صنعاء 19C امطار خفيفة

في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة- ٢٤نوفمبر

سيميولوجيا المدينة– الأنثى.. تعز أنموذجاً

سيميولوجيا المدينة– الأنثى.. تعز أنموذجاً

"أن تعود صوب مدينتك فلا تجدها ولا تجدك، وأن تحاول بث الحياة في ذاكرة المكان وتعجز عن فعل ذلك، فليس أمامك غير التوقف عن الإبحار في قوارب مثقوبة وممزقة الأشرعة"

طارش خرصان، موقع خيوط

المستوى التعييني:

وصف الصورة – الكاريكاتير:
الصورة للفنان الكاريكاتوري الشهير، رشاد السامعي، لمدينة تعز، في 2012، بعد احتجاجات 2011. وللصورة بعد سياسي اجتماعي- ثقافي، خطابها مشبع بعلامات ورسائل عن أحوالها وأهوالها، وتعز في الصورة- الواقع هي صورة حال المدن اليمنية قاطبة.
شغلت المرأة الحيز الأكبر في الصورة، امرأة موجوعة، مهدمة، دموعٌ مسكوبة، استبدل ثوبها "الزنة" التعزية المعروفة، والمحبوكة الصديرية، والمقرمة الحمراء القطنية المنقطة، وكذلك المشقر والمصوغات الذهبية "اللازم"، والفضية "الأقراط" بالأسلحة والتي رصت كباقات وبعناية.
نشرت الصورة في العديد من المواقع الإلكترونية، وفي الصحف الورقية، وفي صفحة الفنان، وجاء تأطيرها بشكل مستطيل ركزت فيه على الوجه الأليم، وبروز انكسارات حادة، وركزت أيضاً على التقاط الرأس والرقبة والملبس متلبسة بترسانة الأسلحة، ثم الفراغ الكبير من مساحة الصورة، خطوط منحنية في تقاطيع الوجه والشعر وصديرية الثوب، ثم أشكال هندسية من دوائر وخطوط مستقيمة.
بدا اللون الأخضر في الكاريكاتير هو البارز، (الثوب الصبري- التعزي)، ثم اللون الأصفر الذي يشير إلى الذهب الذي تتزيأ به المرأة اليمنية، ثم اللون الأحمر غطاء الرأس "المقرمة"، ثم اللون السماوي الذي يرمز للفضاء/السماء الصافية. لقد استخدم الفنان الألوان الباردة من الأخضر والسماوي والرمادي والأزرق ثم الألوان الحارة من الأحمر، وما بينهما الأصفر، والوردي، والأبيض، وخطوط اللون الأسود.
الصورة الأيقونية، في مداليلها الظاهرة، من الشكل البشري: وترمز إلى المرأة وجسدها في مدلولها الأول، والمدينة واستباحتها في مدلولها التضميني الثاني. وحملت الصورة أيضاً، دوالاً أيقونية أخرى، أشكال طبيعية: ملبس وزينة، تشي بالانهيارات، ولسانها، أن المدينة أصبحت ثكنة حرب حيث غُرس "تشكع" وجه وجسد المرأة بالأسلحة المختلفة.
وهناك أشكال هندسية: من الأشكال البيضاوية للأقراط وتحمل رمز القنابل، والجعب واللازم/العقد الذهبي، حزام رصاص، والثوب والوجه والجسد بكل الخطوط والأشكال الهندسية حملوا رمزية الحرب والإفناء.
الرسالة اللسانية: ظهر اسم الفنان، وإيميله، وبجانبه عملية الترسيخ، لتثبيت رمزية الألم وفواجع الحرب والحصار والمكتوم بالعزلة.

