صنعاء 19C امطار خفيفة

سيناريو فاشر آخر في اليمن

هل تطبق الإمارات فاشر آخر في اليمن على غرار فاشر السودان؟

تطرح التحولات المتسارعة على الساحة اليمنية سؤالًا شديد الحساسية: هل تتجه البلاد نحو سيناريو شبيه بما شهدته الفاشر في السودان؟ أي نحو انفجار مفاجئ، شامل، وفوضوي للعنف في المدن اليمنية، بحيث تصبح كل بنية اجتماعية ساحة مواجهة، وكل جماعة فاعلًا مسلحًا مستقلًا؟ وما يزيد خطورة هذا السؤال هو التوقعات المتداولة حول حرب جديدة وشيكة ترتسم ملامحها في الأفق السياسي والعسكري اليمني.

إن فهم مخاطر هذا السيناريو لا يتطلب قراءة عسكرية قبل كل شيء، بل يستلزم مقاربة سوسيولوجية تفكك بنية المجتمع اليمني اليوم، وتستشرف كيف يمكن للهشاشة المتراكمة أن تتحول إلى انفجار غير مسبوق، بخاصة في ظل تزايد موجة العنف الاجتماعي والسياسي، والأطماع السياسية والاقتصادية الخليجية.
فالحرب القادمة ليست مجرد مواجهة عسكرية، كون المعطيات الحالية تشير إلى أن أية حرب جديدة في اليمن لن تكون امتدادًا تقليديًا للحرب السابقة، بل حربًا متعددة الأطراف والهويات. وقد برهنت التجربة السودانية في الفاشر أن الحروب المعقدة تولد أشكالًا جديدة من الفاعلين المسلحين المدفوعين خارجيًا، كما أن المدن الهشة تتحول بسرعة إلى مناطق خارجة عن السيطرة.
ففي اليمن، تتوفر ثلاثة مؤشرات خطيرة: الأول تعدد القوى العسكرية غير المنضوية في هيكل دولة موحدة، والثاني تزايد خطاب التحشيد على أساس مناطقي أو هوياتي، والثالث غياب ضامن سياسي قادر على فرض حدود واضحة للصراع.
هذه العوامل تجعل أي اشتباك جديد قابلًا للتحول في أيام قليلة إلى نسخة يمنية من "انهيار شامل" كالذي شهدته الفاشر. ومؤخرًا المدن اليمنية ترزح تحت ضغط التفكك الاجتماعي، فالمدن التي شهدت نزوحًا واسعًا مثل تعز، مأرب، عدن، أصبحت تعاني من تمدد عشوائي غير مضبوط للمجال العمراني، وغيابًا لمؤسسات الضبط الاجتماعي، وهشاشة في الروابط بين السكان الأصليين والوافدين، مع بروز اقتصاد موازٍ تُديره جماعات مسلحة.
هذه المدن قد تكون هي الأكثر عرضة لتكرار سيناريو فاشر، لأن أية شرارة يمكن أن تفجر توترات كامنة بين مجموعات سكانية مختلفة، وبالأخص في ظل وجود أكثر من فصيل مسلح ممول من الإمارات، ما يجعل العنف يتخذ طابعًا مجتمعيًا، لا مجرد صراع بين فصائل.
لكن لا يستبعد أن يطبق نموذج الفاشر في أية جغرافيا يمنية أخرى تفتح المسألة أمام المخططات الإماراتية أو السعودية أو حتى القطرية كلاعبين أساسيين في الساحة اليمنية، أو غيرهم من اللاعبين، بخاصة بعد توجيه الامارات للمليشيات التابعة لها بالتحرك صوب حضرموت، فغير مستبعد أن يتكرر السيناريو فيها.
يمثل اقتصاد الحرب (الاقتصاد الأسود) محركًا لانفجار جديد، فكلما طال أمد الحرب، توسع اقتصادها. حيث تنمو شبكات تهريب وسوق سوداء، وتزداد الجبايات غير الرسمية، فهنا تتشكل مصالح مستقرة في استمرار الفوضى، فهذه البُنى تجعل الفصائل المسلحة لا ترى في السلم مصلحة اقتصادية، كما حدث في السودان، حيث تحولت بعض الفصائل إلى كيانات اقتصادية مسلحة تغذي الصراع بدلًا من إطفائه.
أخطر ما يجعل سيناريو فاشر ممكنًا هشاشة الدولة وعودة الجماعات فوق الاجتماعية، أي انهيار القدرة المركزية للدولة على احتكار السلاح وضبط المجال الاجتماعي وحماية المدنيين، ومع أية حرب جديدة، قد تجد مجموعات محلية -قبلية، مناطقية، أو أيديولوجية- نفسها مضطرة لإقامة سلطاتها الخاصة، ما يفتح الباب لصراع أفقي يشبه تمامًا ما حصل في الفاشر.
والحرب القادمة قد تكون "حرب المدن"، فإذا اندلعت الحرب، فستتخذ طابعًا مدنيًا لا ريفيًا. وهذا يضاعف مخاطر الاشتباكات داخل الأحياء المزدحمة، بخاصة في ظل انهيار الخدمات، وتحول المدنيين إلى وقود مباشر للصراع.
وما يوسع الصراع تبني "مجموعات حماية ذاتية" سرعان ما تتحول هذه المجموعات إلى مليشيات، كالمجلس الانتقالي والنخبة الشبوانية والحضرمية، وكما بدأت جماعة أنصار الله، وبهذا الشكل تتكرر تجربة الفاشر، حيث لم يعد بالإمكان التمييز بين المدني والمقاتل، ولا بين المجال العام ومجال الحرب.
إمكانية تفادي السيناريو ليست مستحيلة، رغم قتامة الصورة، لايزال بالإمكان كسر المسار نحو فاشر يمني جديد عبر: تعزيز قنوات الوساطة المحلية، ومنع تفكك المدن عبر مبادرات مجتمعية للضبط الذاتي، وربط جهود الإغاثة ببرامج تخفيف النزاع، وتحييد المناطق الحضرية عبر تفاهمات محلية بين الفاعلين، إلى جانب دعم شبكات المجتمع المدني في مراقبة التوترات وتخفيفها.
إن منع سيناريو فاشر في اليمن يتطلب إدارة حكيمة للهشاشة الاجتماعية قبل إدارة الجانب العسكري، فليس الحديث عن "سيناريو فاشر" في اليمن مجرد مقارنة جغرافية بين مدينتين، بل قراءة مستقبلية ناتجة عن هشاشة البنية الاجتماعية، وتعدد الفاعلين واقتصاد الحرب وتآكل الدولة.
وفي ظل اقتراب حرب جديدة، فإن هذه العوامل، إذا بقيت بلا معالجة، قد تجعل من أية مدينة يمنية نموذجًا جديدًا لانهيار اجتماعي شامل. ومع ذلك فإن الوعي المبكر بطبيعة المخاطر يشكل خطوة ضرورية لتجنب الأسوأ، ولتحويل مسار الأحداث قبل أن يتشكل فاشر يمني جديد.

الكلمات الدلالية