صنعاء 19C امطار خفيفة

حينما تتحوّل حريةُ الرأي إلى تهمة

ما معنى اعتقال د. حمود العودي، والمهندس عبدالرحمن العلفي، وأنور، وعائض الصيادي، والمياحي، وأوراس، ود. مصطفى المتوكل، ورامي عبدالوهاب، وفاطمة العرولي… وغيرهم؟

- هذه المادة كتبت من يومين، وكنت سأنشرها صباح هذا اليوم، حتى سماعي بالخبر الطيب والسعيد بالإفراج عن الصديقين، د. حمود العودي، والمهندس عبدالرحمن العلفي، دونًا عن ثالثهم، أنور شَعْب، ومع ذلك ماتزال المادة صالحة للنشر أكثر من قبل، لأن فكرة المقال ضد الاعتقالات بسبب التعبير السلمي عن الرأي، ولذلك أنشرها كما هي، على أمل الإفراج عمّن تبقى من معتقلي الرأي في سجون عدن وصنعاء.
إن من أسقط نظام علي عبدالله صالح بكل جبروته وهيلمانه، وهو الذي كان يحاصر ويطوق العاصمة صنعاء وحدها بالعشرات من الوحدات العسكرية، والمعسكرات، وعشرات الآلاف من الجنود، وبالحرس الجمهوري المجهز بأحدث الأسلحة، وبالأمن المركزي، ومثلها جميع مدن البلاد الأساسية، إن من أسقطه أولًا: الصدور العارية للشباب، وثانيًا: شرعنته للاقتصاد السياسي للفساد، والفساد المالي، والجبايات، وتوسيع دائرة العنف السياسي في مواجهة قضايا الحريات والحقوق، ومحاولته تحويل الجمهورية إلى "جمهورية وراثية"، إلى جانب تفريطه بقضايا الأرض والحدود اليمنية.
كانت هذه المقدمات السبب المباشر في سقوط حكمه أمام إرادة الشعب الذي حاصر نظامه الشعب بالقهر والتجويع والعنف السياسي، حتى فاض الكأس بخرائط من الدماء تدفقت من الجنوب إلى الشمال.
واليوم، نجد أنفسنا مع جماعة الحوثيين "أنصار الله" في وضع حرمان كامل من صرف المرتبات منذ أكثر من تسع سنوات. وحين يطالب المواطن/ الموظف بحقه الدستوري والقانوني في الراتب، يُتهم بالعمالة والخيانة والوقوف مع العدوان. وصلنا إلى حالة تعميم للتجويع والتفقير طالت كل الفئات والطبقات، بعد أن جرى تفكيك الطبقة الوسطى التي كانت تشكل حامية للسلم الاجتماعي والسياسي، وحاملة لمشعل التنوير والتنمية الوطنية.
الطبقة التي يمثل د. حمود العودي ورفاقه المعتقلون بقاياها المتعبة والمنهكة، ولكنها المقاومة بالكلمة الحرة المستنيرة.
إن تفكيك وتدمير الطبقة الوسطى هو ما أضعف اليوم، وبالضرورة، واقع حالة المعارضة لكل ما يجري في الشمال والجنوب، وعمّق من حالة الانقسام الاجتماعي والسياسي والوطني.
لقد بدأت عملية تدمير الطبقة الوسطى منذ ما بعد جريمة حرب 1994م، تلك العملية الجراحية الدموية التي هندست فصل الجنوب عن الشمال، ثم فصلت "جنوب الشمال" عن "شمال الشمال"، وتحولت الحرب إلى فيد سياسي واقتصادي وأيديولوجي على حساب الجنوب، لا لمماثلته بالشمال المقهور، بل لجعله ليس أكثر بؤسًا من أكثر مناطق الشمال تهميشًا، بل وأكثر تخلفًا. فقط يمكنك النظر إلى واقع حال المرأة في جامعة عدن، وفي كل الجنوب، وإلى واقع حالة العلاقات الاجتماعية بين مكونات المجتمع داخل الجنوب نفسه.
