عيدروس.. القائد يتقن ملء الفراغات
عيدروس قاسم الزبيدي، اسم يبدو للوهلة الأولى كأنه خارج من دفتر قبيلة أكثر مما هو خارج من دفتر رئاسة. ليس سياسياً تقليدياً؛ فهو لا يعرف أين يبدأ النص الدستوري وأين ينتهي المخزن العسكري، لكنه يعرف شيئاً واحداً: أن كل فراغ في اليمن يحتاج إلى رجل يملؤه قبل أن يملؤه أحد آخر. وهذه بالضبط الطريقة التي صعد بها، ليس لأنه مُجهّز للمشهد، بل لأن المشهد نفسه لم يكن مُجهّزاً لأحد.
وُلد الرجل في مناخ يفضّل الأفعال على النظريات، وتشكل وعيه في جنوب يكتب تاريخه على عجل ويعيد شطبه على عجل أكبر. ولأن الظروف في اليمن مصممة على تحويل كل طامح إلى لاعب اضطراري، صعد عيدروس خطوة بعد خطوة، حتى وجد نفسه في لحظة ما نصف قائد عسكري، ونصف سياسي، ونصف شيء ثالث لا تزال اليمن تحاول فهمه.
وحين اندلعت أحداث 2015 وصار الجنوب فجأة مساحة مفتوحة للتحولات، برز اسم عيدروس كإحدى تلك الشخصيات التي تبدو وكأن القدر ناداها بالخطأ، لكنها أجابت بثقة. لم يكن السياسي الأكثر دراية، لكنه كان الرجل المتاح في اللحظة المتاحة، يحمل حظاً أكبر من صندوق أدوات سياسية. ومن تلك اللحظة صار مساره يتجه إلى أعلى.
ثم جاء ذلك الفصل الذي دخلت فيه الإمارات إلى المشهد، كمن وجد في الرجل مادة خام قابلة للقولبة. رأت فيه شخصية ميدانية قادرة على العمل السريع، ويمكن الاستثمار فيها سياسياً وأمنياً. لم تحتج أبوظبي إلى كثير جهد، فالرجل أصلاً في منطقة إسناد تبحث عن سند. وهكذا بدأ الاستقطاب: دعم سياسي، وغطاء إقليمي، وقنوات مفتوحة جعلت الرجل يتحرك بخفة من يبحث عن "تمكين" جاهز أكثر مما يبحث عن طريق. ولأن السياسة اليمنية تميل إلى القبول بأي يد تُمد إليها، صار عيدروس جزءاً من منظومة نفوذ عابرة للحدود، ووجد نفسه فجأة يمشي بخطين لا يلتقيان إلا في الخرائط الإماراتية.
من هنا وُلد الحزام الأمني. مشروع بدأ كفكرة أمنية، ثم تحول إلى ذراع عسكرية، ثم إلى سلطة سياسية، ثم إلى كيان يناقش نفسه مع نفسه، بينما تكتفي الشرعية بالنظر إليه من بعيد وكأنها تشاهد برنامجاً وثائقياً عن حيوان نادر لا تستطيع التدخل في بيئته الطبيعية.
ظهر عيدروس في المشهد السياسي كأنه لا يعتذر عن شيء. إقالته من منصب محافظ عدن عام 2017 لم تكن نهاية، بل كانت الشرارة التي جعلته يعلن “المجلس الانتقالي الجنوبي”. خطوة بدت للبعض مغامرة، لكنها تحوّلت لاحقاً إلى محور ترتكز عليه جميع خرائط الجنوب. بدا عيدروس الخيار الطبيعي لرئاسته؛ الرجل الذي يقف على الخط الفاصل بين السلطة والسلاح، وبين الحلم الجنوبي الذي لم يكتمل، وبين الواقع الذي لا يسمح له بالاكتمال. مجلس بقدر ما بدا مشروعاً سياسياً، بدا أيضاً امتداداً لنزعة مناطقية تبحث عن هيكل رسمي يلمّ شتاتها.
ثم جاءت لحظة تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، وهبط الرجل في أعلى بنية الدولة الشرعية كنائب رئيس، بينما قدماه لا تزالان مغروستين في تربة مشروع آخر. وبدلاً من أن يصبح وجوده جسراً بين المسارين، صار نسخة يمنية من الثنائية المربكة: مسؤول ينتمي لحكومتين في الوقت نفسه، ورجل يحمل مفاتيح بابين لا يفتحان على القاعة نفسها.
وبينما يحاول الرجل الحديث عن الدولة الجنوبية، يظهر أن أدواته في الإدارة لا تزال أقرب إلى روح التشكيلات المناطقية. الجنوب عنده ليس منظومة مؤسسات، بل خارطة تُدار بندّية القرى وتوازنات القبائل وذاكرة الميدان. ومن هنا صار الانتقالي أشبه بجهاز استشعار للمزاج الجنوبي أكثر منه مشروع دولة، بينما صار عيدروس نفسه ناطقاً باسم حلم لم يكتمل وباسم دولة لم تتشكل.
وبما أن قيادة الانتقالي تعتمد على شبكة تحالفات خارجية أكثر مما تعتمد على قدرة داخلية، وأن قراراتها تتنفس هواء يأتي من خارج عدن لا من داخلها، وجد عيدروس نفسه ممسكاً بمقود سيارتين تسيران في اتجاهين مختلفين: دولة تقول إنها تريد الاستقرار، ومجلس يريد أن يقطع الحبل السري معها، بينما يقف عيدروس محاولاً إدارة التناقض دون أن ينهار السقف فوق رأسه.
خصومه يتهمونه بأنه لا يمتلك رؤية اقتصادية أو مؤسسية لإدارة دولة، وأنصاره يرونه صاحب مشروع واضح لاستعادة دولة الجنوب. الحقيقة أن عيدروس نجح في صناعة وزن سياسي لا يمكن تجاوزه؛ ليس لأنه أفضل من غيره، بل لأنه كان الأوفر جهوزية، والأقل حساسية تجاه العار، والأقدر على التوازن بين الميدان والكرسي. هو ليس مجرد قائد عابر ولا مجرد ورقة تُسحب عند الحاجة؛ هو ظاهرة جنوبية تشكّلت من الحرب، تغذت على فكرة الدولة التي فقدها الجنوب منذ 1990، وتربت على فهم أن السياسة في اليمن ليست علماً بل لعبة ميدان.
لكن، مهما يكن، فإن قصة عيدروس ليست قصة رجل ضد دولة أو دولة ضد رجل، بقدر ما هي قصة اليمن نفسها في صورتها المركبة. بلد يطلب من السياسي أن يكون قائداً عسكرياً، ومن العسكري أن يكون رجل دولة، ومن الاثنين أن يقنعا الجمهور بأن الطريق واضحة بينما الطريق نفسها تتلوى كل صباح.
لا أحد يعرف إن كان عيدروس سيتحول في نهاية المطاف إلى زعيم دولة، أم سيبقى عنواناً لمرحلة انتقالية بلا مآلات واضحة، لكن المؤكد أن رحلته تعكس شيئاً عميقاً في المسار اليمني: أن الطموح في هذه البلاد لا يسير بخط مستقيم، وأن الداخل والخارج يكتبان مصير السياسي الواحد بالقلمين معاً.
عيدروس ليس مجرد شخص، بل فصل من كتاب اليمن الحديث. رجل يحمل مشروعاً ناقصاً وطموحاً زائداً، وواقعاً لا يطاوع أحداً. إنه ذلك النوع من الشخصيات الذي يثبت أن السياسة في اليمن ليست علماً، بل نظام تشغيل مليئاً بالمفاجآت.