تحية للمقالح في مهرجانه الشعري السنوي
عبدالعزيز المقالح في سرديته الإنسانية
كم نفتقد صوتك الهادئ والمريح للنفس.
رغم حضورك في الرحيل، يبقى الشعور بالخسارة والفراغ الذي تركته في حياتنا جميعًا حاضرًا: في أسرتك، وأصدقائك، وكل من عرفك من شتى جهات البلاد.
لقد كنت دائمًا حارسًا للأمل، رمزًا لذاكرة القيم والمعاني النبيلة، التي كنت تنشرها من خلال سلوكك اليومي في عمق إنسانيتك.
ومن هنا، تأتي صعوبة وقسوة الفراق والبعد.
على مدى أكثر من نصف قرن، جسد المقالح صورة واقعية لضمير الإنسان الغائب والمغيب في حياتنا المليئة بالعنف، دون أن ينبس بكلمة نابية أو يستخدم مفردة تشجع على العنف.
لقد كان دائمًا حمامة وواسطة سلام للجميع ، رجل وفاق وتوافق، يجعل من المختلف مؤتلفًا قدر الإمكان.
هكذا عرفته، ولذلك أحببته، رغم وجود من يلومه على ذلك.
لم يفرط يومًا في المعنى الأخلاقي والقيمي الإنساني في سلوكه ومواقفه، وكان الجميع في المجتمع الثقافي والسياسي يلجؤون إليه لفض اشتباكاتهم الذاتية والسياسية. وحين يجد نفسه في موقف محرج، يلجأ للصمت، إلا حين يتعلق الأمر بقضية تتعلق بحصار أو قمع المعنى الوطني والإنساني، عندها يعلن انحيازه بوضوح.
مرّة، انتصر لفراشة بسيطة على مدير، ولموظف على وزير بحضورهما معًا.
في بداية التسعينيات، ذهبت إليه مع صديقي الشاعر إسماعيل الوريث والدكتور الصديق، الشاعر سلطان الصريمي، لنطلب كتابيًا نقلي إلى المركز، فقال لي لم تكن تحتاج لواسطة، ولم يتردد لحظة في الاستجابة، وهو يعلم بالصعوبات التي أواجهها في وزارة الثقافة بسبب كتاباتي السياسية ضد النظام.
وقد أدى ذلك إلى إصدار الوزير قرارًا بتغيير هيئة تحرير "مجلة الثقافة" كاملة، لأننا كنا نرفض تحويل المجلة الثقافية/ الأدبية، إلى منبر حزبي لنشر أدبيات الأمين العام المساعد للمؤتمر الشعبي العام، الذي كان وزيرًا للثقافة حينها.
الفضل في تثبيت موقفنا والإصرار عليه يعود لوكيل الوزارة ورئيس تحرير المجلة، الأستاذ والمثقف والناقد الكبير هشام علي بن علي، الذي انحاز لخيار المثقف والثقافة، وكان ثمن انحيازه للخيار الثقافي تغييره من موقع رئيس التحرير، واستبداله بقيادي سياسي، من حزب المؤتمر الشعبي، ومن خارج الطاقم الثقافي للوزارة.
تحية نبيلة لروح المثقف الجميل والنبيل، هشام علي بن علي.
ومع معرفة د. عبدالعزيز المقالح بكل هذه الخلفيات السياسية، كتب مذكرة يطلب فيها نقلي إلى المركز، ولم يكتف بذلك بل اتصل بقيادة الوزارة بنفسه.
هذا يبرز العلاقة العميقة بين السياسي والقيمي والإنساني في شخصيته وسلوكه.
لم نتوقع أنا وإسماعيل الوريث والدكتور سلطان الصريمي، أن يظهر د. المقالح هذه الاستجابة السريعة، رغم علمه باعتراضات بعض المسؤولين من "رفاقه"، على كتاباتي ضد نظام علي عبدالله صالح.
علمًا أنني لم أسمع منه شيئًا من الانتقاد أو الملاحظات على كتاباتي، طيلة فترة عملي في المركز، بل كان يبدي إعجابه بما أكتب. وعندما كتبت مقالة عن القاتل المأجور "بوب دينار" وزيارته لليمن واستقباله من قبل علي عبدالله صالح، في القصر الجمهوري، وترك الصحفي الفلسطيني، عبدالباري عطوان في الانتظار لساعات، طلب قراءة الموضوع في مقيله الخاص في منزله، مما يدل على عمق حضور المعنى الثقافي والوطني والإنساني في فكره وسلوكه.
فالوطني النبيل هو الإنساني الكبير.
كتب الأستاذ محمود أمين العالم في كتابه "الإنسان.. موقف":
"الإنسان هو أروع ثمار الحياة وعقلها الواعي، وقلبها المشتاق، وحسها الفنان، وإرادتها الفعالة، والإنسان في جوهره موقف"(1).