المستوى التضميني:

تعد لوحة المرأة المدينة- تعز، من الرسومات الكاريكاتورية المميزة، للفنان المبدع رشاد السامعي، وهو من الفنانين المتميزين في فن الكاريكاتير، تركز رسوماته على الإنساني الوجيع في لحظاته المختلفة.
وأتت رسمته عن تعز/ المدينة/ الأنثى، في ذروة التقاتل، بعد احتجاجات/ ثورة 2011. وانكسار حلم الشباب اليمني في التغيير، وبناء دولة مدنية حديثة، كما كانت تنحتها شعاراتهم، الصورة، لا تُختزل في زمن الربيع اليمني ومآلاته، بل وترسم صورة المدينة واليمن حتى الساعة.
حملت الصورة الكثير من العلامات السيميولوجية، والسوسيولوجية/السيميائية، في نقل صورة ما يعيشه البلد في ظروف الحرب والاقتتال الداخلي والخارجي، وتوالد المليشيات، واستحكامها، بالأرض والإنسان، بنشر الخوف والرعب والنهب، والقتل اليومي المجاني، والتعصب الطائفي والديني المذهبي، والحصار، والذي كان وبالاً على المدينة والمرأة بشكل مضاعف. وهو ما يسم المدن اليمنية على مر التاريخ اليمني، في حروبها البينية قبل الغريب، والتي تتوالد باستمرار، تخفت جمرتها هنا لتشتعل هناك.
بحسب معلومات المركز الوطني للمعلومات، يشكل سكان تعز ما نسبته 12.16% من عدد سكان اليمن. وعدد مديرياتها 23 مديرية، وتبعد عن صنعاء 256 كيلو متر.
لقد أبرزت صورة الكاريكاتير النحت في كشف جسد المدينة، وخصوصاً وجهها- رأسها، وصدرها، لتقول لنا، إن الذهنية المشحونة من تعبيرات وألقاب مدينة تعز أنها: المدينة الحالمة، ومدينة السلام، المشاقر، الثقافة، والتعليم، والمدنية والمواطنة، والتعددية، والانفتاح، والتعايش، و"تعز العز"، وو..الخ، مجرد مسميات، شكل، ألقاب خشبية، بل رماد، فهي تحمل نقيضها حرفياً.
لقد أضحت تعز وكل المدن اليمنية، بلا استثناء، مسرحاً ودكاناً لا ينضب من حروب وصراعات وطائفيات عبثية، ليس بين المليشيات التي تفتك ببعضها، بل ويمتد جنونها واستعارها في كل مكان من الإنسان والبشر والحجر، حتى وصل خرابها إلى القرى القصيّة التي لا توجد بها مدرسة، ولم تشق إليها طريق، ولم تصلها مياه، أو كهرباء، لكنها مغلولة بالمليشيات تتفجر طريق طريق. ومع 2011، وبعدها، 2012، وصولاً إلى انقلاب-احتلال الحوثي في 21 سبتمبر 2014، أصبح تصنيع المليشيات المتصارعة بالبلاد والعباد، سمة مميزة للمدن، اشتدت ضراوتها الهمجية، مع تدخل الجوار الإقليمي والدولي، في تغذية العنف والحرب المدمرة التي أهلكت الحرث والنسل. ناهيك عن سلطة المعسكرات في قلب المدن والأحياء، والتي تتوسع مع كل حكم، أكان في الشمال أو في الجنوب، قبل الوحدة أو بعدها، وقد أتخمت بالفوضى العسكرية الفائضة أكثر مع نظام صالح لثلاثة وثلاثين عاماً. أما بعد 2011، وانقلاب الحوثي، والمجلس الانتقالي- الذي عسكر البحر- فقد تأثثت المدينة بكل ذلك، وأصبحت لا تفرق بين، هل هذه مدينة، أم معسكر، أم سجن، أم قعر جهنم؟ والأشد رعباً، أن ترى مليشيا أبناء شارعك وحارتك، يتباهون بكل ذلك العتاد المسلح، الذي من المفترض أن تمتلكه الدولة.
في 2011 وفي قلب احتجاجات اليمن، سرى ما سرى على اليمن بأكملها، فقد غدت المدن فرجة للتقاتل بين قوى الثورة التي استملكت الثورة والاحتجاجات، من قبل الحزب المهيمن حزب التجمع اليمني للإصلاح الإخوان المسلمين، وجماعاته من السلفيين- وإن اختلفا شكلياً- والجناح العسكري الأصولي من حماة الثورة "الفرقة الأولى مدرع" وغيرهم، إذ تعد تعز، بكثافتها السكانية، ريفاً وحضراً، المعقل الرئيس لهم. وبين قوى نظام السابق علي صالح. فتجزأت المدينة إلى كنتونات متشظية، عنوانها الحرب والنهب، وترويع الساكنين، ثم الحصار المستقوي بحسب قوة وسيطرة مليشيا الأمر الواقع، في ظل عدم وجود الدولة، (حتى وإن كانت هشةً/ ظلاً).

