صنعاء 19C امطار خفيفة

الإمارات تمسك بالمقص والسعودية تتفقد الحواف

في كل مرة تتجه فيها الأنظار إلى اليمن، تكتشف أن خرائط النفوذ فيه تشبه رقصة قبائلية تؤدى على إيقاع متداخل بين دفوف الخليج وطبول البحر الأحمر، مع لحن جانبي يعزفه الأمريكيون في الخلفية كي لا ينسى أحد من يملك المفاتيح الحقيقية. ومع ذلك، فإن الجنوب اليمني يبدو اليوم وكأنه المسرح المفضل لعرض “المنافسة الصامتة” بين السعودية والإمارات، تلك المنافسة التي لا تعلن عن نفسها، لكنها تهز الطاولة كلما تبادل الطرفان الابتسامات أمام الكاميرات.

فالإمارات، منذ أن اكتشفت أن عدن لا تحتاج إلا إلى قليل من الرعاية والكثير من السلاح لتصبح مركز نفوذ قابل للتمدد، بدأت تصنع جنوباً جديداً يشبهها: حاد الزوايا، واضح الولاءات، قابل للضبط بالريموت. ومن هنا، لا تجد أي مشكلة في المضي قدماً في مشروع الانفصال، حتى لو تطلب الأمر “قصّ” اليمن إلى نصفين كما يقصّ الأطفال ورقة ملونة في درس الهندسة. مشروع التمكين هذا بالنسبة لأبوظبي ليس مجرد نزوة، بل استراتيجية دافئة تُقدَّم عادة مع فنجان قهوة من دلة خليجية في أبوظبي: دولة جنوبية مطلة على بحر العرب، صديقة للموانئ، مطواعة للتحالفات.
أما السعودية، فهي تكتفي حالياً بممارسة فضيلة الصمت الحكيم. لا تؤيد الانفصال، ولا تجرؤ على معارضته صراحة. موقف يشبه إلى حد بعيد من يجلس في مجلس قبيلة وهو غير متأكد إن كان سيؤيد الشيخ أم ينسحب قبل أن تُوزَّع البنادق. لذا، اكتفت الرياض بـ"إعادة تموضع" قواتها في حضرموت، خطوة تمت صياغتها ببلاغة دبلوماسية تجعل الانسحاب يبدو وكأنه مناورة تكتيكية مدروسة لا علاقة لها بأي ضغوط أو حسابات دقيقة في ميزان القوى.
وها نحن أمام المشهد الحضرمي الجديد: فراغٌ سعودي محسوب بميزان الماء، وتمددٌ إماراتي محسوب بميزان الذهب. وإذا سألت عن الأسباب، ستجد الإجابات تتزاحم: البعض يقول إن السعودية متعبة من المعارك المفتوحة، آخرون يرونها محاولة لضبط العلاقة مع الحوثي، وهنالك من يهمس بأن الأمريكي يريد ذلك. لكن ثمة تفسيراً أكثر طرافة: أن أبوظبي قررت الرد على تصريح لمحمد بن سلمان في الولايات المتحدة حول السودان، تصريحٌ أزعجها لأنه ضمناً يضع إصبعاً على دورها في الحرب هناك. ولأن السياسة في الخليج تشبه لعبة “الرسائل المقنّعة”، فقد اختارت الإمارات الرد من اليمن لا من السودان؛ إذ لماذا تبذل جهداً في قلب إفريقيا بينما يمكنك إعادة رسم حدود نفوذك في حضرموت خلال أسبوع واحد من تحريك الوكلاء؟
هكذا، يصبح التمدد الإماراتي في حضرموت ليس مجرد توسيع جغرافيا نفوذ، بل رسالة مُغلّفة بإتقان: إذا لعبتم في ساحتنا السودانية، فسنعيد تدوير أوراقكم في اليمن. وفي الوقت نفسه، تتظاهر السعودية بأن الأمر جزء من “التفاهمات” بينما هو في الحقيقة جزء من “المضايقات”. فالعلاقة بين البلدين لم تعد علاقة أخوين يتقاسمان لقمة العيش، بل علاقة شريكين يختلفان كل ليلة حول طريقة ترتيب الكراسي في المقهى.
ومع ذلك، ورغم كل هذا الشدّ والجذب، لا أحد يتوقع صداماً مباشراً بينهما. فالسعودية مشغولة ببرنامج التحول الاقتصادي، ومفاوضاتها مع الحوثيين، وتحسين صورتها الخارجية. والإمارات تفضّل الحروب الذكية التي تخاض بالسياسة والشركات الأمنية، لا بالجيوش النظامية. لذلك سيظل الخلاف بينهما شبيهاً بخلاف زوجين في قصر واسع: كل طرف يدخل جناحه الخاص، ويترك الباب موارباً لزيارة غير متوقعة.
ووسط هذا كله، يبقى الجنوب اليمني هو الحلقة الأضعف والأقوى في آن واحد: الأضعف لأنه مساحة صراع الوكلاء، والأقوى لأنه الورقة التي يلوّح بها كل طرف حين يريد الضغط على شريكه الخليجي. حضرموت اليوم ليست مجرد محافظة؛ هي غرفة عمليات سياسية، ومن يدخلها يخرج إما منتصراً أو مثقلاً بحسابات جديدة.
وإذا أردنا أن نتنبأ بالمستقبل، فسنقول إن الإمارات ستستمر في مسارها نحو ترسيم جنوب يتحدث بلهجتها الاستراتيجية، والسعودية ستواصل لعب دور الشريك الحذر الذي لا يريد خسارة اليمن ولا يريد حرباً مع الإمارات. وبين هذا وذاك، سيبقى اليمن كما عهدناه دائماً: مسرحاً مفتوحاً لعرض طويل، لا أحد يعرف متى يصل فيه الممثلون إلى المشهد الأخير، ولا متى يقرر المخرج - الأمريكي غالباً - إطفاء الأنوار.

الكلمات الدلالية