هذا التعريف المكثف والعميق هو أجمل ما يوصف به المقالح الإنسان. وقد سبق أن كتبت عنه موضوعًا بعنوان: المقالح الإنسان.
من يعيش مع المقالح أو يقترب منه يدرك مدى ارتباطه العميق بتفاصيل المعنى الإنساني، وهي أمور لا يدعيها، بل يمارسها في حياته اليومية.
ومن هنا فداحة رحيله على المعنى الإنساني في حياة كل من عرفه عن قرب.
يقول محمود درويش:
"بالأمس كنا نفتقد الحرية، واليوم نفتقد المحبة. أنا خائف من الغد لأننا سنفتقد الإنسانية".
بعد رحيلك، أخي الكبير عبدالعزيز، أشعر أن هذا القول ينطبق على فقداننا لك بقدر ما ينطبق على الوضع السياسي العام في بلادنا وفي منطقتنا والعالم.
ضاقت مساحة الإنسانية في علاقاتنا وحياتنا الشخصية والعامة بعدك.
وبعد رحيل كوكبة من قادة الفرح الثقافي والإنساني: عمر الجاوي، عبدالله البردوني، يوسف محمد الشحاري، لطفي جعفر أمان، محمد الربادي... إلخ.
قصائد المقالح وسلوكه الحياتي والإنساني مهدت لانتشار صوت التغيير عبر الفكر وفي الميادين المختلفة، من أول كلمة إلى أول طلقة تدعو إلى الحرية والتغيير.
بكلمات بسيطة وأفعال إنسانية خلاقة، كان يقدم رؤيته للتغيير، ويعيد تشكيل الواقع إنسانيًا، ويجعله قريبًا من الناس.
كان المقالح الإنسان يؤمن بقوة الكلمة وقوة الشعر، وإيمانه بدور المثقف في الإصلاح والتغيير واضح.
إنها سلطة المثقف الإنسان.
المقالح الإنسان ظاهرة لا تتكرر إلا بعد زمن طويل من تراكم الفعل الثقافي والأدبي والأخلاقي والجمالي، وبعد ممارسة حياة ترسخ المعنى الإنساني.
من بداياته المبكرة، كان يبحث عن العمق الشعري والثقافي في إطار إنساني.
كان عبدالعزيز المقالح مثالًا أخلاقيًا وإنسانيًا في رؤيته للواقع ولمن حوله.
المقالح أيقونة أخلاقية وإنسانية بكل ما تحمله كلمة "إنسانية" من معنى.
كان يوسع المشتركات الحياتية والجمالية بين الناس، ولذلك كان مقر عمله في مركز الدراسات والبحوث محجًا لجموع مختلفة من فئات المجتمع، طامحين لسماع خطاب الائتلاف والوحدة على قاعدة التأسيس لمعنى الاعتراف بالآخر.
حتى في قمة التعب والضعف الجسدي، كان حديثه يشع بالقوة والمقاومة للفساد الأخلاقي السائد، وكأنه يقول: أقاوم بقوة صمت المعنى الإنساني في داخلي.
فقدانك، أيها العزيز والنبيل، هزنا من الأعماق. تداعيات رحيلك لم تفارقني، فوجودك معي في ذكراك يقويني في مواجهة متاعب الحياة. حقًا، أنت حياة في الرحيل.
حياة المقالح وسلوكه اليومي تقول لنا: قبل أن تكون مفكرًا أو شاعرًا أو باحثًا، يجب أن تكون إنسانًا.
فالإنسان هو بداية كل البدايات، هو سدرة المنتهى، هو حالة صيرورة متجددة في الزمان والتاريخ.
المفكر والشاعر والباحث هو تفصيل فرعي عن الإنسان على حقيقته، وليس مجرد مجاز.
حياة وسلوك المقالح اليومي وكتابه شعراً ونقدًا ونثرًا هو فعل كتابة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الصوفية في حياته لا تظهر في أعماله الشعرية فقط، بل في تقشفه وزهده في مظاهر الحياة المادية، وهو أحد أبرز سمات سلوكه الإنساني.
هكذا عرفته، وما حاولت تعلمه منه، لم أفلح فيه.
لم أحضر له مقيلًا في منزله رغم الصداقة الحميمة التي جمعتنا لثلاثة عقود، ومع ذلك لم يثر ذلك أية حساسية لديه.
نقرأ هنا صورة الإنسان الذي يكبر على تفاصيل الصغائر، لأن حضور المعنى الإنساني في وعيه وسلوكه يطغى على كل الهوامش الذاتية.
سلامًا عليك، أيها النبيل والكبير والإنسان.
حقًا، أنت حياة في الرحيل.
الهوامش:
1- محمود أمين العالم: "الإنسان، موقف"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، تموز/ يوليو 1972، ص7.