بين وضوح المشروع وغموض المسار
قراءة في الفارق بين الحوثيين والمجلس الانتقالي
رغم التعقيدات الكثيرة التي تحكم المشهد اليمني، يبرز في الساحة فاعلان أساسيان يتقاسمان السلاح والنفوذ في الجغرافيا اليمنية؛ جماعة الحوثي في الشمال، والمجلس الانتقالي في الجنوب، وبرغم التباعد الظاهر بينهما في الخطاب والأيديولوجيا، إلا أن مقارنة هادئة ومتعمقة تكشف عن تشابهات بنيوية كبيرة في آليات اشتغالهما، وتتبعها مفارقات جذرية في وضوح المشروع السياسي وملامح شكل الدولة التي يسعى كل طرف لتجسيدها على أرض الواقع، شمالاً وجنوبا..
على مستوى البنية والأسلوب، يتقاطع الطرفان في كون كل منهما يحمل مشروع لايقوم على مفهوم الدولة الوطنية الجامعة؛ فالحوثيون يتحركون وفق سردية دينية وسياسية ذات مركزية شديدة، تتجاوز فكرة الدولة الحديثة باتجاه مشروع عقائدي مغلق، أشبه بنظام ولاية الفقيه في ايران، فيما يستند الانتقالي إلى خطاب مناطقي، يُضفي على الجنوب صفة الكيان المنفصل ويحتكر تمثيله سياسياً وعسكرياً، وفي كلا الحالتين، لاينطلق أي من الطرفين من تصور جامع للدولة اليمنية الموحدة بكل أطيافها ومكوناتها وقواها الحية، بل من تصورات جزئية ضيقة تحدد المجتمع الذي يريده هو، وفق الولاء الجغرافي أو الانتماء الفكري العقائدي..!!
يُضاف إلى ذلك أن الطرفين اكتسبا نفوذهما عبر القوة المسلحة، والعنجهية المفرطة تجاه الغير، وليس عبر المؤسسات الدستورية او الانتخابات التشريعية؛ فالتمدد الحوثي بدأ باجتياح عمران فالعاصمة صنعاء ثم المحافظات الشمالية الأخرى، بينما رسّخ الانتقالي حضوره في عدن والضالع وبعض المناطق المجاورة لهما، من خلال السيطرة الميدانية وفرض الأمر الواقع على مؤسسات الشرعية، ثم تمدد إلى بقية المحافظات الجنوبية..
كما يشترك الطرفان في ارتباطهما الخارجي؛ فالحوثيون يستندون إلى دعم إيراني واضح واماراتي خفي، والانتقالي يركن إلى الدعم الإماراتي المتواصل، ماديا وإعلاميا ولوجستيا، مايجعل كلا الطرفين يتحركان ضمن مظلة إقليمية، تحكم خياراته، وتضبط إيقاعه، وترسم مساره..
تتجلى المفارقة الأهم بينهما في مستوى الوضوح السياسي، فالحوثيون مهما كان مشروعهم إقصائي أحادي، عنجهي همجي في التعامل مع الخصوم؛ لكنهم قدموا نموذج واضح المعالم لمشروعهم الذي يريدون فرضه إذا استتب لهم الأمر، حيث أعادوا تشكيل مؤسسات الدولة تحت اسم الجمهورية اليمنية، وأقاموا سلطة بديلة مكتملة الأركان في مناطق سيطرتهم، من مجلس سياسي ورئيس صوري وحكومة وبرلمان..
هذا النموذج، بكل مايحمله من إشكالات، وماعليه من ملاحظات، يظل نموذج مفهوم ومنسجم داخلياً، يعكس تصور الجماعة للدولة التي يريدون إقامتها..!!
أما المجلس الانتقالي فيتحرك ضمن مساحة ضبابية تفتقر إلى الحد الأدنى من الانسجام، فخطابه السياسي خطاب إقصائي أهوج؛ يدعو إلى استعادة الدولة الجنوبية، لكنه يمارس وجوده العملي ومصدر قوته وحركته من داخل الشرعية اليمنية التي يقول إنه لايعترف بها، لكنه يتحرك باسمها وتحت علمها الوطني، يستفيد من مظلتها حيناً، ويواجهها حيناً آخر..
