حين كان التنوع حياةً: هل نعيد اكتشاف التعايش؟
في زوايا الميناء القديمة، كما في أزقة تونس العتيقة، لا تزال الحجارة تنطق بلغات شتى، وتشهد على أزمنة كان فيها الإنسان يُعرَف أولًا بجيرته، بعمله، بابتسامته، قبل أن يُعرَّف بطائفته أو انتمائه السياسي. هي شواهد صامتة، لكنها تحكي لنا أن التعايش ليس حلمًا طوباوياً، بل واقعًا عاشه أهل هذه المنطقة لقرون.
ربما لا يعرف الكثير من شباب اليوم أن الميناء، كما غيرها من المناطق الساحلية، كانت يومًا بيتًا لمجتمعات متنوعة من أديان ومذاهب وأعراق وثقافات مختلفة. لم يكن التنوع مصدر تهديد، بل كان نسيجًا غنيًا من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ففي الشارع الواحد، كانت تتجاور البيوت وتتشابك الأيادي في الأفراح والأحزان، دون أن يكون الاختلاف عائقًا، بل كان حافزًا للمعرفة والانفتاح والتكامل.
فما الذي تغيّر؟ ولماذا نشعر اليوم أن هذا التعايش بات بعيدًا، وكأنه ذكرى من الماضي أو مشهدًا من فيلم قديم؟
يعيش اليمن اليوم تحوّلات عميقة، ويتعرض النسيج الاجتماعي لضغوط متزايدة. عوامل كثيرة ساهمت في إضعاف روابط الثقة بين الأفراد والجماعات: الصراعات السياسية، الخطابات المتطرفة، الاستقطاب الإعلامي، وضعف المؤسسات التربوية والثقافية. ومع هذه التحديات، يصبح من السهل الوقوع في فخ التعميم، وتغذية مشاعر الخوف من الآخر، وكأن الاختلاف خطرٌ يجب اجتنابه بدل أن يكون فرصة للفهم والتكامل.
لكن، ماذا لو نظرنا إلى الوراء لا لنحِنّ إلى الماضي، بل لنستلهم منه ما يساعدنا على بناء واقع أفضل؟
التاريخ المحلي ليس فقط مجموعة من التواريخ والمعارك، بل هو مرآة لقيم عاشت في الناس وسادت بينهم. من بين هذه القيم، تبرز روح التآلف والتعاون والاحترام المتبادل، التي كانت جوهر العلاقات اليومية. كان الناس يؤمنون أن الإنسان يُحترم بصفته إنسانًا، وأن كرامته لا تتوقف عند حدود انتمائه.
وهذا المفهوم، في جوهره، يُعيدنا إلى مبادئ إنسانية عالمية تؤكد أن التنوع لا يتناقض مع الوحدة، بل يشكّل أساسًا لها. فكما تتكامل ألوان الزهور في حديقة واحدة دون أن تتشابه، يمكن للمجتمعات المتنوعة أن تعيش ضمن نسيج واحد، شرط أن تُبنى العلاقة بينها على أسس راسخة من العدالة، والمساواة، والصدق، وروح الخدمة.
ربما لا نحتاج إلى اختراع مفاهيم جديدة، بقدر ما نحتاج إلى إعادة إحياء المبادئ التي عرفها أجدادنا وعاشوا بها. المبادئ التي تدعو إلى الحوار بدل التصادم، وإلى بناء الجسور بدل الحواجز، وإلى النظر إلى الآخر بعين الشراكة لا بعين الريبة.
التعايش لا يعني ذوبان الهويات، ولا يعني تجاهل الاختلافات، بل يعني احترامها وإدارتها بحكمة ونضج. وهو يبدأ من أبسط الأماكن: من المدرسة، من الحي، من العائلة، من قرار فردي بأن لا نُسلّم آذاننا للخطاب السلبي.
في الميناء، ما زال بإمكاننا أن نعيد إحياء هذا النموذج. فالتاريخ لا يعود، لكن روحه يمكن أن تسري في الحاضر، إن توفرت الإرادة. التحديات كثيرة، لكن الأمل موجود، وهو يبدأ بإيماننا أننا نستحق مجتمعًا أكثر عدلًا ورحمة، وأن التعايش ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة لحياة كريمة وآمنة لكل فرد.