صنعاء 19C امطار خفيفة

ما بعد سيئون.. صراع "شرعيات" على أنقاض الدولة

ما يحدث في حضرموت لا يمكن قراءته كواقعة معزولة، بل كحلقة جديدة في مسلسل تفكك الدولة، ذلك التفكك الذي لم يعد يجري وفق معادلة "شرعية مقابل تمرد"، بل وفق واقع أكثر تعقيدًا: تعدد الشرعيات، وتعدد المراكز، وتعدد السرديات المتصارعة على وطن يتآكل من أطرافه ووسطه معًا.

تبدو سيئون اليوم كساحة يتقاطع فيها الإرث المتآكل للدولة مع مشاريع النفوذ المتجددة، وكأن كل طرف يحاول أن ينتزع اعترافًا بأنه "الشرعية الصحيحة" في زمن لم يعد فيه تعريف الشرعية ثابتًا ولا معترفًا به وطنيًا.
كل من هذه الكيانات تدّعي الشرعية وتستند إلى سلطة واقعية — عسكرية كانت أم قبلية أو إقليمية أو دينية — وهي تتصارع اليوم على أنقاض دولة انهارت فعليًا. المركز الذي كان يمسك بخيوط اللعبة تلاشى، والمؤسسات القادرة على احتواء التباينات أصبحت أثرًا بعد عين.
سيطرة القوات الجنوبية على سيئون لم تكن حدثًا منعزلًا، بل علامة بارزة على اكتمال تشكل ساحات نفوذ مستقلة. في ظل غياب سلطة الدولة المركزية، تتحول المدن والمحافظات إلى وحدات سياسية وعسكرية واقتصادية ذاتية، حتى لو ظلت رسميًا ضمن "الجمهورية اليمنية".
العامل المشترك في كل التحولات الأخيرة هو انهيار قدرة المركز على الفعل.. "الشرعية" لم تعد قادرة على فرض سلطتها، وفي المقابل، لم يعد ممكنًا وصف القوى الأخرى بـ"المتمردة"، لأنها امتلكت بنى مؤسسية وجيوشًا محلية وتحالفات إقليمية متينة. لقد أصبحت شرعيات موازية بكل معنى الكلمة.

سيناريوهات المستقبل:

وسط هذا المشهد تتشكل عدة مسارات محتملة، لا على الورق فقط، بل على الأرض أيضًا.
ورغم أن الانهيار بات حقيقة يومية، إلا أن خرائطه لا تزال في طور التشكل، ومن ضمنها:
السيناريو الأول: التفتت الدائم وتحول اليمن إلى كانتونات
يسير اليمن نحو تقسيم فعلي للجغرافيا إلى وحدات مستقلة بحكم الأمر الواقع:
 شمال حوثي: بسلطة مركزية صلبة تحكم بالعقيدة والعسكرة.
جنوب انتقالي: بمؤسسات شبه مكتملة، مع حضرموت في وضع شبه مستقل.
مأرب وتعز: كيان قبلي–حكومي يحتفظ بثروته النفطية وقراره الذاتي.
 الساحل الغربي: ساحات نفوذ لقوى محلية مثل قوات طارق صالح.
في هذا السيناريو تختفي الدولة اليمنية عمليًا، لتحل محلها كيانات مرتبطة بعلاقات خارجية منفصلة، حدودها الداخلية أكثر واقعية من حدودها الدولية المفترضة.

السيناريو الثاني: التفاهمات الإقليمية — الوحدة الاسمية

قد تؤدي الترتيبات الإقليمية بين السعودية والإمارات وعُمان وإيران، برعاية أمريكية–غربية، إلى صيغة تهدئة دائمة بدلًا من حل سياسي شامل. هنا تُعاد هيكلة المؤسسات الأمنية وفق ميزان القوى الإقليمي، ويبقى اليمن "دولة واحدة" على الورق فقط. هذا السيناريو لا يعيد بناء الدولة، بل يجمّد التفكك تحت إدارة خارجية مشتركة.

السيناريو الثالث: انفجار التناقضات داخل الجنوب

ففي الجنوب، ورغم الخطاب الموحد الذي يقدمه المجلس الانتقالي، فإن البنية الداخلية شديدة التباين. فعدن والضالع ولحج ليست شبوة، وهذه ليست حضرموت أو المهرة أو سقطرى. كل منطقة تحمل تاريخًا مختلفًا، وطموحًا مختلفًا، وحسابات خارجية مختلفة.
إن أي محاولة لفرض صيغة واحدة للجنوب — أو مركز جنوبي مهيمن — قد تفجّر التوترات المكبوتة بين مكوّنات التحالف الجنوبي نفسه.
وما يبدو اليوم "جبهة جنوبية موحدة" قد يتحول غدًا إلى شرعيات متعددة داخل الجنوب ذاته، تمامًا كما يحدث في الشمال، حيث تتجاور مشاريع وآليات حكم ونفوذ منفصلة رغم أنها تعمل تحت مسمى واحد.
وهذا يعني أن الجنوب قد يدخل مرحلة تفكك داخلي تعيد رسم المشهد كله؛ فبدل أن يكون الجنوب كتلة سياسية موحدة، يصبح شبكة من مراكز النفوذ المتوازية، لكل منها امتداداته وتحالفاته وقراره الخاص.

شرعيات متعددة ودولة تتلاشى

يكشف مشهد حضرموت الحقيقة المُرّة: الدولة في اليمن لم تعد موجودة إلا كذكرى في خطابات السياسيين. الصراع لم يعد بين من يسقط الدولة ومن يدافع عنها، بل بين من يسعى ليؤسس دولته الخاصة على جزء من جغرافيا مشتركة.
إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن اليمن مقبل على مرحلة طويلة من التفكك المنظّم، تُدار فيها البلاد بخريطة نفوذ لا تشبه الدولة التقليدية، ولا تشبه الحرب المعلنة، بل وضعًا هجينًا يجمع أسوأ ما في الاثنين.
الخيارات لم تعد بين "وحدة" مجردة و"انفصال" بسيط، بل بين أشكال مختلفة من إعادة التشكيل الجيوسياسي.
الأطراف اليمنية لم تعد تحارب لتحقيق انتصار نهائي، بل لتأمين حصتها في النظام الجديد الذي يُرسَم على الأرض.
الضحايا الدائمون في هذه المعادلة هم الشعب اليمني، الذي يدفع ثمن صراع لا ينتهي، حيث تكون الغلبة دائمًا لمن يملك القوة المحلية ويدعمه حليف خارجي، بينما تبقى فكرة الدولة العادلة والمستقرة حلمًا بعيد المنال، يغدو أكثر بُعدًا مع كل "تحرير" جديد، ومع كل "شرعية" تعلن عن نفسها فوق أنقاض الوطن.

الكلمات الدلالية