ومع أنه يملك قوة عسكرية كبيرة وانتشار واسع ونفوذ أمني مؤثر، لاسيما في العاصمة المؤقتة عدن، إلا انه لايقدم نموذج حكم واضح، أو رؤية مؤسساتية قابلة للقياس أو البناء عليها لتصور ماهية الدولة التي يريدها مستقبلاً، بل يكتفي بالبلطجة الامنية والسيطرة الميدانية دون صياغة تصور لدولة بديلة أو حتى إدارة مدنية مستقرة في عدن أو غيرها من المناطق الواقعة تحت نفوذه، وكأنه لايملك مشروع او نموذج وانما ينتظر التوجيهات من خارج اليمن، ومابدا بدينا عليه كما يقال..!!
يمتد هذا التباين بين الطرفين (الحوثي والانتقالي) ليشمل الموقف من الوحدة الوطنية ورمزية الدولة، فالحوثيون، رغم إسقاطهم مؤسسات الشرعية، احتفظوا (شكلياً على الأقل) برموز الدولة اليمنية الواحدة، ولازالوا يرفعون علم الجمهورية اليمنية، ويستخدمون خطاباً يدّعي تمثيل اليمن كله شمالاً وجنوباً، ويرفضون فكرة التقسيم باعتبارها تتعارض مع مشروعهم السلطوي الممتد..!!
هذا التمسك بمبادى الوحدة والجمهورية لدى الحوثيين لايعكس بالضرورة رؤية وطنية، لكنه يعكس انسجام بين خطاب الجماعة ومشروعها القائم على دولة مركزية موحدة تحت قبضتها، من المهرة إلى صعدة..
في المقابل، يتخذ الانتقالي موقف صريح من الوحدة، إذ يرفع علم الجنوب حصراً، ويرفض العلم اليمني بل يحرص على تحقيره واهانته واحراقه او دوسه بالاقدام، ويصف الوحدة بأنها احتلال، ويطرح مشروع انفصال كامل، دون تقديم نموذج سياسي أو إداري بديل يوضح شكل الدولة المنشودة أو آليات إدارتها أو علاقتها بالإقليم والعالم. والنتيجة أن موقفه من الوحدة ليس فقط انفصالي بائس، بل يفتقر أيضاً إلى ملامح دولة دقيقة تملأ الفراغ الذي يفترض أن ينشأ بعد الانفصال كما يحلمون..
عند النظر إلى الصورة الكاملة، تبدو جماعة الحوثي؛ من منظور التحليل السياسي المحض، أكثر انسجاماً مع مشروعها، وأكثر وضوحاً في شكل الدولة التي تريدها، وأكثر قدرة على صياغة نموذج حكم (مهما اختلفنا معه) مقارنة بالمجلس الانتقالي الذي مايزال يتحرك وفق أجندة الممول، وتائه بين شعارات كبرى، ورهانات خارجية، وممارسات ميدانية غير مكتملة وغير ناضجة..
وكي لايتم الاصطياد في الماء العكر أؤكد ان هذا التقييم لايحمل أي إشادة بالطرف الأول، أو انتقاص من الثاني، بل هو تحليل واقعي يرتكز على معطيات ملموسة، ويصف حالة موجودة على الأرض، تكوَّنت عبر عدة سنوات من الصراع، ويدرس أسباب تمدد الأول ومبرراته وأهدافه، وتردد الثاني في إعلان مشروع دولة صريح أو بديل مقنع لما هو عليه الحال حالياً..
وبين هذا وذاك، يبقى اليمن، الذي تمزقه المشاريع الجزئية وتصادره البنادق المتنافسة، في حاجة ماسة إلى مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار لفكرة الدولة، ويضع حداً لحالة التشظي، وينقل البلاد من منطق الغلبة إلى منطق السياسة، ومن حكم الميليشيات إلى حكم القانون، ومن استهلاك الهوية الوطنية إلى إعادة بنائها على أسس عادلة ومستقرة، ومن حالة الإقصاء إلى بناء اليمن بيد كل ابنائه دون استثناء..
أما الشرعية فقد عجزت للاسف الشديد عن إنتاج رجال دولة حقيقيين قادرين على تحويل معاناة اليمنيين إلى فرصة لإنقاذ الدولة، ولم تقدّم نموذج يُحتذى، ولم تطرح مشروع وطني مقنع يجذب الناس إليها، بل غرقت في حسابات ضيقة، وصراعات داخلية، وارتهان متزايد للقرار الخارجي، وانشغلت بالمكاسب والمناصب على حساب فكرة الدولة نفسها، فَغاب النموذج الذي يلتف حوله اليمنيون، وبقيت البلاد معلّقة بين ضجيج السلاح وصمت المؤسسات، وابتعدت أكثر عن برّ الأمان الذي طالما حلمنا به..