هل تستحيل ضيافة جاك دريدا على مدينة تعز يا علي سالم؟
علق الصحفي ودارس الفلسفة علي سالم، برأي -لا بقناعة- على نشاط فعالية أقيم في منطقة المعافر -بلدة في محافظة تعز- مواكب لليوم العالمي للفلسفة 20 نوفمبر 2025.
رأي دارس الفلسفة -علي سالم- هو "رأي كيفي" صحيح. أما محمول تعليقه والذي بدا لدى البعض متحاملًا بعض الشيء على "شيخ قبلي" يقدم نشاط فعالية خاصة بيوم الفلسفة العالمي، فهو موضوع محمول ينبغي بسطه حتى يُفهم.
وهنا فهم التحامل يتطلب الإصغاء بأهمية للتعليق؛ وذلك من جهتين:
من جهة حد للسلطة السياسية (حد سلطة الشيخ لا تحامل على اهتمامه بالفلسفة) كحد لا يتجاوز الفلسفة؛ فليس هناك من بديل للفلسفة إلا الفلسفة.
فكيف لا يستضاف دارس فلسفة على الأقل في يومها؟
من جهة ثانية حد لتغلغل سلطة الأيديولوجية على الفلسفة؛ فالفلسفة ليست أيديولوجيا.
أي أن تحامل دارس الفلسفة هنا إيجابي؛ يدفع نحو مجتمع فلسفي.
- ولكن كيف الدفع بمجتمع يستقبل الفلاسفة بلا أساتذة فلسفة في جامعة مدينته لا قسم فيها للفلسفة؟
هنا تصبح علامة الاستفهام المتعجبة من قبل تعليق علي سالم على الفعالية -رغم نيتها الطيبة كما يبدو- ريبة شك فلسفي.
- أي خطوة غير صائبة.
بل تصبح فيه فعالية اليوم العالمي للفلسفة مجرد اهتمام زائف بالفلسفة؛ لا يساعد على تحقيق الهدف من النشاط (فتح أفق للفلسفة أمام الشباب أو المجتمع)، لأن كون الفلسفة عالمي، وليس محليًا أو وطنيًا أو قوميًا.
يحمل تعليق علي سالم أيضًا "حسرة فلسفية"؛ فمدينة تعز بلا سيف للفلسفة: قسم الفلسفة.
لذلك تظل الفعالية عند دارس الفلسفة مجرد أمنية بائسة فقط. أي أن التحسر لدى دارس الفلسفة -هنا- أمنية أخرى ضائعة.
فكيف تتحول الأمنية إلى فعل؟
علي سالم الذي قدم من مدينة تعز إلى مدينة صنعاء في ثمانينيات القرن الماضي، كي يدرس الفلسفة في جامعتها، ربما حمل معه أمنية مدينة أخرى للفلسفة (مدينة تعز)، مدينة يعيش فيها الفيلسوف متسكعًا.
ولعل دارس الفلسفة (علي سالم) رأى في هذه المدينة (مدينة تعز) فيلسوفًا ما متسكعًا؛ وعلى عكس مدينة صنعاء؛ كونها مدينة عقل ذات متمركزة: زيدية بمخيال إبراهيمي (مدينة سام) تعشق الطرب خِفية..
فمدينة صنعاء محافظة ليس على سلطة ذاتها فقط؛ بل على تراتبها المتعالي للزمن.
فباستقدامها للزيدية وللإمامة تحديدًا قد تستقدم "كانط" أو "هيغل" فيلسوفي العقل الحديثين لزيارتها كضيفين غير مقيمين.
ولعلها غير قادرة لا على استقدام نيتشه وهيدجر أو دولوز ودريدا: فلاسفة الحياة والوجود المستحيل.
ورغم أن عقل ذات المدينة السياسي الإمامي الزيدي يدعو إلى الخروج على الظالم؛ فلعلها أيضًا غير قادرة على ضيافة ماركس؛ فقد اعتقل وضرب فيها أبو بكر السقاف؛ رغم أنه يستخدم التحليل الماركسي في نقده للتاريخ في اليمن، ومناهض أيضًا للنظام السلطوي الجمهوري.
كذلك ذبح فيها التنويريون عام 1948 (إشارة إلى الأحرار الدستوريين المستندين إلى فلسفة النهضة العربية الحديثة)..
أما جمهوريتها فلا تقبل "الضيوف الجدد" (تعبير لمحمد أحمد نعمان) إلا على مضض. فهناك حدود لعقل الذات الزيدية لا ينبغي للضيوف تخطيها..
فمن تخطاها لا يحبس فقط، بل يُغتال في مدينة الحرية والترجمة بيروت (إشارة إلى اغتيال محمد أحمد نعمان في بيروت، 1974م).
ومع الوحدة في التسعينيات 1990، انتقل الجنوبيون إلى صنعاء كضيوف (حسب أحد خطابات البيض)، فلاقوا الإرهاب والاغتيال.
لقد كانت الأزمة السياسية حينها -ولاتزال إلى اليوم- "أزمة ضيافة"..
فمدينة الذات الشمالية الزيدية (صنعاء) تستقبل ضيوف بيوتها (آل البيت) من صعدة فقط لا غير.
والضيف الآخر لو استضافته، فينبغي عليه ألا يتعدى حدوده، لأنه ليس من البيت؛ فقد حُصرت الإمامة السياسية على البطنين فقط.
كل من البيض وهادي تحديا حدود الضيافة، فعوقبا؛ كما عوقب من سبقوهما.. فهناك حد للضيافة السياسية عند الذات الزيدية، سواءً للضيف الثقيل (البيض وهادي) أو الضيف الخفيف (النعمان).