وزاد الأمر سوءًا حين تحول القطاع العام كله، الذي كان يعتمد عليه تماسك المجتمع في الشمال، وبدرجة أساسية في مجتمع الجنوب حيث كانت الدولة هي الراعية والحامية للمجتمع، أي بعد تحول القطاع الاقتصادي العام إلى فيد للزبائنية السياسية والدينية "التكفيرية"، والعسكرية، والمشيخية القبلية.
بقي خلاله المجتمع كله بدون حامٍ سياسي دولتي، وبدون قوة اقتصادية تساعده على تحمل قهر وقبح وغبن الحرب.
وجاءت جماعة الحوثيين لتستكمل، باسم "المظلومية التاريخية" و"الولاية"، وضع الشمال في حالة من المظلومية غير المسبوقة في التاريخ السياسي الحديث.
هذه الجماعة تجمع اليوم بين أسوأ شكلين من أشكال القمع:
مصادرة العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ومصادرة الحريات السياسية والفكرية، حتى أبسط أشكال حرية الرأي والتعبير، أي ما تبقى من "الهامش الديمقراطي".
والأسوأ أن مصادرة الحريات بلغت حد اعتقال رموز الفكر والسلام السياسي والاجتماعي:
رموز لا يعملون بالسياسة بمعناها الحرفي والحزبي الضيق، بل يقدمون مبادرات سلمية علنية، لا في الخفاء ولا من تحت الطاولة.
مشكلتهم أنهم يدافعون عن الحق في الراتب، وعن الحق في الحياة، وعن حق المجتمع في السلام والسلم الاجتماعي والوطني، وعن بناء دولة المواطنة المتساوية للجميع.
يقفون ضد العدوان على الحريات سواء صدر من سلطة عدن أو من سلطة صنعاء.
مفكرون ومثقفون وسياسيون متصالحون مع أنفسهم ومع واقعهم ومع أفكارهم وتاريخهم، يشتغلون بالإنتاج المعرفي والفكري والثقافي والأكاديمي باتجاه مراكمة شروط وعوامل الإصلاح والتغيير السلمي. هم قوة حقيقية مضافة للمجتمع المدني وللدولة الحديثة.
المفكر الاجتماعي د. حمود العودي، الذي عرفته منذ منتصف السبعينيات، رجل فكر وثقافة وحوار وسلام. وفي الاتجاه ذاته يقف المهندس عبدالرحمن العلفي، وعائض الصيادي، ومحمد المياحي، وفاطمة العرولي، ورامي عبدالوهاب، وأوراس الإرياني… وغيرهم. كلهم رموز فكرية وثقافية وأكاديمية وأدبية تدافع عن قيم السلام والإصلاح والتغيير السلمي.
إن حملة الاعتقالات هذه تفقد الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد معنى الاستقرار، وتوسع نطاق الاحتجاجات السياسية الكامنة والمكبوتة ضد سلطة أنصار الله. فمن يقف مع القضية الفلسطينية، وهي أعدل قضايا الحق والحريات في العالم، لا يمكنه أن يكون ضد حرية الرأي والتعبير في بلاده.
القضية الفلسطينية قضية حق مطلق، قضية حرية وحقوق.
والوقوف ضد العدوان الخارجي حق مشروع. لكن غير المشروع هو العدوان الداخلي "الاستعمار الداخلي" على رموز الفكر الذين دافعوا طوال حياتهم عن القضية الفلسطينية والقضية الوطنية اليمنية.
إنني شخصيًا، ككاتب وباحث وسياسي يمني، ضد جميع أشكال العدوان الخارجي والداخلي، فلا يمكنك أن تكون ضد المستعمر الخارجي وأنت تستعمر من في داخلك!
