صنعاء 19C امطار خفيفة

بهدوء

بين الهدوء المتسم بالوجوم والصمت الحذر المتسم بالذهول، فما يجري على الأرض بدا للكثيرين كما لو أنه حدثٌ ليس كبيرًا فقط، ولكنه حدثٌ مذهل يعيد محو صورة في الأذهان ترسخت لدى البعض، وكان الاعتقاد أن محوها يعتبر نوعًا من المستحيل. بينما نظر لها البعض من منظار العارف بيقين السياسة وتحولاتها، إذ لا ثابت بعالم السياسة غير شيئين:

أولًا: تغيّر موازين القوى على الأرض بين أطراف القوة في أرض المعركة.
ثانيًا: تغيّر مفهوم معنى ومعايير المصالح التي يتم الدفاع عنها وما يحيط بها من مستجدات ومؤثرات.
هذان العاملان لا يتشكّلان فجأة، لكن ما يجري على الأرض من تغيّرات كمية ونوعية حاكمة للمصالح يدفع تلقائيًا هذا الطرف أو ذاك ـ إن رأى أن اتجاه الرياح يعاكس مصالحه ـ لإعادة حساباته.
ما جرى في بلادنا بالضبط لا يخلو من ذلك، لأنه مع الأسف الشديد كان بلدًا مأسورًا ورهينة لعوامل ليس هو من يديرها أو يتحكم بمسارها، بل كان يشكّل أضعف حلقة فيها لعدة أسباب جوهرية، هي:
1. أنه أولًا بلد ممزق الأوصال.
2. لا يمتلك قراره السيادي؛ فهو مجرد تابع وتحكمه صراعاته الداخلية التي تتغوّل على مفاعيل سيادته، إما لأنها ممزقة أو موزعة بين أطراف متنازعة حتى الموت، ناهيك عن أنه لا يمتلك إرادة قوة موحّدة، أي جيشًا وطنيًا حقيقيًا.
3. موارده مستلبة فسادًا وخرابًا وسوء إدارة وتنازع سلطات متعددة.
4. إرادة البلد السياسية كانت وما تزال تحت الوصاية من ناحيتين:
وصاية دولية: الفصل السابع.
وصاية جوار قريب: السعودية والإمارات.
إضافة إلى وصاية أبعد: إيران.
هذا إلى جانب أن حالة البلد السياسية المنهارة سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا لأكثر من عقدين من الزمن كانت باهتة ممزقة، أضعف بنيانها الوطني وأودى بها إلى شتات ممزق، خاصة بعد انفراط عقد وحدة البلاد بعد حرب 94، مما أدى إلى تشتت وضعف القرار الوطني الموحد، وبات أكثر من جيب ينخر بجسد كيان ممزق على الأرض، تتلاعب به مجاديف قوى بعضها، بل أغلبها، ممن استحوذوا على مصادر الثروة والقوة تاريخيًا. لم يتبقَّ على الأرض سوى هيكل متهالك لا يمت لمفهوم الدولة بصلة؛ هيكل متناقض مرهق، مثقل بأعباء هيكلية لا تصلح لأن تشكّل كيانًا وطنيًا.
حانت أمامه فرصة تاريخية حقيقية تمثلت بمؤتمر الحوار الوطني الشامل، لكن تم وأده في مهده، لأن هدفه التاريخي ببناء دولة مواطنة حقيقية يتناقض بالمطلق مع مفهوم ومصالح ومراكز القوى التي حكمت وتحكمت بالثروة والقرار، ورأت بالمؤتمر خروجًا على حق إلهي، أو بتعبير أخف: حق لا يمكن التنازل عنه إلا بشروط لا تتوفر ولن يُسمح بتوفيرها. تلك هي الخلفية المظلمة التي كانت سببًا لفشل مشروع الوحدة اليمنية، كما أنها تمثل خلفية وعمقًا لما يجري اليوم ببلادنا المفتقدة لسيادتها المطلقة، الموزعة بين قوى حرصها على أنانية مصالحها الضيقة يتجاوز مصالح الجمهورية اليمنية المصادرة، سواء من الانقلاب بصنعاء أو بسبب ضعف وارتهان الشرعية لما يُملى عليها من الأوامر وفق مصالح طرفي التحالف، وغالبًا ما تكون في غير صالح اليمن الضعيف الممزق.
