في البدء كان تونس
في 17 سبتمبر 2010 أشعل البوعزيزي النَّارَ في جسده؛ فاشتعلت تونس، وَامتدَّ الحريق إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين. كان جسد البوعزيزي «القَشَّة التي قَسمتْ ظَهرَ البعير»، كما يقول المثل العربي، أو «الشرارة التي أشعلت السَّهلَ كله»، كمقولة ماو تسي تونج.
كان استبداد بِنْ علي قد بلغ الذَّروَة، والوضع الاقتصادي في تدهور، وأزمات المعيشة خانقة، وقمع الحريات العامة والديمقراطية راعب.
كثيرة هِيَ الكتابات عن الثورة التونسية. فهي أيقونة الربيع العربي، ولكن كتاب عزمي بشارة «الثورة التونسية المجيدة» يُعدُّ من أهم الإصدارات.
يقع الكتاب الضخم ذو القطع الكبير نِسبيًّا في 496 صفحة؛ درس فيه بشارة ما هو عربي وما هو تونسي في الثورة. وَكَرَّسَ «الفصل الثاني» لِمَا قبل الثورة، وأتى على تفاصيل الانتفاضات، وما أكثر الانتفاضات في تونس؛ فهي سلاح نضاله السلمي لنيل الاستقلال ووسيلته المُقَاوِمَة ضِدًّا على استبداد الحبيب بورقيبة، وطغيان بن علي.
لَعِبَ «الاتحاد العام التونسي للشغل»، وأحزاب المعارضة السرية والعلنية، دَورًا بَارزًا في الاحتجاجات.
يدرس الكتاب الخريطة الحزبية عند نشوب الثورة، ويأتي على يوميات من انتفاضة «سِيدي بوزيد»، والمواقف الدولية في الثورة، وله ملاحق كثيرة.
مَا يَهمّ هو «يوميات الثورة»، كما يسميها المفكر عزمي؛ حيث يتناولها ويدرسها بِدقَّة وشمول يَومًا بيوم، ويقسمها إلى أربع مراحل:
الأولى: الاحتجاجات عَشِيَّة الثورة.
الثانية: عن الانتفاضة الشعبية، والانخراط النقابي والحزبي فيها.
الثالثة: ثورة شعبية لإسقاط النظام.
الرابعة: عن الثورة في المركز، وسقوط النظام. ويدرس حالة الجيش والدولة في الأنموذجين: التونسي، والمصري؛ وَمِنْ ثَمَّ نَجاحَ الثورة، وهروب بن علي، وتعيين رئيس انتقالي، وتفكيك الجيش الخاص، والنضال لإسقاط النظام، والمواقف الدولية من الثورة.
لكي نقرأ الحالة القائمة اليوم في تونس، لا بُدَّ من العودة إلى الثورة الربيعية التي غَمرت مياهها الأرض العربية، وكانت البداية في تونس المؤشر والمُحرِّض.
انتكست ثورات الربيع في المنطقة العربية كلها، وتصدرت القُوَى المعادية والثورات المضادة الواجهة في بلدان الربيع العربي التي مَزَّقَتها الصراعات والحروب.
مَا تشهده تونس هذه الأيام هو العودة إلى الذَّخِيرة الحَيَّة التي يمتلكها الشعب التونسي، وَحَقَّقَ بها لبلده الاستقلال، وأسقط بها «بَابويَّة بورقيبة»، وقمع وفساد بن علي؛ وهي أداته الآن لمقارعة المستبد والمتسلط قيس سعيد.
مأساة بلدان الربيع العربي كلها هو بديلها الأسوأ. وَكَأنَّ قوى الفساد والاستبداد (الثورات المضادة) تريد تأديب الشعوب والانتقام منها وزجرها عن محاولات الثورة، والأكثر وَجعًا التواطؤ مع أعداء الأمة العربية؛ لتمزيقها وتفكيكها وتأجيج الصراعات البينية والجهوية والطائفية والقبلية والإثنية داخلها وِفقًا لخارطة الصهيوني برنارد لويس.
