المسافة بين اليمن واليمنيين
على امتداد الثلاثين عامًا الماضية، لم تكن معاناة اليمن مجرد أزمات سياسية عابرة أو صراعات سلطوية مؤقتة، بل كانت مسارًا متراكمًا من الانكسارات العميقة التي صنعت فجوة متسعة بين الوطن وأبنائه. لم تعد المسافة بين اليمن واليمنيين مسافة جغرافية فقط، بل تحولت إلى مسافات متعددة في الانتماء، والثقة، والعدالة، والحياة اليومية، بل وحتى في معنى الوطن ذاته.
شهد اليمن خلال هذه العقود اضطرابات سياسية متلاحقة، وانقسامات حادة بين الأحزاب، وتنازعًا مستمرًا على الشرعية والانتماءات، حتى غدا الفعل السياسي نفسه فعلًا معطّلًا ومشوّهًا. لم يعد العمل السياسي أداة لبناء الدولة أو تطوير الإدارة العامة، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى وسيلة للصراع والتصفية وتقاسم النفوذ. ومع كل أزمة جديدة، كانت تتآكل مؤسسات الدولة أكثر، ويُستنزف ما تبقى من ثقة المواطن بها.
ولم تكن القوى السياسية المتحكمة والمسيطرة في المشهد بمعزل عن هذه الكارثة، بل كانت في قلبها. فبدلًا من أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في إنقاذ البلاد من الانهيار، انشغلت بتكريس مصالحها الضيقة، وتعزيز نفوذها الخاص، ولو على حساب الوطن نفسه. غابت الإرادة الجادة لإيجاد حلول وطنية حقيقية، وغاب معها أي مشروع جامع يعيد ترتيب أولويات الدولة على أسس عادلة.
وما زاد الطين بلّة أن هذه القوى لم تُحسن حتى إدارة علاقتها بالخارج بما يخدم استقرار اليمن، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى أدوات في صراعات إقليمية ودولية، تُستدعى فيها المساعدات لا لبناء الدولة، بل لترجيح كفة طرف على آخر. وهكذا أصبح اليمن ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، بينما ظل المواطن اليمني يدفع الثمن وحده: في أمنه، ومعيشته، وكرامته، ومستقبله.
مع مرور الزمن، تشكّلت هوّة عميقة بين اليمن واليمنيين. لم يعد المواطن يشعر أن الدولة تمثّله أو تحميه، ولم يعد يرى في مؤسساتها ملاذًا أو أملًا. أصبحت المسافة في الانتماء واضحة، حين يشعر الفرد أنه غريب في وطنه، ومهمّش في قرارات تخصّ مصيره. وأصبحت المسافة في الحياة أكثر قسوة، حين تحوّلت أبسط الحقوق إلى أحلام بعيدة المنال: العلاج، التعليم، العمل، والأمان.
كما اتسعت المسافة في العدالة، حيث صار الظلم قاعدة لا استثناء، وصار الإفلات من المحاسبة ممارسة مألوفة، بينما يُترك الضعفاء لمواجهة مصيرهم وحدهم. وازدادت المسافة في الحاجة، حين بات ملايين اليمنيين يعيشون على حافة الفقر والجوع، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، بينما تُهدر الموارد وتُنهب الثروات بلا رقيب.
لكن أخطر هذه المسافات كلها، هي المسافة في الأمل. فحين يفقد الإنسان إحساسه بإمكانية التغيير، يصبح اليأس نظام حياة، ويغدو الوطن مجرد ذكرى موجعة لا مشروعًا للمستقبل. ومع ذلك، ورغم كل هذا الخراب، لا يزال في اليمنيين ما يكفي من الوعي والإصرار لإعادة طرح السؤال الجوهري: هل يمكن أن نعيد تقليص هذه المسافة؟ وهل ما زال ممكنًا أن يلتقي الوطن بأبنائه من جديد؟
إن إعادة وصل ما انقطع بين اليمن واليمنيين لا تبدأ من مؤتمرات السياسة وحدها، ولا من التحالفات العابرة، بل تبدأ من مراجعة صادقة وشجاعة لكل ما جرى، ومن الاعتراف العلني بالأخطاء، ومن إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة لا الغلبة، وعلى العدل لا المحاصصة، وعلى الشراكة لا الإقصاء. عندها فقط، يمكن للمسافة أن تقصر، ولليمن أن يعود وطنًا لا ساحة صراع.