المرساة الخارجية للاستقرار النقدي في اليمن
ملخص:
شهدت السلطة الشرعية في عدن خلال هذا الأسبوع تحولات سياسية وعسكرية عميقة، تمثلت في سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على المحافظات الشرقية وبسط نفوذه على كامل أرض الجنوب اليمني. اقتصاديًا، الاضطرابات السياسية والعسكرية تخلق صدمات عدم يقين تنعكس فورًا على (سعر الصرف، الأسعار، سلوك السوق، والتوقعات)، وقد مثّل اليمن نموذجًا كلاسيكيًا لذلك خلال سنوات الحرب وقبلها، حيث كان مجرد إعلان سياسي أو مؤتمر صحفي كافيًا لإحداث تغيّرات. غير أن ما جرى مؤخرًا يشير إلى تحول بنيوي في آلية انتقال الصدمة. فما الذي تغيّر؟
يهدف هذا المقال إلى تفسير هذه الظاهرة من خلال إطار الاقتصاد السياسي والنقدي، وتحليل المتغيرات الجديدة التي غيّرت طبيعة العلاقة بين الاضطراب السياسي والاستقرار النقدي في اليمن. قراءة في المتغيرات الفاعلة، مركزية القرار، ودور الرعاة الخارجيين، لتفسير: "لماذا صمدت السياسة النقدية اليمنية رغم التحولات السياسية والعسكرية الأخيرة؟"
أولاً: التحول في بنية السياسة النقدية
1- تحييد السياسة النقدية عن الحدث الميداني:
ما جرى يعكس لأول مرة حالة فصل نسبي بين الصدمة السياسية والمرجعية النقدية. البنك المركزي لم يتدخل بردّة فعل، ولم يبعث إشارات ارتباك، بل التزم بسياسة:
انضباط نقدي صارم.
عدم التوسع في الكتلة النقدية.
استمرار إدارة المدفوعات دون خلل.
استمرار أدوات التحكم بالسوق.
ما يعني أن السوق لم يتلقَّ إشارات ارتباك، وهو العامل الحاسم في سلوك سعر الصرف. فالأسواق لا تتفاعل مع الحدث، بل مع كيفية إدارة الحدث نقديًا. والسؤال الآخر: "من الذي يدير الحدث؟"
2- إعادة توجيه السياسة نحو "الثقة":
المرساة الخارجية لسعر الصرف مبنية على "سياسة التثبيت المُدار" المدعومة بتعهدات خارجية صريحة أو ضمنية، حيث يقوم الاستقرار على مرساة الثقة قبل توفير السيولة والاحتياطي. وهذا يفسر:
توقع السوق لتدخل الممول لا البنك فقط.
الثقة بأن الاحتياطي سيتم تعويضه خارجيًا عند الحاجة.
التزام سياسي خارجي بعدم ترك العملة تنهار.
تنتقل هذه المرساة إلى السوق عبر ثلاث قنوات: (قناة التوقعات، قناة التمويل المشروط بالإصلاحات، قناة الردع بالاحتياطي الخارجي). وهنا نفسر فقط قناة "التوقعات"، فالسوق يدرك أن:
انهيار العملة يعني فشل مسار سياسي إقليمي.
التكلفة السياسية على الراعي أكبر من تكلفة الدعم، وهذا ما تراهن عليه السعودية، وقد تُستثمر هذه المرساة سياسيًا بما يعيد تشكيل توازنات الشرعية.
تخفيض المضاربة حتى دون تدخل فعلي.
يمكن القول إن السياسة النقدية اليمنية انتقلت من الاعتماد على الثقة في التوازنات السياسية الداخلية إلى الاعتماد على الاستقرار الخارجي، وبذلك أصبحت مرساة الاستقرار خارجية المصدر، للأسباب التالية:
الثقة بالممول الخارجي.
الالتزام بالمشروطية الإصلاحية المدعومة.
المصداقية أمام الرباعية والمؤسسات الدولية.
3- تماسك التوقعات لا غياب الخطر:
فالأسعار وسعر الصرف لم تثبت لأن الحدث غير مهم، بل لأن للبنك سياسة محددة واضحة مسبقًا:
أ. السوق أصبح يثق بأن البنك المركزي قادر على الامتصاص.