فهل يتحمل عقل الذات الزيدية لمدينة صنعاء ثقل وخفة زرادشت نيتشه الذي لم يُستقبل عند الألمان حين نشره..؟
بل هل يتحمل عقل ذات المدينة (صنعاء) وتستقبل شوارعها تسكع شذرات فلسفة سيوران أو رغبات وصيرورات دولوز المتعددة؟
فالشعراء فيها مراقبون ومعتقلون (أوراس الإرياني نموذجًا).
صحيح قبل عقل الذات الزيدية بالبردوني، لكنه ظل تحت مراقبة دائمة من أجهزة سلطتها الأمنية الثقافية (حسب حديث بعض المقابلات التي أجريت مع البردوني).
وذلك رغمًا من أن البردوني جزء من عقل ثقافة الذات الزيدية للمدينة؛ بل سفيرها ولو تهكم عليها "مليحة يعشقها السل والجرب"؛ فهو يمني آخر يأتي إلى عقل ذاتها الزيدي من ماضٍ بعيد، أي من مستقبل آتٍ لا قدرة على عقل الإمامة على استقباله.
كذلك دارس الفلسفة هنا (علي سالم المعبقي)، الذي عاش ودرس الفلسفة في جامعة صنعاء، لا يكره مدينة صنعاء، رغم أن رأسه شُج فيها أثناء حرب 1994، وذلك على إثر عمله في صحيفة "الشورى" وقتها.
ومع ذلك، فهو لا يشترط على مدينة صنعاء هوية فلسفية واحدة فقط؛ فمدينة صنعاء لديه كما عند محمد أحمد عبدالولي "مدينة مفتوحة": أي أنها عنده مدينة تدين (من الدَّين) للأدب.
لقد شُج رأس الصحفي ودارس الفلسفة في مقر صحيفة "الشورى"؛ وهو يحرر صحيفة منبر سياسي زيدي.
وهنا تكمن مفارقة فلسفية: الاختلاف لا يلغي آخر.
إن من يشترط "الحوار بين يمنيين"، كما صرح عبدالملك المتوكل، أثناء الحوار أو قبله، يفترض به ألا يبطن نزعة هوية سلطة ذات متعالية؛ فالحوار يتجاوز الذات إلى الآخر.
فالحوار يجري بين خصوم مختلفين، لا بين هويات؛ فلا يوجد حوار بين هويات.
ولكن ما أهمية الفلسفة هنا؟
الفلسفة هنا تساعدنا على إعادة تعريف المفاهيم، أو على طرح الأسئلة الصحيحة، أو على فضح الزائف من القضايا والمشكلات.
أو تساعدنا على تعلم فن الحديث والكلام؛ أي كيف نتحدث ونتكلم.
والأهم أنها تساعدنا على الريبة من أية حقيقة؛ فليس هناك من أصل للحقيقة وإنما هناك كيفية للحقيقة وتحولاتها؛ أي للمعنى وتحولاته.
وهنا يصبح السؤال كيف جاء معنى هذه الحقيقة أو تلك؟ وكيف سار أو تحول أو انتهى أو تبدل فقط؟
فالحقيقة الأخلاقية في أصلها كذبة؛ لأن الأخلاق عارض على الحياة لا أصل لها.
ومع ذلك، الفلسفة تطرح المشكلات المستحيلة على الفكر..
فالفلسفة إمكان للفكر؛ أي الفلسفة إحدى إمكانيات الفكر المستحيل؛ ولذلك الوجود عند الفكر هو ما يستحال وجوده، وعندما يوجد لا يصبح مستحيلًا.
لذا، الفكر يرنو نحو المستحيل، والأسئلة تصبح أسئلة المستحيل: فهل يصبح هناك شعب من المفكرين؟ فهذا تساؤل مستحيل.
أما على صعيد حياة الأفراد، فالفلسفة هي اجتراح حياة. وعلى مستوى المدينة، الفيلسوف هو مستقبل المدينة.
ولأن هناك فيلسوف ما ساكن في قلب أية مدينة؛ فمدينة تعز عند دارس الفلسفة -علي سالم- تحمل ضيافة لفيلسوف قادم؛ لأنها مدينة بطبيعتها مضيافة ومنفتحة.
لذلك تنتظر هذه المدينة العربية الإسلامية متوحد ابن باجة (إشارة إلى كتاب المتوحد لابن باجة).
فالمتوحد عند ابن باجة هو الفيلسوف، ما تنتظره مدننا العربية الإسلامية.
أما علي سالم المعبقي فهو الضيف العائد إلى مدينة تعز؛ عائدًا إليها دارسًا للفلسفة؛ حيث دارس الفلسفة هو من يستحق أن تكسر أمامه بيضة العالم..
فهناك طقس فلسفي للبهجة المرحة للفكر أو للعارف؛ وذلك عندما الدارس أو العارف يعود إلى مدينته من رحلته في الزمن، حيث تكسر البيض على عتبات المدينة مرحًا بعودته.
واليمني عامة حينما يعود إلى أهله ومحبيه، يُستقبل كضيف..
فما معنى يوم فلسفي؟ وتكراره كل عام؟
أليست الفلسفة امرأة عند نيتشه، أي آخر.
وقصيدة أخرى في هذا العالم، أي أسلوب (ميشيل فوكو).
وابتكار إبداع للفنان الفيلسوف عند دلوز، أي فن إبداع المفاهيم.
بل أليس فعل كتابة الفكر لدى نيتشه ودولوز ودريدا وابن باجة، فعلًا لمصادقة المستحيل، كفعل كتابة الشعر: مصادقة المستحيل؟
فهل تستحيل ضيافة جاك دريدا على مدينة تعز؟