صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن بين جيل شاخ  وجيل جديد متعثر في قيادة الدولة

واقع الوضع الإداري والسياسي في اليمن يكشف جيلًا يشيخ في السلطة وجيلًا يتعثر خارجها، فاليمن يعيش واحدة من أعقد المعضلات السياسية والإدارية في المنطقة، معضلة تتجذر في طبقات من التاريخ السياسي المضطرب وممارسات السلطة الطويلة وتراكمات الحرب والصراع وغياب التخطيط المؤسسي.

هذه المعضلة لا تتعلق فقط بالصراع بين القوى السياسية، بل تتعلق بالعلاقة المختلة بين الأجيال وبفقدان الدولة قدرتها على إنتاج كوادر جديدة قادرة على إدارة بلد متعدد هش وثقل أزماته يتزايد عامًا بعد آخر. فمنذ عقود ما تزال شخصيات سياسية مخضرمة تحتل المشهد، بعضها تجاوز الثمانين من العمر ولا يزال متشبثًا بدوائر القرار محاطًا بحاشية من الأقارب والمقربين والموالين، في مشهد يختزل الدولة في شبكة اجتماعية ضيقة لا تتجدد. وفي المقابل هناك من تقاعد من العمل السياسي لكنه ترك شبكات نفوذ ظلت فاعلة داخل المؤسسة الإدارية وأصبحت امتدادات تتحرك باسمه مانعة أي نقد أو تغيير أو تجديد، وهناك أيضًا من اختفوا من الساحة بعد تحولات الحرب لكن آثارهم بقيت في كل زاوية من زوايا الدولة، من أنظمة التوظيف إلى شبكات المصالح، ليبدو المشهد وكأن الدولة تواجه أزمة بنيوية عميقة. فبدل أن تكون مؤسسة تتجدد عبر دورات طبيعية أصبحت مؤسسة جامدة تعيد الوجوه نفسها وتكرر الأدوات نفسها بينما تتآكل المعرفة وتتراجع الخبرة الفعلية.
وتتعزز هذه الأزمة من خلال مجموعة مؤشرات تكشف خللًا كبيرًا، يبدأ من شيخوخة القيادة السياسية حيث يتجاوز متوسط أعمار القيادات الستين والسبعين عامًا مع غياب شبه كامل لقيادات في الأربعينيات والخمسينيات، ما يجعل القرارات تصدر بعقلية سياسية قديمة وبأدوات تفاوض موروثة بعيدة عن لغة العصر ومتغيراته. ويظهر الخلل أيضًا في انعدام تداول الخبرات، فالمناصب تُسلّم عبر الولاء والوراثة السياسية لا عبر الكفاءة، ما خلق دائرة مغلقة تمنع أي تجديد حقيقي داخل مؤسسات الدولة. أما الجيل الوسيط، المفترض أن يكون بين 35 و45 عامًا، فهو جيل منهك بلا تدريب كافٍ ولا فرص ولا خبرات تتيح له تولي القيادة، رغم أنه الجيل الأكبر عددًا والأقل تأثيرًا. وتتراجع مؤسسات التأهيل الإداري بشكل كبير، فالمؤسسات الحكومية المعنية بالتدريب شبه غائبة أو ضعيفة أو تعمل بأنماط تقليدية لا تلبي احتياجات الإدارة الحديثة، بينما تستحوذ شبكات النفوذ على القرار السياسي داخل دوائر مغلقة من المقربين والمعارف، بعيدًا عن المؤسسات الرسمية، ما يعطل دمج الكفاءات الشابة. ويزداد الوضع سوءًا مع اقتصاد منهك يعيد إنتاج الهشاشة، إذ تصبح الوظيفة الحكومية الملاذ الوحيد لكنها محكومة بالوساطة والمحسوبية، فتتحول الإدارة إلى ساحة تراكم عشوائي بدل أن تكون مؤسسة تخطيط وتنظيم. كما أثرت الحرب على التكوين الإداري، إذ أنتجت طبقة جديدة من القيادات المرتبطة بالتمويل العسكري واللوجستي، وهي قيادات صعدت بسرعة لكنها تفتقر للخبرة الإدارية، فساهمت في تفتيت البنية المؤسسية أكثر.
وبين جيلين متصارعين على هوية الدولة يجد اليمن نفسه أمام فجوة عمرية وفكرية كبيرة، جيل قديم ترسخ في السلطة حتى فقد القدرة على قراءة اللحظة الحالية وجيل جديد خرج من رحم الحرب مثقل بالصدمات بلا تأهيل ولا مؤسسات ترشده أو تمنحه فرصة. هذا الانفصال لا يصنع أزمة سياسية فقط، بل يصنع أزمة ديمغرافية ووظيفية، فبينما تتوازن الدول المتقدمة بين الماضي والحاضر وتنتقل الخبرات عبر جسور واضحة، يعيش اليمن حالة اختلال عميق بين جيل عالق في الماضي لا يريد المغادرة وجيل عالق في الحاضر لا يعرف كيف يبدأ، فتتراجع الثقة بالمؤسسات وتتحول الدولة إلى هيكل بلا روح قائم على اسمها أكثر مما هو قائم على قدرتها.
وهكذا تبدو الأزمة في اليمن أزمة إدارة قبل أن تكون أزمة سياسة، أزمة دولة غابت عنها القواعد وتوقفت فيها عجلة التجديد وتآكلت فيها جسور التواصل بين الأجيال، ولن يكون ممكنًا إعادة بناء اليمن دون إعادة بناء النظام الإداري وإطلاق دورة حياة جديدة للخبرة تتيح للشباب إدراك مكانهم الطبيعي، وتسمح للجيل القديم أن يسلم الراية بسلام..

الكلمات الدلالية