ب. لا يوجد خوف من طباعة نقدية طارئة.
ج. لا توجد فوضى في قنوات الإنفاق أو المدفوعات.
د. الحدث كان عسكريًا كبيرًا، لكن لم يُترجم إلى صدمة نقدية.
4- السيطرة السياسية مقابل وحدة القرار الاقتصادي:
رغم التغير في موازين القوة على الأرض، لم يحدث: (انقسام في السلطة النقدية، أو إعلان مالي تصعيدي، أو تهديد لقنوات التجارة أو الاستيراد). فالسيطرة تمت مع استمرار الإطار الشرعي الاقتصادي، وهذا خفّف الأثر.
5- الفرق بين "العنف" و"عدم اليقين":
اقتصاديًا، السوق لا يخاف العنف بقدر ما يخاف: (الغموض، الانقسام المؤسسي، فقدان المرجعية). وما حدث في الجنوب كان حاسمًا وسريعًا، لا فوضويًا ممتدًا، ما عزز عدم الانقسام الداخلي، وبالتالي قلّل عدم اليقين بدل تعظيمه.
ثانيًا: الرعاة الخارجيون
صحيح أن اللاعبين الخارجيين بقوا كما هم، لم يتغيروا، ولكن وزن الداخل تغيّر من خلال:
الداخل أصبح أكثر قابلية للضبط.
تكلفة التعامل معه أقل.
شروط المتابعة أسهل.
هنا تتحسن العلاقة مع الراعي لا لأنه تغيّر، بل لأن الشريك المحلي أصبح أكثر كفاءة. لكن السؤال: "هل ستتغير العلاقة مع الفاعلين الخارجيين وتعيد ترتيب المتغيرات النقدية؟"
فالسعودية، الإمارات، الرباعية، والمؤسسات الدولية تلعب دور الفاعل الحاسم في معادلة الاستقرار النقدي، من خلال متغيرات:
التمويل المباشر وغير المباشر.
ضبط السلوك المالي للحكومة.
فرض سقف على السياسات التوسعية.
ومن هذا المنظور، فإن أي قرارات يتخذها الراعي قد تحمل آثارًا نفسية واقتصادية للأسواق تفوق أحيانًا أثر أحداث عسكرية داخلية، لأنها صادرة عن الراعي لا عن الميدان. وهذا يرسم ملامح أن معركة المستقبل، العسكرية والاقتصادية، متينة بمتانة المتغير الخارجي الراعي، وليس الاقتصاد الوطني.
ثالثًا: مركزية القرار الجنوبي كمتغير جديد
من أهم المتغيرات البنيوية التي برزت مؤخرًا مركزية القرار في الجنوب اليمني بعد سنوات من التشظي بين عدة قوى محلية. اقتصاديًا، تُعد مركزية القرار عاملًا حاسمًا لأنها:
تقلّص عدم اليقين.
توحّد قنوات الجباية والتحصيل.
تمنع تعدد وازدواج الرسوم والقرارات المالية والأجهزة التنفيذية.
تسهّل تنفيذ السياسات النقدية على الأرض.
وبالتالي تصبح السياسة النقدية: أكثر ارتباطًا بالإصلاح والتمويل، وأقل ارتهانًا للفوضى الداخلية.
رابعًا: مركزية القرار في اقتصاد الحرب: عودة الدولة أم نقيضها؟
لا سياسة نقدية فعّالة دون سلطة مركزية تسيطر على الأرض والمورد. وبهذا المعنى، يجب أن ينظر إلى مركزية القرار الجنوبي على أنها لم تُضعف الاستقرار النقدي، بل قد تعززه عبر تقليل الفوضى المؤسسية. وقد أثبتت أدبيات الاقتصاد السياسي للأزمات النقدية، ودراسات باول كولير، وأنك هفلر، وفيليب لو بيلون، أن مركزية القرار تُعد:
شرطًا لإنهاء اقتصاد الحرب، أو
أداة لتحويله إلى اقتصاد دولة.