ضمن هكذا وضع، وهو قطعًا لم يأتِ من فراغ، كان نتاج تراكم وإخفاقات متتالية منذ الانقضاض على مؤتمر الحوار الوطني وما تلاه من ما سمي بعاصفتي الحزم والأمل، وكلاهما تبخّرا دونما أثر، عدا الأمور التالية:
انفراط عقد ما تبقى من رمز هزيل للجمهورية اليمنية حين تمت إزاحة رئيس يفترض أنه شرعي، وتشكيل مسمى بديلاً له لا يمتلك شرعية وطنية.
لم يُحسم طيلة الفترة السابقة أيٌّ من أمور الانقلاب على الدولة التي قامت الحرب على أساسها، ولم تجرِ على الأرض معارك حقيقية، بل ما حصل كان مثارًا للتساؤلات حتى الآن: لماذا قامت الحرب؟ ولماذا أطيح بعبدربه؟
ظل ملف القضية الجنوبية مرهونًا بكلام معلّق بالهواء؛ حتى اتفاق الرياض كان مجرد لوغاريتم يحتاج إلى خوارزميات لم تكن ببال أحد. لكن القضية الجنوبية على أرض الواقع كانت لها مفاعيل يدرك قوتها من يرى أن أي حل لمشكلة اليمن لا يكون على حساب القضية الجنوبية، ولن تُحل مشكلة اليمن دون حل حقيقي لهذه القضية.
كل الأمور ظلت معلقة ورهينة لتوازنات قوى داخليًا وإقليميًا، ناهيك عن سطوة العامل الخارجي، مثلث الأضلاع، أقواه ما تقرره أمريكا كما حصل حين صنّفت جماعة الإخوان مؤخرًا، أو موقف بريطانيا صاحبة الإرث التاريخي الطويل بالجزيرة والخليج، ولن تميل عنه قيد أنملة، إلى جانب الدور الإيراني المتشعب مع الخليج وتواجده بالساحة اليمنية ممثلًا بالوضع القائم حاليًا بصنعاء، ولا ننسى ما تلعبه سلطنة عمان من أدوار لا يغيب عن أي تحرك فيها أحد الأطراف أعلاه.
وفي كل هذه الدوامة كانت بلادنا هي الحلقة الأضعف، ولا تأثير لقرارها المصادَر. لذا فإن ما يجري اليوم هو ترجمة لكل ذلك، وعليه نستطيع القول:
هكذا ظلت بلادنا تُدار من خارجها، وتمت شرذمتها على الأرض فرقًا وشيعًا وأطرافًا تتنازع. وللأسف، كان وما زال أضعفها ما خدعونا بتسميته بـ"الشرعية" وفق قرار الأمم المتحدة التي لم يسبق أن حرّكت ذبابة، عدا موظفيها يأتون ويذهبون تمامًا كما كانت تفعل "الشرعية" ذهابًا وإيابًا بين عدن والرياض وأبوظبي، ولم يلتقوا ولو مرة واحدة جميعهم كمجلس رئاسي في المكلا أو تعز أو مأرب أو غيرها. لكن... الصيف ضيّعتِ اللبن.
لذا ما يجري اليوم لم يكن مستبعدًا، وليس مستغرَبًا أيضًا. هناك قضية جنوبية بحاجة لحل، كنا نتمنى أن تُحل وطنيًا، لكن فاقد الشيء لا يعطيه. ونسأل: هل لا يزال متاحًا حيّز من الوقت لتجنب المزيد من إراقة الدماء؟
لا مفر من امتلاك الجنوب قراره السيادي.
حياة الشعوب ليست لعبة بيد تجار الدين والحروب.
تسوية مصالح الناس في اليمن كلها بعيدًا عن الحرب والاحتراب أفضل، أفضل بكثير من حالة الحرب والشتات وإثارة الضغائن التي يدفع ثمنها بسطاء الناس، ويتاجر بدمهم تجار الحروب وملاك قطاعات النفط من رموز ما كانت حقًا وحدوية، لكنها كانت تتاجر بالوطن باسم الوحدة.

الكلمات الدلالية