ثارات المدينة إذ تقتسمها العصابات

أنقل لكم صورة ظللت أشاهدها كلما ذهبت إلى تعز، لكم الاستعراض المنفلت في إطلاق الرصاص، والمدافع، والصراخ، والضحك الهستيري لمجاميع المليشيات، وصيحات الله أكبر، وسجود انتصارات الوهم، في ظل ذلك الصمت الموحش للشوارع المدمرة، والأطلال، كمنطقة "الجحميلة، وحوض الأشراف، وسوق الصميل، ومدرسة الشعب والشماسي، وبير باشا، وثعبات، والنقطة الرابع، واللاجينات، والمدينة القديمة.. الخ".
تعز
كم من الوجوه التي لا تعرفها المدينة، تستعرض قوتها سلاحاً وملبساً: الشعر المنسدل، والعصابة على الرأس بطريقة لا تعرفها ثقافة المدينة، أقصد الملبس الأفغاني الذي يجوب المدينة طبعاً وبجانبه لبس الجلباب الثقيل على نساء تعز الذي تضاعف واكتسح حتى طالبات المدارس الصغيرات.
حروب طاحنة، ومجازر عبثية، وتهجير ونفي، مازالت حتى اليوم، لتصبح المدن وشوارعها كانتونات صغيرة ملغومة بمليشيات، من أطراف متحاربة متعددة كالحوبان ومناطق صبر، وبعض الأرياف، تصبح القرية أيضاً مقسمة، وبحسب التعبير الشعبي "كشركة/ لحمة سابع" بينهم، تلك لحزب الإصلاح وأتباعه، وأخرى للحوثي وأعوانه، وأخرى للسلفيين، وأخرى لجماعات صغيرة تتوالد من البيوت، والأحياء، والشوارع، والمقايل، والأسواق، نعم حالة سيلانية لتوالدها المعجزاتي وكلهم يرفعون شعار المقاومة من أجل الوطن والمواطن.. ولا ينسون أن يلحقوا ببيانتهم وشعاراتهم "دفاعاً عن الحالمة".
في 2017، مررتُ بالعديد من الشوارع، فقد حاولت إحصاء عدد المليشيات والجماعات المسلحة في شارع واحد، دونت من خلال أسمائهم فقط على الجدران، والأحجار، والبيوت، والسيارات، وبراميل القمامة، ومؤسسات ما كانت تعرف بمؤسسات الدولة. كان عددها في ذلك الشارع 22 مليشيا تقريباً. بعضها بأسماء قيادات قديمة وجديدة تشكلت مع الحرب، وبعضها بأسماء وشعارات جماعات وتنظيمات، مثل تنظيم القاعدة، الذي رأيته على واجهات بعض المدارس، والشوارع العامة، والمؤسسات، بعضها للأسف من سكان مليشيات الحواري والبيوتات والجيران، أعمارهم أقل من 18 عاماً، إذ تتوفر لهم الأسلحة وثمن القات وغيره من المنشطات، وبذخ التوحش وكم العنف في سحنة كل مليشاوي، خصوصاً تلك الأصوات الاستذئابية، التي تشرخ الظلام الموحش في الشوارع المهجرة سكانها.
يقفون بعنجهية وأياديهم على الزناد، وهم يعتلفون القات، أو ملمومون على مائدة، تحت العمارات، والمنازل، قيل إنهم كسروا أقفالها، وسكنوها، وغنموا محتوياتها، كما حدث في الجحملية، من قبل ما يطلق عليها بـ(المقاومة الوطنية). وفي المقابل استوطن الحوثيون الفنادق الكبرى، كفندق شمسان، وبعض البنايات الكبيرة عند النقطة الرابع، لقنص الناس، وشاهدنا كماً كبيراً من صور الجثث التي قتلت قنصاً عند جولة حوض الأشراف، أو عند النقطة الرابع، أو المحافظة، أو السوفتيل، أو بير باشا.. الخ، (بعض الجثث لم يستطع أي إنسان الاقتراب منها خشية القنص) وكم من الحوادث المؤلمة التي امتدت اغتيالاً لعائلات ملمومة على مائدة الأكل، يقول الفنان رشاد السامعي، عن المقاومة المسلحة: "ولا خلوا بيت إلا وسلخوه، يسرقون في الليل ويخرجون المسروقات في النهار، رغم أن النقطة اللي هناك عندهم أكثر من خمسة بلاغات عليهم. ومع هذا يمرون من النقطة محملين كل يوم حاجة، يوم طيقان ألمونيوم، ويوم أبواب، ويوم غرف نوم.. وهكذا"( نيوز يمن 2019). وهذا بالفعل مُشاهد، وبأعين الكاتبة، وهي تمشي في شوارع المدينة، خصوصاً عند ميدان الشهداء.. حتى الكامبات اغتنموها، وأخذوا الأسلاك منها، يسمى "النحاس"، وكانت أكوام في قلب ميدان الشهداء.
من الواضح، أن مليشيات الأطراف المتقاتلة بالعيش والملح، تعتاش بالولاءات، والانقسامات داخل معسكرات ما يسمى بـ"الجيش الوطني"، الولاءات لقادة المليشيات للأحزاب والجماعات المهيمنة من الإسلام السياسي، ما يطلق عليهما "السني والشيعي"، ومليشيات نظام صالح، فهم المحتكرون للمقاومة والرد على العدوان، وقلما تجد فصيل ما يسمى بـ "الوطني" -وأربأ بنفسي عن تصنيف الناس إلى وطني وغير وطني.

