هذا الأمين الذي عرفته
أمين أحمد قاسم
هذا الأمين الذي رحل عن دنيانا… رحل تاركًا وراءه ليس مجرد أثر، بل وطنًا كان أحد الحالمين بمضمونه الإنساني الواسع؛ وطنًا ينتقل عبره الإنسان نحو آفاق تعيد للروح معناها، وتمنح الوجود الإنساني اتساعًا يليق بمن يبحث عن معنى شامل لوطن يحتوي الإنسان كله.
أمين أحمد قاسم الذي عرفته أيام كنا نبحث عن أشياء نقرأ عنها، مفاهيمَ أكبر من إدراكنا في ذلك الزمان… تعرفت عليه عبر أقاربه في حي المعلا تحديدًا، في شارع السواعي الذي يحتل فيه نادي شمسان مكانًا ما يزال نبراسًا لمدينة لم ولن تنطفئ أنوارها، مهما حاول البعض ذلك المسعى غير النبيل.
تعرفت عليه بواسطة قريبه وابن عمه العزيز عبد الباري علي قاسم، إذ كان يقطن مع أسرته وأهله في أحد المنازل بذلك الشارع الذي أحمل له في ذاكرتي أشياء لا تُمحى. كان ذلك ونحن ما نزال طلابًا في المدينة قبل أن نغادر للدراسة في الجمهورية العربية المتحدة. ومنذ ذلك الزمان، سنة 1962، تعرّفت عليه وزادت علاقتنا متانة، فقد ظلت علاقتي بزميل العمر عبد الباري علي قاسم قائمة وقوية حتى اليوم.
تلك أيام خلت، رُسمت في الذاكرة والروح، وصنعت علاقة مع إنسان نبيل. لن أضيف كثيرًا على ما قاله الذين كتبوا عنه، وما كتبوه لم يكن نفاقًا ولا مبالغة؛ فالرجل غادرنا، ورحل كما عرفته قبل وبعد أن يدخل خضم السياسة: بسيطًا، غير متكلّف، إنسانًا تدرك وأنت معه معدنَ إنسان لا يتصنع ولا يفتعل.
وكما عهدته أيام الشباب، كنا نبحث عن آفاق وأبعاد في عالم كان يموج بالتساؤلات والمنعطفات. وكلما التقيته بعد أن دار الزمن دوراته بنا—ولا أقلّ من أن نسميها دورته—شعرت بأن سنوات طويلة مليئة بالمفاجآت والانقلابات قد مرّت بنا، بمرّها وحلوها. ومع ذلك ظل أمين، الراحل الأمين، ذاك البشوش الضاحك المبتسم دونما افتعال.
وكم كانت سعادتي كبيرة حين التقيته أثناء عملي في جامعة الدول العربية، وهو يستقبلني ببشاشة، ويبادرك بالسؤال: "كيف الحال؟ وهل من خدمة أيها العزيز؟" كان كما عهدته منذ كنا نحفر بأظافرنا جدار زمن مجهول الهوية والمآل… لكن الزمن يحمل دائمًا في طياته ما بطن وما ظهر من أحداث ومنعرجات صنعتها مواقفُ رجالٍ تركوا أثرًا، فالتاريخ لا يصنعه الفراغ، بل تصنعه جهود الخيرين، كل من أسهم ولو بنصيب يسير.
أميننا الراحل لم يكن يبحث عن الأضواء ولا عن العناوين؛ كان يصنع مآثر جوهرية لا تسقط مع الزمن. فالحياة يصنعها أولئك الذين يمشون بصمت، وتتكلم أفعالهم على الأرض عن الكثير.
راحلنا الأمين كان من صنف نادر، تحمّل ويلات زمن قبيح بعدما تغيّرت موازين من يتصدرون المشهد ويكتبون ما يكتبون. تحمل بصمت تهمًا لا تتحملها جبال راسيات. كان أميننا الراحل كما عرفته: جبلًا عاليًا، أمينًا يعرف معنى الأمانة والبساطة. وعلى هذا المسار بقيت كلما سنحت لي فرصة أهديه التحية والسلام.
وها أنا اليوم أعزي نفسي وكل أهله ومحبيه، تعزية تحمل كل معاني الوفاء، أنقلها إلى ابن عمه الحزين عبد الباري علي قاسم الذي عرفني به، كما أعزي كل عزيز عليه.
رحم الله راحلنا الأمين… أمين أحمد قاسم.