ويتحدد الفرق بناءً على:
طبيعة المركزية المتوقعة (مؤسسية لا فصائلية).
شفافية إدارة الموارد.
اتجاه السياسات (دمج لا إقصاء).
ما يجري في الجنوب يمكن اعتباره لحظة مفصلية: إما انتقال من التشظي إلى الدولة، أو إعادة إنتاج اقتصاد حرب مركزي بدلًا من اقتصاد الحرب اللامركزي الذي كان سائدًا.
خامسًا: الفصل بين الاستقرار النقدي والاقتصاد الحقيقي
رغم صمود سعر الصرف، ظهرت آثار اضطراب سوقية في سلاسل الإمداد: (غاز الطبخ، الوقود، النقل، والخدمات). وهذا يؤكد أن الأزمة ليست نقدية، بل لوجستية-سياسية؛ فالبنك المركزي نجح في حماية النقد، لكنه لا يمتلك أدوات مباشرة لحماية سلاسل الإمداد في ظل صراعات النفوذ، وهي سياسة معني بها الحكومة.
سادسًا: المتغيرات النقدية الحالية
يمكن تحديد المتغيرات المؤثرة في المعادلة النقدية اليمنية حاليًا كما يلي:
1. موقف الممولين الإقليميين: تأثيره مرتفع جدًا.
2. الالتزام بالإصلاحات: تأثيره مرتفع.
3. وحدة القرار النقدي: تأثيره مرتفع.
4. مركزية القرار المحلي: تأثيره متوسط–مرتفع.
5. الأحداث العسكرية الداخلية: تأثيره ضعيف.
6. اضطرابات سلاسل الإمداد: تأثيره غير مباشر، ويعكس ضعف الحكومة.
سابعًا: هل التأثير مؤجل أم انتهى؟
يضع الباحث ثلاثة احتمالات واقعية، وهي:
الاحتمال الأول – الأقوى:
"التأثير جرى امتصاصه بالكامل" في ظل استمرار: (السياسة النقدية الحالية، انتظام الإيرادات، بقاء قنوات التجارة).
الاحتمال الثاني:
"تأجيل التأثير لزمن"، وقد يظهر إذا: (حدث صدام سياسي–اقتصادي مع الشرعية، اختلت وحدة القرار المالي، تغيّرت قواعد الإيراد أو الإنفاق)، وهو ما يهدد به الرئيس رشاد العليمي حاليًا، دون اكتراث لما قد يعكسه من حساسية على السياسة النقدية والوضع.
الاحتمال الثالث – الأخطر والأهم:
"تحول نوعي في العلاقة بين السياسة والاقتصاد"، أي أن اليمن دخل مرحلة جديدة يصبح فيها الاقتصاد أقل حساسية للسياسة، طالما بقيت المؤسسات تعمل تحت توجيهات الراعي الخارجي والتوازن الداخلي. وثبوت المتغير النقدي مؤشر على تغيّر في موازين سلطة الشرعية في المستقبل، وهو المرجح.
الخلاصة
ما حدث لا ينفي القاعدة الاقتصادية، بل يثبت أن السياسة النقدية القوية والعمل المؤسسي قادران على كسر العلاقة الآلية بين الاضطراب السياسي والانهيار الاقتصادي. وهذه ليست مصادفة ولا ظرفًا مؤقتًا بالضرورة، بل نتاج إدارة نقدية واعية، وتوقعات سوق مُسيطر عليها، ودعم منظّم.
ما جرى في الجنوب اختبار حقيقي، وقد نجحت السياسة النقدية في اجتيازه حتى الآن، غير أن هذا الاستقرار يظل:
1. مُستوردًا لا ذاتيًا بالكامل.
2. نقديًا لا اقتصاديًا شاملًا.
3. مرهونًا باستمرار التوافق بين القرار المركزي والرعاة الخارجيين.
يثبت هذا التحليل أن الاستقرار النقدي في اقتصاد هش لم يكن صدفة ولم تصنعه السياسة وحدها، بل هو تحول في بنية القرار، والانضباط المؤسسي، ومرساة الثقة الخارجية.