المدينة: دوووولة

المدينة صناعة، أصبحت مدينة تعز بمناطقها ترفل بألقاب قبلية مشيخية قادمة من بطون صراع التخلف وبالتخلف الأشد وعورة والأكثر قتامة، فتحقق ما كان يصبو له نظام علي عبدالله صالح، من قبْيَلة المدن، وتحويلها إلى معسكرات، وبطون وتكيات مشيخية تخلد سلطانه، الذي انتهى بنفس الرصاص التي غرسها في كل جدار وشباك/"طاقة"، في المدينة والريف. فقبيلة المدن، بتدمير تمدينها، وإلحاقها بالقبيلة والبداوة "المشيخة"، يعد أحد أهم وأخطر المصانع المنتجة للخراب في اليمن، فهي تضخ على مدار الساعة مشايخ/ مليشيات، من كل شكل ولون وعمر، وعلامة مسجلة للسلطة، اللادولة، والفارق بين شيخ وآخر، هو كم التوحش، ومدى إذلال الناس وقهرهم، في بيوتهم، والشارع، وأماكن عملهم، وكم فساده، وكم الرأسمال المال الذي نهبه واستحوذ عليه ممّا يطلق عليه دولة، أو من المواطنين، وافتعال الأزمات للمزيد من السلب (الشيء الوحيد المنظم في اليمن).
فهذه حيفان، ونواحيها من الأعبوس والأعروق، مثل كل النواحي في مدينة تعز والمدن اليمنية، تتشقر بالمشايخ، والأعيان، والأسلحة، والمليشيات، كل مليشيا تتبع طرفاً، أو محوراً، أو قائداً لذراع، لأي دولة من دول الجوار من السعودية والإمارات، وإيران ..الخ، أو حتى الجني الأزرق، بالإضافة إلى ما هو موجود من قبائل شرعب، وصبر، والوازعية التي يفخرون بعروقهم القبلية، ومعمل مشيخياتها، وكم الحشود المسلحة باسم المقاومة الوطنية، حتى طريقة رفع الكلاشينكوف نفس مليشيات الحوثي، وقبائل حاشد، فقط المميز أناشيد أيوب طارش التي تصدح وسط جنونهم، (عبثوا بأيوب فناننا الجميل قبيلوه بالقوة، جرملوه بالحشد والعنف الفائض، وأنا أشاهد الفيديوهات، لم أفرق بينهم وبين ما شاهدته من حشود قبائل حاشد وخولان وصعدة).
تلك هي تعز الحالمة، صورتها الكاريكاتيورية، المزنجرة بشرع القبيلة وثارات المشيخيات الضارية وزواملها، وملبسها، وتفاخرها بأنها خارج الدولة أو بالأحرى ما قبل دولة، تعز مثل عدن والحديدة، وصنعاء، وحضرموت.. الخ، تقاتل من أجل محق ألقاب الحالمة والمدنية وكأنها وباء يلطخ جبينها. لتصبح لتعز متلازمة الغزو وتبعاته من الفيد، والثارات، والانقسامات البينية، مثلها مثل، جرف سفيان، أو جرف خولان، أو الحدأ، أو جرف سلمان. التي عنوانها: ألا تكون دولة، وإن وجدت فهي على أسنة الرماح.
احد الشوارع في تعز
فالتميز الذي لصق بتعز وقراها، ذاب في خضم اللحاق بركب ديوان الشيخ، وصميل العكفي، وميزره العتيق الحديث، وشاص المحارب العنيد، فلم تمشِ على طبيعتها المعروفة المسالمة، والمدينة التعليمية وقوى العمل، والرأسمال التجاري، الذي لا يُعرف إلا بالاستقرار، إلى قبيلة ممسوخة، مقلدة، بابتذال كـ"الراقصة بالغدرة، ومن يقل لها ياسين"، سوى عصابات الخراب. ولذا تتكسر تعز المدينة بالسلاح والتخلف ينخرها الأسى والبؤس في أعتى صوره.. كصورة الكاريكاتور. وكما قال ابن خلدون: "المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".