مَا يجري في سوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن، ليس خَافيًا، وربما أرادوا لها أن تكون صورةً لِمَا يجري في غزة والضفة الغربية، وَيَظلّ ما يجري في السودان مُروِّعًا.
كان جنوح طرف واحد للاستبداد والتفرد بالسلطة في بلدان الربيع العربي: مصر، واليمن كأنموذج، والخلافات داخل قادة الربيع العربي، «كعب أخيل» في إخفاق ثورة الربيع، كما أنَّ الانجرار إلى العنف، والتدخل العسكري والأجنبي جَسَّدَ مأساة ليبيا، وسوريا، واليمن.
حَوَّلت الثورات المضادة، وأمريكا، والاستعمار الأوروبي الربيع إلى كارثة بحيث لا مقارنة بين أوضاع ما بعد الربيع وما قبلها. لم يكن ما قبلها جيدًا، لكن ما بعد الربيع فاجع وأليم؛ وهو ما مهد وَسَاعدَ في تغول حرب الإبادة في غزة والضفة الغربية، واحتلال جنوب لبنان، وتعريض سوريا لمخاطر التفكيك، واحتلال إسرائيل لمناطق واسعة في الجنوب والشرق والهيمنة على دمشق.
إنَّ مقارنة وضع أيقونة الربيع العربي (تونس)، سواء في عهد الحبيب بورقيبة أو بن علي، بما هو عليه الحال في حكم قيس سعيد، بائس ومخيف، والمأزق أنه مع ازدياد الضعف يشتد القمع.
الأزمات موجودة في تونس منذ عهد بورقيبة وخليفته بن علي، ولكنها في عهد قيس سعيد اتخذت ما سمَّاه غرامشي «الأزمة العضوية»؛ وهي أن يدخل المجتمع في أزمة يلف العجز السلطة والمعارضة مَعًا.
كان لينين يقول: «يدخل المجتمع في سيرورة من التفكك والاستنقاع حتى يتساوى العجز بين السلطة والمعارضة».
المرئي في البلاد العربية، منذ سنين، يتجاوز فيه الأمر ما قاله كُلٌّ من غرامشي، ولينين، بحسب قراءة الدكتور فيصل دراج. فقبل مجيء سعيد كانت الأوضاع مُحتَمَلة، وكان الظلم مُوزعًا بالعدل وَبِالتقسيط، أمَّا في عهد قيس سعيد، فقد أصبح القمع شَاملًا، ولم يستثنِ أحدًا؛ فقد طال أنصار النظام القديم، وَكُلَّ أحزاب المعارضة دون استثناء بما فيها الاتحاد التونسي للشغل، أمَّا حزب النهضة وقادته فَكانَ نصيبهم الأقسى.
كُلُّ ما كان يشكو منه التونسيون وثاروا ضده، عاد وتضاعفت وتيرته وحدّته.
لا تختلف تونس عن شقيقاتها في المغرب والجزائر وليبيا وبلدان الشرق العربي -باستثناء مصر- في أنَّ مركز الاحتجاجات وقوتها دَائمًا تأتي من الريف، ثَمَّ تصل إلى المدينة؛ وهو ما كان عليه الحال في عهد الحبيب بورقيبة وتابعه بن علي، أمَّا في زمن قيس، فالاحتجاجات والمظاهرات والإضرابات تَعمُّ المدن والأرياف كلها.
عَزَلَ الحبيب بورقيبة تونس عن انتمائها القومي والإسلامي، وَأطلقَ على تونس «القومية» و«الأمة» التونسية، واعتمد الحداثة الأوروبية والعلمانية الكَمَاليَّة -نِسبةً إلى كمال أتاتورك- أمَّا قيس سعيد، فقد اختزل تونس في شخصه، وجعل القمع وسيلته المُثلَى والوحيدة للحكم.
