شحرور.. الترقيع اللغوي للنص
في المشهد الفكري العربي المعاصر يظهر محمد شحرور كما لو أنه اكتشف أخيرًا أن اللغة العربية كانت تنتظره منذ أربعة عشر قرنًا لتأتيه لحظة الإلهام الحداثي. يدخل الرجل إلى ساحة التفسير بخطوات الواثق، وبنبرة من يوشك أن يصدر مفاتيح تشغيل النص الديني من جديد، متجاوزًا القراءات الفقهية التقليدية، ومخاصمًا المؤسسة الدينية بجرأة محسوبة بدقة كجرأة من يعرف أن الجمهور يحب صوت المطرقة ولو لم يكن هناك مسمار أصلًا.
قدّم نفسه مصلحًا لغويًا يهدف إلى تحرير البنية المفهومية للنص من تراكماته التاريخية. لكن ما بدا إصلاحًا صار -مع قليل من التدقيق- نوعًا من المناورة اللغوية التي تعيد ترتيب النصوص بطريقة تجعلها قابلة للاندماج القسري في واقع يرفض الانقياد لأية قداسة مطلقة. النتيجة نص مُعاد ترتيبه لا هو تقليدي ينام مرتاحًا، ولا حداثي ينهض بثقة. نص أقرب إلى أريكة مفككة، يمكنك إعادة تركيبها مئة مرة، لكنها لن تُقنع أحدًا بأنها قطعة جديدة.
كان شحرور يعزف على وتر العقلانية، مقدمًا القرآن ككتاب مرن عابر للزمان والمكان، قادر على أن يتجدد تلقائيًا كأنه تطبيق رقمي لا يحتاج سوى تحديث دوري. لكن هذه العقلانية اللامعة تخفي أسلوبًا انتقائيًا يفكك المصطلحات من سياقاتها ثم يعيد شحنها بمعانٍ حديثة تمامًا. يصنع حدودًا بمرونة مطاط، ويفكك "الزنا" ليجعله علاقة غير مُعلنة، ويقسم النص إلى "كتاب" و"قرآن" كما لو أنه يفك شيفرة ثنائية فيزيائية. وكلما حُشر في زاوية، أخرج من جيبه تأويلًا لغويًا جديدًا، كأن اللغة علبة سحرية تُخرج منها المعنى الذي يناسب اللحظة.
لكن الإشكال لا يكمن فقط في تأويلاته بل في إصراره على أن النص متجدد بالضرورة، صالح لكل زمان، دون الاعتراف بأن النص نفسه ابن لحظة تاريخية محددة. كمن يريد تحويل حصان عربي أصيل إلى سيارة كهربائية بمجرد تعديل السرج.

وتتجلى المفارقة بوضوح عند تناوله قضايا المرأة. حين أراد التخلص من "واضربوهن" لجأ إلى قراءة لغوية ملتوية يدرك المتخصص أنها لا تمر حتى في امتحان نحو ابتدائي. وفي الإرث استبدل الأنصبة الواضحة بمفهوم الحقوق، في محاولة لتهذيب النص عبر تحييد الحساب، وكأن تغيير المصطلح يغيّر الرقم. بدا الأمر كما لو أنه يحاول جعل النص أكثر "لطافة" من خلال ترقيع لغوي شفيف.
ويمتد هذا إلى آيات أخرى مثل "ما فرّطنا في الكتاب من شيء". فبدلًا من الاعتراف بدلالة النص، قدّم القرآن كموسوعة قوانين كونية. خطوة تجعل النص الديني يبدو ككتاب فيزياء عامة لم يكتمل طبعه. كل شيء محتمل عند شحرور، ما دام يمكن تحوير المعنى بذكاء لغوي كافٍ.
وحين حاول صاحب "الكتاب والقرآن" إعادة تدوير النص ليصبح ابن كل العصور، وقع في تناقض بنيوي واضح.. التقليديون اتهموه بالتحريف، والعقلانيون اتهموه بالتردد. وجد نفسه كمن يقف بين بابين، لا يريد أن يدخل هذا ولا ذاك، مكتفيًا بالوقوف في العتبة وتقديم شروحات طويلة عن أهمية العتبات.
أنتج شحرور نصًا مُعاد تشكيله دون جذور واضحة في الماضي أو سند معرفي في الحاضر. نصًا معلقًا في الهواء، يلوّح لقرائه من بعيد، لكنه لا يمتلك أرضًا يقف عليها. نصًا يُعاد ترتيبه كلما احتجنا إلى نتيجة جديدة، لكنه لا يُعاد بناؤه أبدًا.
مشروع بدا وكأنه يحاول أن يجعل النص ديمقراطيًا وحداثيًا ومتلائمًا مع كل العصور، لكنه انتهى إلى نسخة مُهذّبة من النص القديم.. مهذّبة أكثر مما ينبغي، ومتحفظة أقل مما يجب، وبقدر لا يرضي إلا من يحبون التفسير حين يصبح جلسة تجميل لغوي، لا اجتهادًا معرفيًا متماسكًا.