تطهبشت "الزنة":

وعودة إلى صورة الكاريكاتير، المدينة إذ تعرف بالمرأة- الأنثى- الأم بالزنة، بالمشقر، والكحل، والمقرمة، بالمصوغات الفضية والذهبية (اللازم، والمُريه، والطنج، ووزغ أبو جنيهات، وخواتم الياقوت، وشوالية أبو نقشة).
كيف فتكت الحرب ومنقوع العصابات الإجرامية الهمجية بالإنسان وثقافته ومحمولاته، فغدت زينة المرأة/الأم رصاص ودموع وجهها تنخره التجاعيد، ولبسها مثقل بأنواع والأسلحة وقبور طولية، ومنحنيات، وكأن هندسة المدينة - الزنة، لا تتسع إلا للقبور، والسلاح، التي رصت بعناية كل مسدس مقابل الآخر. بمعنى القتل المتبادل بين الأشقاء. أصبح ذلك الصدر بستان الولادة والحياة، أسلحة وقبور، ومن المشاقر رمز السلام والحب والخضرة والبهجة، والخصب، إلى النقيض، ومثلهم الثوب الأخضر رمز النماء والخصب إلى لون الموت والدمار.
الصورة تستعرض جسد المدينة- الأنثى، وقد تحول إلى غابات من الأسلحة بكل أشكالها، كلاشنكوف وبوازيك، حتى الأقراط غدت قنابل، والذهب اللازم، ومنمنماته الذهبية غدا أحزمة رصاص ناسفة والمليشيات المتناسلة، إنها: المرأة- المدينة. فمن وجودها الفيزيقي الجميل والأليف وكرنفالها الروحي اليومي، من زينة بهجة وتتويج الجسد بلباس الزنن المبهجة والتضمخ بالعطور، والزهور والريحان، إلى وجه مكلوم، ودموع منسابة ووجه متجعد، وزينة وخضرة برائحة الموت والدموع والقهر.
الصديرية ذات الأشكال الهندسية "المزجزجة"، هو صدر المرأة المدينة تشبع جوع طفلها/ إنسانها، بحليبها وحليب الحنان والأمان، تحول الصدر-الصديرية، ونقوشها إلى مسدسات الموت والفناء، كل مسدس يقابله مسدس آخر/في الخطوط المستقيمة والمنعرجات، كلٌ يرفع سلاحه في وجه الآخر، الموت المتقابل، أو كما قال صالح من طاقة لطاقة، أو معمر القذافي من زنقة لزنقة.
الموت وحده، يملك حرية التجول في المدينة اليمنية، لتغدو أشعاراً، وأغاني: "ما حلى فراسكك واصبر، ويرحم أبو من غرس"، بمثابة يوتوبيا، أو ما يطلق عليهم اليوم، "الزمن الجميل"، أو "الحالمة"، أمام مارثون الحرب والهزيمة، والعكس، "فراسك" الموت المغروسة في كل شبر من المدينة، والمشقر المعروف من باقة الريحان والأزاب والأثلان والرنجس المتطابق وورد القطيفة والقرنفل تنقلب إلى غابات بنادق وبوازيك، حمحمة الريحان في تعز المدينة- الأنثى، عنونت بحُمحمة الموت.
الانكسار المضاعف في وجه المرأة- المدينة، في تجاعيدها ودموعها، مثقلة بزنة وإكسسوارات ومشقر الموت، عنوان تعز، البارز في منحنيات وأخاديد النص هذا النص البصري، الذي استطاع أن يجسد حالة المدينة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً.
تمثل الصورة علامتين مهمتين المدينة/المرأة، المدينة/الحرب والموت، صراع الجمال والدمار، الحياة والموت، الخضرة والسواد، الخصوبة والعقم، السلام/والسلاح، المدينة واللامدينة، كل التناقضات التي تعلم المدينة وإنسانها.