خيرٌ لي أن أُتَّهَم ظلمًا أنني مع العدوان الخارجي، أفضل من عار الصمت على العدوان الداخلي.
الحرية فكرة ومنظومة لا تتجزأ، فإما أن تكون مع فكرة وقضية الحقوق والحريات بالكامل، وعلى رأسها حرية الرأي والفكر والتعبير، وهو ما يقول به الدستور اليمني الذي أقر التعددية السياسية والحزبية والفكرية، وإما أن تكون في المقلب الاستبدادي المضاد للحريات والحقوق.
لا أعتقد أن "المؤتمر القومي العربي" الذي ألقى فيه قائد أنصار الله، عبدالملك الحوثي، كلمته حول القضية الفلسطينية، يوافق أو يتوافق مع هكذا إجراءات عقابية بسبب التعبير السلمي عن الرأي.
كيف تُرفع راية الحرية في الخارج بينما تُقمع في الداخل؟
كيف يمكن الدفاع عن فلسطين هناك بينما تُصادر فلسطين اليمنية هنا؟
وهذا الخطاب النقدي مثل ما ينطبق على سلطات صنعاء ينطبق أيضًا وأكثر على سلطات عدن، التي اعتقلت د. مصطفى المتوكل وهو في حالة عودة من سفر خارجي طبيعي في مدينة مأرب، رغم أنه شخصية مهنية أكاديمية لا علاقة لها بالحرب.
اعتقاله إساءة "للشرعية"، وللقانون، وللمجتمع.
إذا كانت هناك لوائح اتهام، فلتُقدَّم هذه الشخصيات للمحاكمة العادلة والعلنية مع ضمان حقوقهم كاملة. أما استمرار الاعتقال دون تهمة فهو اختطاف صريح ومخالفة للدستور والقانون.
ومما يثير السخرية السوداء اعتقال المحامي البارز عبدالمجيد صبرة لمجرد دفاعه عن قضايا الحريات، في رسالة تخويف ليس لبقية المحامين بل ولناس المجتمع كله.
أما "الضمانة التجارية" فهي بدعة جديدة تُعاد بها إنتاج أبشع ممارسات النظام السابق.
هي بدعة أنتجها وكرسها نظام علي عبدالله صالح الأمني القمعي، نحو مزيد من إنتاج حالة قمع مضاعفة ضد قضايا الحقوق والحريات الديمقراطية.
لقد بقيت شخصيًا أكثر من تسعة أشهر في "سجن القلعة" في انتظار الضمانة التجارية، وهناك من بقي فترات أطول لسنوات، بل وهناك من مات كمدًا.
لم أخرج من السجن إلا حين تكرم الفاضل الأستاذ الفقيد، رحمة الله تغشاه، عبدالقوي عثمان، بالضمانة كعادته مع جميع المعارضين داخل السجون.
الضمانة التجارية لم تُفرض يومًا على أصحاب الفكر والرأي، بل كانت وسيلة لإخراج المتهمين الماليين "اللصوص" فقط.
واليوم تريد سلطة صنعاء إعادة إنتاج فرضها على مفكرين لإخضاعهم وتركيعهم. وهذا ما لم يفعله حتى أعتى الأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية، ولا حتى الإمامة الحميدية المتوكلية.
إن قبول الضمانة التجارية يعني قبول شكل من أشكال "العبودية المختارة". وأكرم للمفكر والمثقف والسياسي النبيل أن يبقى في السجن واقفًا كالشجرة من أن يخرج قسرًا بذل وهوان الضمانة التجارية.
الحرية لجميع المعتقلين بسبب التعبير عن الحق في قول الرأي دون قيود، وهذه أبسط الحقوق الدستورية والقانونية والإنسانية.
المجد والسلام للكلمة الحرة، في وطن آمن ومسالم، وهي مصدر قوة أي مجتمع، بل وكل دولة وطنية قوية ومستقرة.
والله ولي الهداية والتوفيق.

الكلمات الدلالية