاثاء، إن المجلس ماضٍ في بناء ما سماه "دولة الجنوب العربي". ورغم حديثه الإيجابي عن التحالف، فإن خطابه بدا متعارضاً مع التوجه السعودي الجديد، ما زاد من تعقيدات المشهد.

ابن حبريش يظهر متوعداً

رغم الضربة التي تلقاها حلف قبائل حضرموت في هضبة الشركات النفطية، فإن الحلف - الذي تأسس عام 2013 كقوة قبلية تطالب بتمكين الحضارم من إدارة شؤونهم، ويتبنى خطابًا يرفض هيمنة الانتقالي - ظل ورقة سعودية مهمة في مواجهة تمدد أبوظبي ووكلائها.
وأمس الثلاثاء، اتهم رئيس الحلف الشيخ عمرو بن حبريش قوات الانتقالي باستخدام المسيّرات والمدرعات في "هجوم غادر" يهدف لفرض أمر واقع بالقوة.
 عمرو بن حبريش
وأكد ابن حبريش أن حضرموت ليست أرضاً مستباحة، وأن القبائل مستعدة للدفاع عن حقوق المحافظة، مهاجماً ما وصفه بـ "تواطؤ" بعض المسؤولين المحليين. كما أشاد بالدور السعودي في ضبط التوتر، معتبراً الرياض الضامن الأول لاستقرار الشرق.
الرسالة السعودية الضمنية هنا: إذا لم تُضبط الإمارات شهية الانتقالي في الوادي، فهناك حلف قبلي مسلح يمكن استدعاؤه أو إعادة تدوير دوره كورقة تصعيد.

مساعي إماراتية لفرض الانتقالي كسلطة أمر واقع

في الضفة الأخرى، تتحرك الإمارات باتجاه واحد واضح، وهو دعم تحركات المجلس الانتقالي، وفرضه كسلطة أمر واقع، كخطوة تمهيدية نحو انفصال جنوب اليمن.
وخلال الأيام الماضية دشنت أبوظبي حملة إعلامية منظمة لتسويق تحركات الانتقالي العسكرية، والاعتصامات في عدن وحضرموت، بالتوازي مع تصريح لمسؤول إماراتي لوكالة "رويترز" لمح فيه إلى شرعية الانفصال بقوله إن "وحدة اليمن شأن داخلي يخص اليمنيين".
هذا التحول في الخطاب يكشف أن أبوظبي لم تعد تخفي مشروعها السياسي في الجنوب، وأنها تستثمر في الانتقالي كقوة محلية موالية يمكنها عبرها إدارة نفوذ طويل الأمد في المناطق الحيوية. وهو تطور لافت يتناقض مع الخطابات الخليجية التقليدية تجاه الوحدة اليمنية.

جذور الخلاف وصراع يقترب من الذروة

يتجاوز الخلاف السعودي الإماراتي حدود التكتيك السياسي إلى صراع استراتيجي حول شكل اليمن المقبل. السعودية تريد يمنًا موحدًا أو شبه موحد، تدين سلطاته بالولاء للرياض، وبما يضمن استقرار حدودها الجنوبية ويمنع قيام كيان موالٍ لأبوظبي أو طهران في منطقة حساسة.
الإمارات تعمل على بناء يمن متعدد المراكز، تستطيع من خلاله التحكم بالموانئ وخطوط الإمداد والممرات البحرية عبر الانتقالي.
وبين المشروعين تتشكل ملامح صراع جديد في اليمن، انطلاقاً من المؤشرات الحالية التي توحي بأن العلاقة بين الرياض وأبوظبي دخلت مرحلة دقيقة، إذ أن مواقفهما الآن متصارعة بوضوح للمرة الأولى منذ 2015.
وبالتالي فإن الأسابيع القليلة المقبلة لن تقف عند تحديد مستقبل حضرموت والمهرة وحسب، بل قد تتجاوز ذلك الى مستقبل التحالف نفسه وميزان القوى في المنطقة.

الكلمات الدلالية