الموت الأنيق:

من تضادات الألوان في الصورة الكاريكاتورية، لما تكونه الأرض والمجتمع، تنبثق أسئلة تراجيدية، يسألها الإنسان في المدينة، وهو يرى الكوابح على مدى عقود من الزمن: ألا تكون مدينة، فليست الحرب هي الوحيدة التي فتكت بها، وإنما الحروب الثقافية التي أترست بها مدن اليمن، أن تتحول مدن منكوبة، وأقلها قرية، قبيلة، متقاتلة: لماذا الطاووس، يقاتل من أجل أن يصير صقراً، ومن ثم نسراً يجرح ويتغذى على الجيف؟ والمشقر يصير غابة بنادق وأقلها "زربة" مشوكة؟ والزنة طاهش يفتك بالنقش، والترجول لغم، والنافذة لا يطل منها مشقر، والبهجة وحشة، وحديقتها محوطة كمتراس لجراجيف المدينة.
لقد تشرعبت تعز شبرا شبرا، تصبرنت صبر، تحشدنت الوازعية، وتكهفنت حيفان، وتحوثنت الحوبان والراهدة، وسامع، أضحت صورتها قابلة لكل شيء، ألا تكون نفسها: مدينة، وكأنها مجذومة به، وأقلها ملطومة بفضيحة "العيب الأسود" بالمفهوم القبائلي، نعم، مدننا تستميت قتالاً لتصبح مسخ الحصبة – حاشد "الدّيَولة" الماحقة، خنجراً في خاصرة القلم، ووجه المرأة، والكتاب، والمتحف، والموسيقى، والرقص، وفنون الحياة، أي التمدين بالمعنى السوسيولوجي.
لماذا وجب على تعز أن تخلع زنتها "المكشكشة" والملونة لتلبس المجنزر بقرون الرصاص، وتتزين بمصوغات الديناميت، وأنت ترى تعز وهي مفروشة بالمرافقين الـ "مشعفلين" الذين لا ندري حتى اليوم من أي كهف يخرجون ويتناسلون؟ لسان حال هذه التساؤلات، يقول، هناك قوى تقاتل من أجل ألا يكون هناك مدينة، وإن وجدت، يحكمها الماضي، من قبيلة وبدواة وأدواتهما. فكر القبيلة الذي ينظر إلى المدينة أنها غنيمة، وفي السلم الهش، هي، أنثى، وخنثى.

أخيراً:

توضح الصورة الكاريكاتير، أن مدننا تتحول إلى مقابر: تعز، "كلابة"، صنعاء "خزيمة"، وعدن "القطيع"، وصعدة "القرضين".. الخ، فقطيع مليشاوي غَلب مليون ومليون عمّار.
ونعم، ولا نغالي، من أن "صقور الحالمة ونسورها" وغيرها من التشكيلات العصابية، حولت تعز المدينة والأنثى، إلى وجه "كلابة" الكبير.
أمانينا، من أماني الفنان رشاد السامعي، إذ يقول: "أتمنى اليوم الذي أصبح الصباح وقد رفع الحصار وأصبح التعزي ينتقل داخل المدينة بكل حرية، الحصار شيء مؤلم ومفزع ومحزن وكارثي" (اليمن الجديد 2019). وإغلاق دكانة الحرب، أول العلاج - الكي.

الكلمات الدلالية