"انتهى الدرس يا غبي"
الغبي عديم الذكاء، والدرس لمن لا يفهم كيف يسير الزمن. "انتهى الدرس يا غبي" مسرحية للكاتب المصري الكبير لينين الرملي، قُدمت على خشبة المسرح عام 1975. تذكرت المسرحية وأنا أتابع فصول مسرحية ما دار بحضرموت، خاصة فصلها الأخير. لم تكن هي المراد بما جرى، لكن حضرموت كانت العبارة التي عبرت بها سفينة نوح اليمنية المحملة بكل إرث ومشاكل اليمن، والتي زادت تعقيدًا ولم تفلح كل العلاجات والأدوية التي قررها أطباء صناعة الأزمات في بلدان الواق واق، وعلى رأسها بلاد الواق واق اليمن البائس تحت هيجان التمزق والضياع، خاصة بعد هوجة الربيع العبري اللاعربي اللعين.
بعد أن خرجت بلادنا من دوامة السجن الذي طالها تحت حكم الزعيم، وبمساندة طرفي قوة القبيلة وسطوة الأمن والمال، وتطويع دين محمد الكريم لخدمة مشروع إخواني متمدد بأكثر من بلد تحت سمع وبصر من يرتبون أوضاع الدول الهشة بما يتواءم مع مشروع الهندسة الإثنية القبلية للبلدان. وإن تمكن أي بلد من الخروج من وبالها، أي من تلك الوصفة، فإنه يظل تحت قيد الحصار. حالة مصر مثالًا.
وللأسف فإن بلادنا، المصابة بفقدان الوعي وارتجاج المخ لدى عقول النخب، وعفوًا لاستخدام كهذا الوصف، فلا نخب ولا يحزنون. هم مجاميع من فائض أنظمة انتهى مفعولها السياسي على الأرض. جرى ذلك بكل البلدان التي اجتاحها مغول الربيع العربي. ليبيا ما تزال تائهة، والعراق تقاسمته إيران وأبقت حيزًا لحراك رمزي مع الجوار، وها هو السودان يجري تمزيقه، وبلادنا حدث ولا حرج. أدخلوها غيبوبة الحرب، ولم تُفق منها إلا على سطح صفيح ساخن سيحرق جسد من لا يقبل الوصفة.
تجلّت تلك الوصفة بشطب رئيس سموه مرة منتخبًا ومرة توافقيًا، لكن بعد أن تجرع مشروع عاصفتي الحزم والأمل ليخرج منهما بخفي حنين، ثم يتم اقتلاعه بليلة ظلماء، ليأتي المسار التعيس الذي ولجته بلادنا ببديل أكثر تعاسة، على شكل مجلس رئاسي لم يرَ البلد على أيديهم إلا التندر والحسرة. وفي الوقت الذي ظل غيم صنعاء الثقيل يلقي بظله الخانق، لم يُجابه بمشروع مقاوم حقيقي ينهي أزمة بلادنا، التي ظلت تتأرجح بين نارين: نار حرب تأخذ أشكالًا عدة ترهق كاهل الوطن والمواطن، وحرب يشنها طرف الانقلاب، ولم يُواجه على الأرض بمشروع حقيقي يضع نهاية لمأساة شعب تدمره صراعاته الجانبية التي تنبثق هنا وهناك، وبصور مختلفة، جرى خلالها تمزيق البنية الوطنية الجامعة، وصاحبها صعود مشاريع تتعارض مع هدف إسقاط انقلاب صنعاء والمضي قدمًا نحو استعادة دولة المواطنة الحقة.
إن وُجدت دولة مواطنة حقيقية لتمكنت بالفعل السياسي المقاوم والتوافق الوطني من حل كل ملفات التناقض الأساس التي تضعف وترهق كاهل يمن موحد، أعني كل الملفات، وأولها ملف القضية الجنوبية المستحقة إيلاء عناية وطنية يتمثلها تمثلًا حقيقيًا يليق بحجمها.