عَمَّمَ قيس سعيد الأحكام الجائرة على أطياف وألوان المجتمع المدني والفكري والحزبي والنقابي التونسي. فالآلاف من الأطباء الشُّبّان في المستشفيات والكليات الطبية مضربون عن العمل؛ لعدم تلبية مطالبهم بزيادة المرتبات والأجور لمواجهة غلاء المعيشة، ويقومون بعدة مسيرات واحتجاجات أمام البرلمان، ويضرب الأطباء الشبان عن الطعام في القطاعات الطبية المختلفة.
أمَّا الصحفيون، فيواجهون أوضَاعًا غاية في الصعوبة والقسوة؛ حيث تصادر وتقمع الحريات الصحفية والمهنية. ومع ذلك لايزالون يحتجون ويرفعون «الشَّارَات الحمراء»، في المؤسسات الإعلامية، ويتجمعون بأعداد كثيرة أمام مقر الحكومة ضِدًّا على القمع والقيود والمخاطر التي تمارس وتفرض عليهم.
ومع تصاعد احتجاج الصحفيين ونقابتهم الوطنية، والقمع المتزايد الذي تواجه به من السلطة، يجري التحذير من انهيار الأوضاع الصحفية، ومصادرة حرية الرأي والكلمة.
فالصحفيون يُقدَّمُون للمحاكمة بسبب آرائهم، ومنهم «شبكة نواة»، و«موقع انتفاضة»، وَيُنسَب لنقيب الصحفيين زياد دبار القول: «أنْ تكون صَحفِيًّا؛ فهذه جريمة. نَحنُ أمام محكمة لا تُطبِّق القَانون».
لقد وَصَلَ الحال في تونس أنه لا يمر يوم دون إيقاف عمل صحفي، وتشهد الصحافة تَراجعًا خَطيرًا. فالصحفيون يتعرضون لملاحقات الشرطة، ويحرمون من حقهم في الحصول على بطاقات المهنة، وتمنع عليهم التراخيص.
ينتقد الصحفيون المرسوم رقم 54، لسنة 2022؛ والخاص بأنظمة الاتصال والمعلومات، لكن الصحفيين والصحفيات يُواجِهُونَ القمع والترويع بشجاعة وتحدٍّ.
والحاصل أنَّ القمع يشمل كل قطاعات ومؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، والمعارضة، والاتحاد العام التونسي للشغل، ورجال الأعمال، وقد تعرضت المعارضة البارزة شيماء عيسى للاعتقال، وَحُكِمَ عليها بالسجن عِشرين عَامًا.
سُنَّت الأحكام الجائرة ضد المعارضة السياسة، وبالأخصّ «حزب النهضة»، وتناولت رجال الأعمال، وقادة الأحزاب السياسية الأخرى، وَحُكِمَ بالسجن على أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، أحد قادة «جبهة الخلاص الوطني»؛ فأضرب عن العام، وتتعرض حياته للخطر، كما حُكِمَ على السياسيين: عصام الشامي، وغازي الشواشي، ورجل الأعمال كامل لطيف، وَوُجِّهَتْ لهم تهم التآمر على الدولة، والسعي في تفكيكها، والارتباط بالخارج، مع تهم الفساد.
تَطالُ المحاكمات أربعين شخصية، وهناك العشرات والمئات من المعتقلين من مؤسسات المجتمع المدني، والمحتجين ضد المجمع الكيماوي في «قابس»، وتهم تلقي المجتمع المدني التمويلات من الخارج؛ وهي جاهزة لكل من يحتج أو يعترض.
وَلعلَّ الأغرب محاكمة الغنوشي، فبالإضافة إلى التهم الكثيرة الموجهة إليه، تتم محاكمته على التبرع للهلال الأحمر بمبلغ تلقاه من جائزة سلام هندية تعمل على تعزيز قيم السلام ونشر مبادئ غاندي.
طُغيان قيس سعيد فَاقَ كُلَّ مَنْ سَبقه، وَقَد وَحَّد الشعب التونسي كُلَّه لينتفضَ عليه في الوقت الحالي.
وَمِنْ جديد هل تكون تونس البداية؟!