سنوات الحرب تحوّل الحديدة إلى مدينة تسرق لقمة العيش من أفواه ساكنيها
الحديدة
على رصيف ضيّق لا تتجاوز مساحته خمسة أمتار في قلب مدينة الحديدة، يجلس أحمد (اسم مستعار) مترقّباً عودة التيار الكهربائي ليباشر عمله المتعب، وعيونه معلّقة بما تبقى من أمل لإطعام أطفاله في مدينة التهمتها الحرب منذ سنوات.
أحمد، البالغ من العمر 44 عامًا، يعمل في محل صغير لتعبئة بطاريات المحركات، مهنة تعتمد كليًا على توفر الكهرباء وحركة المركبات. يقول بحسرة وهو يشير إلى الشارع الخالي:"كان دخلي اليومي يفوق 20 ألف ريال… كانت الكهرباء رخيصة، والمدينة تنبض بالحياة، لا حرب ولا دمار."
لكن الحرب لم تكتفِ بتشريد آلاف السكان، بل نهبت أرزاق من بقوا في المدينة. ومع توقف نشاط الميناء وتراجع الحركة التجارية منذ 2018، خسر أحمد أغلب زبائنه؛ بعضهم نزح، والبعض الآخر لم يعد يملك القدرة على إصلاح مركبته.
ويضيف في حديثه لـ"النداء" :
"اليوم نصف دخلي يذهب للكهرباء وحدها. فاتورة ثلاثة أيام تتجاوز 28 ألف ريال… والنصف الآخر لا يكفي لتغطية احتياجات أسرتي."
ويؤكد تقرير للبنك الدولي أن قطاع الطاقة في اليمن هو "الأكثر تضررًا"، إذ تعطلت أكثر من 85% من منشآت الطاقة، وتسبب غياب الوقود في شلل قطاعات المياه والنقل والصرف الصحي.
معاناة لا تتوقف
على الضفة الأخرى من المعاناة، يقف أسامة علي (اسم مستعار) شاهداً على خسارته الكبرى. كان يمتلك ورشة نجارة صغيرة يعيل منها أسرته وأشقاءه الأربعة.
لكنّه يقول لـ"النداء" : "توقف الكهرباء دمّر كل شيء… لم نعد قادرين على تشغيل معداتنا، والمولدات تحتاج وقوداً لا نستطيع تحمّل تكلفته."

بعد أن التهمت الخسائر كل ما لديهم، أغلق الأشقاء ورشتهم وتفرّقوا؛ بعضهم عاد إلى قريته، وآخرون غادروا البلاد بحثاً عن رزقٍ بديل.
وتشير تقارير أممية إلى أن أكثر من 80% من العمال اليمنيين فقدوا وظائفهم منذ اندلاع الحرب، بينهم آلاف من أبناء الحديدة.
أُسر تُرمى في الشوارع.. ومنزل بلا أثاث
لم يكن أبو أحمد (46 عاماً) يتوقع أن يُرمى أثاث منزله إلى الشارع بعد عجزه عن دفع الإيجار. كان يعمل في ورشة لصيانة المحركات مع شقيقه، لكن موقع الورشة على أطراف المدينة جعلها خط نار مباشر. اضطر الشقيقان لإغلاق الورشة، ثم ساءت حالة أبو أحمد الصحية بعد نهب أدواته، وفقد مصدر رزقه بالكامل.
يتحدث لـ"النداء" بحزن:
"زوجتي بدأت تبيع ما تملك… ذهبها، أثاثنا… فقط لنبقى على قيد الحياة."
وبعد عامين من النزوح، عاد للعمل مع شقيقه في إصلاح المركبات في الشوارع. وتمكن بصعوبة من استئجار منزل بسيط، لكنه اليوم مهدد بالطرد مجددًا.
"صاحب المنزل هدّدني… الحرب سرقت منا كل شيء."
ووفق البنك الدولي، تسببت الحرب في نزوح أكثر من 3.6 ملايين شخص وانعدام الأمن الغذائي لأكثر من 20 مليون يمني.
بقالة بلا بضاعة.. وزبائن يشترون بالدَّين
فتحي سعيد، مالك بقالة في مديرية الحالي، يجسد جانباً آخر من معاناة الحرب.
يقول: "كان دخلي اليومي 30 ألف ريال… اليوم لا أحقق ربع هذا المبلغ."
قبل الحرب، كانت حركة البيع مزدهرة، والبقالة لا تُغلق قبل الفجر. أما الآن، فيؤكد فتحي لـ"النداء": "الحادية عشرة مساءً ولا يدخل زبون واحد… الناس أصبحت لا تشتري إلا ما يسد الجوع."
ومع تراكم الديون على زبائنه منذ أكثر من عام، اضطر إلى تقليل البضاعة، مكتفياً بالمواد الأساسية بعد أن تراجع الطلب على العصائر والحلويات.
الصيادون.. مهنة بين الفقر والموت
قبل الحرب، كان صوت باعة الأسماك المتجوّلين يملأ أزقة الحديدة كل صباح. اليوم، صار ذلك الصوت نادراً.
تقول المواطنة أمل علي: "كان الباعة يجوبون الحارات بسلال مليئة بالأسماك… اليوم لا نراهم إلا نادراً، وبأسعار مرتفعة."
أحد الصيادين المتجولين يقول لـ«النداء»: "الصيد لم يعد آمناً… الطيران دمّر قوارب كثيرة، وقتل صديقي في عرض البحر. أصبحنا نخاطر بحياتنا من أجل لقمة العيش."
ومع تراجع أعداد الصيادين، ارتفعت أسعار الأسماك، وتراجع الإقبال عليها، ليعود الكثير منهم بأسماكهم دون بيع.
من شريان حياة إلى شريان للتهريب
يقول المستشار الاقتصادي فارس النجار: "كان ميناء الحديدة يوفّر عشرات الآلاف من فرص العمل… اليوم فقد أكثر من 40% من قدرته التشغيلية، وتراجعت 70% من الأنشطة المرتبطة به."
يشير النجار في حديثه لـ" النداء" إلى أن الميناء تحوّل إلى منصة للجبايات والاقتصاد الموازي الذي تديره الميليشيات، فيما انتقلت أغلب الشركات والتجّار إلى عدن والمكلا.
"خسرت آلاف الأسر مصادر دخلها، وانخفضت دخول المواطنين بنسبة تصل إلى 60%، ووصل الفقر في الحديدة إلى أكثر من 80%."
مدينة تُنهك كل يوم وتنتظر الإنقاذ
خلفت الحرب كارثة اقتصادية واجتماعية عميقة في الحديدة، سرقت مصادر الرزق، ودفعت آلاف الأسر نحو الفقر والتشرد، في ظل تراجع فرص العمل والغلاء وغياب الأمن.
وبينما يبقى الأهالي عالقين في دوامة المعاناة، تظل الحديدة مدينةً تنهشها الحرب بصمت، وتحتاج إلى تدخل عاجل يعيد الحياة إلى مينائها، ويعيد للناس لقمة عيشهم التي نهبتها سنوات الصراع.