ما دار خلال الأيام الأخيرة، خاصة أمس الأول وأمس واليوم، لم يأتِ من فراغ، بل أتى حصيلة تراكمات سلبية داخلية وخارجية. لكن والحق علينا قوله، فكلما كان الداخل ضعيفًا متآكلاً سهل اجتيازه وبعثرت ما تبقى بداخله من تناقضات لا تضعفه فقط، بل تكاد تقضي عليه، لأن عنصر قوته مستمد أساسًا من شرعية غير داخلية. والقوى الداعمة، إقليمية أو دولية، لها مصالحها وقراءاتها الخاصة، خاصة الولايات المتحدة والأطراف التابعة لها والتي تدور في فلكها، وكلها للأسف تتلاقى مع ما بات يُطرح علانية عن إعادة تشكيل شرق أوسط جديد ضمن نهج إبراهيمية تلمودية
Ibrahim Accord.
شهدت المنطقة متغيرات متسارعة بعد سنوات حرب غزة وحصارها وتضييق الخناق على مشروع الدولة الفلسطينية، لتخيّم على المنطقة مفاجآت من العيار الثقيل. فسوريا انتهت، ولبنان أمام تهديد حقيقي بحرب أهلية مدمرة، والسودان يدمر، وعلى الطريق يبتكر السيد ترامب من مخازن أمريكا القبيحة، إلى جانب تعريفاته الجمركية، ملف الإخوان المسلمين، ملوحًا بالحظر والمتابعة والإلغاء. ولم يكن ترامب اللاعب الوحيد، فملف الإخوان تاريخيًا إرث بريطاني ثقيل، لكن العصا البريطانية لم تحرك ساكنًا تجاهه، بل تركت الحبل على الغارب، وتركت وكلاءها يحركون هذا الملف عند الحاجة، وإن أمكن عبر وسائط دول عربية تملك التمويل لمتابعة هذا التنظيم الدولي، وتتغامز دون حياء وجه دولة الكيان الصهيوني وهو يفتك بغزة وشعبها. لكن ذلك موضوع آخر.
دعونا نعود لما جرى ببلادنا، ولِما تم في ملف المنطقة العسكرية الأولى بالصورة التي تمت وتابعناها وشاهدناها. ونسأل: لِمَ لم يتم عبر مشروع وطني نقل وتحريك وتحويل قوى المنطقة العسكرية الأولى بالوادي ضمن ترتيبات متكاملة مع قوى الشرعية، إن وجدت، وإمكانات التحالف العربي، مع دعم دول اللجنة الرباعية؟ كل ذلك لم يحدث.
ما حدث تم في إطار تحجيم ومحاصرة ما تبقى للإخوان من عناصر القوة في بلادنا، وذلك جيد لو تم في إطار مشروع وطني يخدم حضرموت والجنوب واليمن كله، لكن ما حدث كان شبيهًا بمسرحية نقل السلطة من هادي إلى المجلس الرئاسي، مجلس لم ترَ منه البلاد إنجازًا حقيقيًا عدا حوادث المناكفات بين أعضائه. وكل شعبنا يدرك ذلك لأنه يعيش ويلات جحيم متعدد الأوجه: أمنيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. أما سياسيًا فلا مناص من القول إن أمور البلد الأساسية تُدار وتُفرض عبر سيناريوهات تُعد خارجيًا وتُمرّر، تمامًا كما حدث بحضرموت، والأيام ستبين ذلك بجلاء، رغم أن بعض الخبايا قد تسربت وأفصحت عمّا يكمن وراء الأكمة.
كنا نأمل أن يتم ما تم في حضرموت ضمن جهد وطني متكامل، وضمن مشروع يستلهم أخطاء ما شهدته البلاد طيلة الأعوام الكالحة التي مرت، ولا تزال البلاد وشعبها يعانون من ويلاتها.