صنعاء 19C امطار خفيفة

جنوب بمقاسات ضيقة

منذ تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي كان واضحاً، ولو بلغة الإشارات لمن لا يريد التصريح، أن المشروع ليس أكثر من مجلس قروي كبير يحاول ارتداء بزّة دولة أكبر منه بثلاثة مقاسات على الأقل، لكن أصحاب المشروع ما زالوا يتعاملون معه كتحفة فنية من عصر النهضة، فقط لأن أحداً لم يخبرهم أن العالم تجاوز مرحلة تعليق الصور على الجدران إلى إدارة الدول بأنظمة لا تُدار بالوراثة المناطقية.

وبينما يواصل المجلس الحديث عن "مشروع دولة”، يتصرف على الأرض كإدارة مجلس قروي يتلقى التعليمات من الخارج ويعيد توزيعها بلهجة محلية. إدارة مناطقية تُقسم الجنوب إلى ساحات نفوذ متجاورة، لا مؤسسات متماسكة. الضالع تسحب القرار إلى جهتها، يافع تضيف طابعها، لحج تبارك، وعدن تتحمل الأعباء وحدها.
هذا النموذج لا يبني دولة، بل يزرع حقول نزاعات مؤجلة. فكل خطوة تُنفذ خدمة لرغبة خارجية تزرع بذرة خصومة داخلية، وكل قرار لا يعكس الإرادة المحلية يفتح باباً لصراع جديد. المجلس الذي بشّر بـ“الجنوب الكبير” يخلق واقع “الجنوب المجزأ”، جنوب المناطق المتحفزة والولاءات المُصنّعة والترتيبات التي تتوسع حيناً وتنكمش حيناً آخر وفق الإشارة القادمة من الراعي.
مشكلة الانتقالي ليست فقط في طريقة إدارته، بل في أنه سلّم نفسه طوعاً ليكون جزءاً من منظومة نفوذ خارجية تتقاطع مصالحها مع تفتيت الداخل لا بنائه. الإمارات، التي لا تخفي بصماتها في تأسيس المجلس وتمويله وتدوير قياداته، لم تكن تخطط لتسليم الجنوب مشروع دولة، بل كانت تريد "وكيلاً حصرياً" يجيد الضبط الأمني ويضمن أن الموانئ والمطارات والمصالح تبقى في الحدود المريحة، وقد وجدت ضالّتها في كيان يجيد الولاء أكثر مما يجيد الحكم، ويُتقن رفع الشعارات أكثر من إتقان بناء المؤسسات.
والحقيقة التي لا يريد الانتقالي الاعتراف بها هي أن الجنوب بهذا الشكل لن يتجه نحو دولة، بل نحو عدة دول صغيرة جداً، ضيقة جداً، وقابلة للكسر جداً، تماماً كقطع الزجاج التي تتناثر بعد سقوط كأس على أرضية غير متوازنة. وكل منطقة ستصر على أنها "الوريث الشرعي" للهوية الجنوبية، بينما تُعامل بقية المناطق كضيوف ثانويين في فيلم طويل التمويل.
الدولة لا تُبنى على اتفاقيات تمويل، ولا تُدار بمنطق المقاطعات، ولا تنهض بذراع خارجية تتولى توجيهها. الدولة تحتاج مشروعاً وطنياً خالصاً نابعاً من الداخل، لا مشروعاً يُراجع في مكاتب السفر وينتظر الموافقة النهائية. وما يفعله الانتقالي اليوم لا يمهّد لطريق نحو استقرار، بل يفتح ممراً طويلاً لصراعات مستقبلية قد تكون أكثر ضراوة مما يتوقعه أكثر المتحمسين له.
وما دام القرار السياسي محصوراً في يد مجموعة تتناوب على احتكار الصوت والرمز والتمثيل، وما دام الدور الإماراتي يمسك بالخيوط الخارجية بتقنية إدارة المشاريع لا إدارة الشعوب، فإن النتيجة واضحة. الجنوب ليس ذاهباً إلى بناء دولة، بل إلى بناء مسرح جديد للصراعات الداخلية، مع إضافة تقنية صوت وإضاءة تمويلاتها من أبوظبي.
يمكن للانتقالي أن يرفع كل الرايات التي يريدها، ويمكن للإعلام الحليف أن يعزف كل الأناشيد التي تُعجب مموليه، لكن دولة لا تُبنى على منطق "مجلس قرية" مهما توسّع نفوذه، ولا على عقلية "الوكيل المحلي" مهما تعددت أدواره، ولا على تحالفات تقصد الاستقرار ولكنها لا تؤمن به. الدول تُبنى على مشروع وطني صلب. أمّا المشاريع التي تبدأ من المناطق وتنتهي في تمويل خارجي، فغالباً ما تنتج شيئاً شبيهاً بالدولة، له هيكل وراية، لكن بلا روح وبلا مستقبل.

الكلمات الدلالية