صنعاء 19C امطار خفيفة

سلطة الوعي في زمن السلاح.. معركة المثقف اليمني

يمكن اختصار المشهد اليمني اليوم في حقيقة قاسية، مفادها أن فكرة الدولة انهارت قبل أن تتداعى مؤسساتها. فمع تعدد مراكز القوة وتضارب الحسابات الإقليمية، تراجع حضور الدولة إلى مستوى لم تعد معه قادرة على حماية المجتمع أو تمثيله. وبات اليمنيون مكشوفين أمام الولاءات الصغيرة، والسلاح المنتشر بلا ضوابط. وفي هذا الفراغ يتقدم سؤال جوهري: من يحمل اليمن باعتبارها شأنًا عامًا، لا غنيمة يتقاسمها المتحاربون؟

في مثل هذا السياق يتقدم دور المثقف، لا السياسي، بوصفه الأكثر قدرة على الدفاع عن الفكرة الوطنية. والمثقف هنا هو كل من يمتلك أدوات المعرفة والفهم والتحليل، من الأكاديمي والباحث إلى الصحفي والفنان والناشط الحقوقي. وفي غياب مؤسسات الدولة يصبح هذا الدور أكثر إلحاحًا، لأن استعادة الوعي العام هي الخطوة الأولى لإعادة ترتيب المجال العام.
أمام المثقف ثلاثة مسارات ممكنة: الأول هو الصمت تحت ضغط الخوف أو الحاجة، وهو خيار مفهوم لكنه يفسح المجال لخطاب القوة. الثاني هو الاحتجاج الغاضب الذي يعبّر عن الألم من دون تقديم رؤية بديلة. أما الثالث فهو إنتاج خطاب معرفي هادئ يعيد طرح الأسئلة الكبرى، ويقدّم قراءات واقعية قابلة للبناء. وقد ظهرت بوادر هذا المسار في مبادرات بحثية واستقصائية، ومنصات تحليلية تناولت قضايا الجبايات والموانئ والانقسام النقدي ومستقبل اللامركزية. وهي خطوات محدودة في أثرها، لكنها تؤسس لفضاء معرفي أكثر نضجًا.
وتزداد أهمية هذا الدور لأن السياسي يعمل ضمن حدود ضيقة، من ضغوط مراكز النفوذ المسلحة إلى التمويل المشروط والانقسامات المناطقية. أما المثقف فمساحته هي الوعي؛ مساحة لا تضبطها الجغرافيا، ولا تتحكم بها موازين القوة. ورغم أن تغيير الوعي عملية بطيئة بطبيعتها، إلا أنه قادر على إعادة تشكيل النقاش العام وتعديل الحسابات السائدة.
غير أن التحدي الأكبر يبقى في الاستقلالية؛ فمعظم الإنتاج المعرفي يعتمد على تمويل خارجي يميل إلى فرض أولوياته، فينتقل البحث من خدمة المجتمع إلى تلبية ما يوافق أجندة الممول. تجاوز هذا الوضع يتطلب تنويع مصادر الدعم، وتشجيع منصات محلية صغيرة مستقلة، وبناء شراكات بحثية تتقاسم الرؤية حتى وإن اختلفت أدواتها.
وتتحدد قيمة المثقف اليوم بقدرته على التأثير في دوائر متعددة داخل المجتمع، من الفاعلين المدنيين والإعلاميين إلى الجمهور الواسع الباحث عن تفسير واضح للمشهد وتعقيداته. فالمعرفة ليست مادة نخبوية معزولة، بل أداة لتشكيل وعي عام قادر على مقاومة التشظي ورفض السرديات الجاهزة.
ولا يحتاج تحويل هذا الدور إلى أثر ملموس إلى إمكانات كبيرة، بل إلى خطوات منهجية واضحة: اختيار قضية ذات أثر مباشر على حياة الناس، إعداد قراءة دقيقة ومختصرة، تبسيطها للجمهور، نشرها عبر المنصات الإعلامية والمتخصصة، وتشكيل فريق صغير يتابع تطوراتها ويحدّث بياناتها عند الحاجة. بهذه الخطوات يتحول التحليل إلى مسار قابل للبناء، وتغدو المعرفة أداة ضغط فعّالة.
الخروج من الأزمة اليمنية لن يتحقق بالقوة العسكرية ولا بالترتيبات المؤقتة، بل باستعادة الوعي العام حين يتمكن المجتمع من فهم مصالحه وصياغة مطالبه. وفي زمن يعلو فيه صوت السلاح وتتراجع فيه الدولة، يبقى المثقف هو الحامل الأخير للفكرة الوطنية؛ يحفظ المعنى حين تتفكك المؤسسات، ويعيد ترتيب الأولويات حين تتشتت الاتجاهات، ويسعى إلى ابتكار البدائل حين ينشغل الآخرون بالصراع على السلطة.
هذه معركته اليوم… معركة ضرورية، رغم أنها بلا ضمانات.

الكلمات الدلالية