أبواب ما زالت تُطرَق
في المدن القديمة، لا تُقاس الأزقة بوسعها، بل بما تختزنه من *حكاياتٍ دافئة* ، تنام بين جدرانها وتستيقظ مع خطوات العابرين. هناك، حيث تتجاور الأبواب والنوافذ كأصدقاء.
استيقظت من قيلولة الظهيرة مثقلاً بشيء من الملل، ذاك الملل الذي يتسلل خلسة إلى النفس حين تتكرر الأيام على نمطٍ واحد. قلت في نفسي: لم لا أخرج؟ أتنفس شيئًا من عبق الماضي، وأدع قدميّ تقوداني في أزقة إب القديمة، تلك المدينة المحتضنة تلًّا كبيرًا، كأنها تتأمل باقي المدينة بحنوٍّ وصمت.
كانت الشمس ساطعة، لكن أزقتها ظليلة لتقارب أبنيتها العالية الدافئة بالحب، ونوافذها الخشبية الصغيرة بقيت محتفظة بعقودها ولم تتغير. مشيت من زقاق إلى آخر، أتأمل الأبواب العتيقة، بعضها موصد، وبعضها موارب، وكلها تنبض بحكايات من رحلوا. قلت في نفسي: كم من يد طرقت هذه الأبواب؟ أترى كان بينهم رجل بطربوشٍ عثماني، أو امرأة تخبئ رسالة في طيّات عباءتها من زوجها البعيد؟ أو ربما رجل مثقل بالهموم، ساقته قدماه كما ساقتني، يتسكع في أزقتها بحثًا عن شيء لا يُقال بل يُحس... بصمت.
هنا، في هذا الحي القديم، سكن الأتراك زمنًا طويلًا، تركوا بصمتهم في تفاصيل المكان: في بعض نقوش الأبواب، وفي شكل النوافذ، وحتى في أسماء بعض الزوايا. كانت لهم دكاكين، ومقاهٍ صغيرة، ومساجد بنوها على طريقتهم، ولا تزال مآذنها تشهد على حضورهم، وقبابها تحمل بصماتهم، وحتى حمامات البخار ما زالت تُنسب إليهم حتى اليوم.
حين أذّن العصر، دخلت مسجدًا من تلك المساجد التي تشعر فيها أن الزمن قد توقّف. ورغم قدمه، كانت نظافته لافتة. في الزاوية، نظرت إلى شيخ قد غزاه الكِبَر، متكئًا في زاوية المسجد، قد فرش بين يديه مصحفًا أثار القدم عليه. استوقفتني مئذنته الطويلة، شامخة في صمت، وقبابه البيضاء المتجاورة، وصرحه البارز كأنه شاهد على قرونٍ من الدعاء والسكينة.
هنا تتقارب المساجد وتنتشر بكثرة، وبعضها كأنها نُسجت من نسيج المدينة، ترافق أهلها في صلواتهم، وتغمر المكان بسكينةٍ ودفء.
خرجت أتابع تجوالي، فاستوقفتني ثلاث فتيات، بعد أن رأينني في زقاقٍ آخر، ولعلّهن ظنن أنني فقدت الطريق. سألتني إحداهن:
"إلى أين أنت ذاهب؟"
ابتسمت وقلت: "أتسكع هنا وهناك... أتعرف على مدينتكم."
ضحكن بخفة، ومضين. بقيت أنظر إليهن حتى اختفين خلف الزاوية.
هنا، الأزقة تتشابه، لكنها تحمل لكل منها روحًا مختلفة، ولكل منها رائحة.
مررت بدكاكين صغيرة، متجاورة كأنها إخوة. بعضها أبوابها خشبية قصيرة نوعًا ما، وبائعوها يرحبون بالغريب كأنه ابن المدينة. حتى الشيوخ، يرفعون رؤوسهم من مجالسهم ويحيّونك بابتسامةٍ صافية، فيها من الطيبة ما يزيل عنك غبار الوحدة.
وفي الزوايا، تجد أنواعًا من المأكولات الشعبية: زلابية ذهبية اللون، وطرمبة مغمسة، وبقلاوة... كل شيء هنا بسيط، لكنه محمّل بالدفء والحنين.
قرب أحد الأزقة، خرجت مجموعة من البنات الصغيرات من مدرسة. سألت بعضهن عن أسمائهن وفي أي مرحلة يدرسن، وكن يجيبن بابتساماتٍ مرحة. ثم سألت إحداهن عن اسم المدرسة، فقالت: "نور."
وأشارت أخرى إلى لافتةٍ صغيرة على جدارٍ باهت، فقرأتُ: "مدرسة النور."
كان مبنى بسيطًا، لكن منه خرجت زهرات يملأن الزقاق ضحكًا ومرحًا، ينورن المدينة.
ثم قادتني رجلاي إلى الحمّام الشعبي القابع قرب الشارع الضيق، بابه المنخفض نصف مفتوح، ينبعث منه بخارٌ دافئ ورائحة صابون. تساءلت: كم مرّ عليه من أناس؟ كم من حكاية غُسلت في مياهه الساخنة، وكم من همٍّ تبخّر مع بخاره؟ كم عروس اغتسلت ببخاره وزُفّت لزوجها؟
وكم من جسدٍ أنهكه التعب، فاستراح تحت يدٍ خبيرة، تفركه وكأنها تمحو عنه تعب السنين؟
كأن الحمّام ذاكرة المدينة لا تنسى وجوه العابرين.
تذكرت ما قيل لي يومًا إن بعض العائلات تتناوب على إدارته، كأنما هو إرثٌ مشترك، لا يُكتب في السجلات، بل يُتناقل بين الأجيال.
رأيت شيخًا يخرج منه، يلف جسده بمنشفةٍ بيضاء على ثوبه، وعلى وجهه ارتخاء من اغتسل من تعب الأيام. حيّاني بهزة رأس، فبادلته التحية، ثم مضى ببطء.
جلست على عتبةٍ قريبة، أراقب المدينة بهدوء. طفل يركض خلف كرة، امرأة تنادي على ابنها من خلف النافذة، صوت مذياعٍ قديم ينبعث من نافذةٍ مفتوحة، وبنات صغيرات يتحلقن ويلعبن ويرددن بضحكات بريئة:
"فتحي يا وردة، غمّضي يا وردة..."
كل شيء هنا يبدو مألوفًا، كأنني كنت جزءًا من هذا المكان يومًا ما، ثم نسيته، وعدت إليه صدفة.
قمت من مكاني، ومضيت. الشمس بدأت تميل نحو الغروب، وظلال الزقاق ازدادت طولًا. لكن في داخلي، كان هناك ضوءٌ صغير قد اشتعل...
وأبوابٌ قديمة ما زالت تُطرَق.