اليمن.. سيرة سقوط طويل
في العام 2000، كنتُ في بيت التاجر المعروف علي درهم في الحديدة، وقلت يومها إنني أستغرب كيف لهذه الدولة أن تبقى واقفة رغم كل ما كان ينهشها من الداخل. لم يكن ذلك انطباعًا عابرًا، بل قراءة لواقع كان يصرخ بأن السقوط مجرد مسألة وقت.
كانت إدارة الدولة عبثية إلى حد يصعب تخيله، والفقر يرتفع بإيقاع متسارع، والفساد يلتهم كل مفصل من مفاصل السلطة حتى بدا كأنه نظام حكم بحد ذاته. كانت البيروقراطية تُستخدم كأداة إعاقة لا كأداة تنظيم، وكان الموظفون في معظم مؤسسات الدولة يعيشون حالة من اللامبالاة المؤسسية التي تُسقط الثقة العامة ببطء ولكن بيقين. أما المجتمع فكان يتشظّى عموديًا وأفقيًا، بين مناطق وطوائف وانتماءات سياسية وقبلية، وكل ذلك كان يحدث دون أن يتوقف أحد ليسأل كيف يمكن لدولة بهذا القدر من التصدع أن تستمر في الوقوف.
كانت الدولة تشبه مبنى متهالكًا يقف فقط لأنه تعوّد أن يقف، لا لأنه محصّن أو مصمّم للصمود. ولذلك جاء عام 2011 ليكون اللحظة التي انهار فيها المبنى بالكامل. لم يكن ذلك السقوط مفاجئًا لمن كان يرى التصدعات تتسع لسنوات، بل كان النتيجة الطبيعية لمسار طويل من الإدارة الخاطئة، والتقديرات العمياء، والتعامل السطحي مع أزمات كبرى ظنّ الحاكمون أنها قابلة للتأجيل إلى ما لا نهاية. سقطت الدولة لأنها قامت على هشاشة، ولأن من أدارها لم يدرك يومًا أن السلطة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، ولأن مؤسساتها تحولت إلى هياكل خاوية لا تقوى على حمل نفسها.
ثم جاءت سنوات الحرب العشر الأخيرة لتُكمل عملية السقوط بطريقة أكثر قسوة مما كان يتوقعه أكثر المتشائمين. الحرب لم تكتفِ بهدم ما تبقى من مؤسسات الدولة، بل صنعت واقعًا جديدًا قائمًا على قوى محلية متصارعة، ومراكز نفوذ متناحرة، ومليشيات تفرض نفسها كسلطات أمر واقع في جغرافيا ممزقة. تحوّلت البلاد إلى جزر متباعدة تحكمها حسابات السلاح لا حسابات القانون، وانتهى المواطن محاصرًا بين حاجاته اليومية غير المتحققة، وانعدام الخدمات، وغياب المرتبات، والفراغ المؤسسي الذي لا يعرف فيه أحد إلى أي جهة يمكن أن يشتكي أو يطالب بحقه.
ومع هذا التفكك الشامل، أصبح الحديث عن استعادة دولة يمنية واحدة أقرب إلى الشعارات منه إلى الواقع. فالدولة التي تفقد مركزيتها، وتفقد مؤسساتها، وتفقد عقدها الاجتماعي، لا تعود بمجرد قرار سياسي أو اتفاق بين أطراف فاقدة أصلاً لاستقلال قرارها. إن اليمن اليوم مرهون لحسابات إقليمية ودولية تتحكم في مآلاته، فيما الأطراف المحلية تنتظر ما سيقرره اللاعبون الكبار بشأن مستقبل هذه الأرض وشعبها. وهذا الانتظار ليس موقفًا سياسيًا بقدر ما هو انعكاس لحقيقة أن القرار الوطني تم مصادرته تدريجيًا حتى لم يبقَ منه شيء يُعوَّل عليه.
إن التركة التي تراكمت طوال عقود -من الفساد البنيوي، إلى هشاشة الإدارة، إلى التصدعات الاجتماعية، إلى هيمنة المليشيات، إلى الأزمات الاقتصادية التي أنهكت المجتمع- هي تركة تحتاج إلى زمن طويل قبل أن تُعالج. لا يكفي تغيير الوجوه، ولا يكفي توقيع اتفاق جديد، ولا يكفي الحديث عن "مرحلة انتقالية". ما سقط لم يكن مجرد نظام سياسي، بل سقطت فكرة الدولة نفسها، وسقط معها الإحساس المشترك بالانتماء إلى كيان واحد. وعندما يصل بلد إلى هذه المرحلة، فإن إعادة البناء تحتاج إلى مشروع وطني طويل النفس، وإلى وعي جماعي يعترف أولًا بحجم الكارثة بدل البحث عن حلول سحرية.
المؤسف أن اليمنيين يجدون أنفسهم اليوم أمام واقع لم يعد فيه الهامش يسمح بترف الإنكار. فمن يحكم لا يدرك حجم ما أفسده، ومن يمسك بالأرض لا يشعر بثقل ما ينهار فوق رؤوس الناس، ومن يرفع الشعارات يعيش خارج سياق الخراب الحقيقي الذي يتعمق يومًا بعد يوم. وبين هذا كله، يُترك المواطن بلا دولة، بلا خدمات، بلا أفق، وبلا أمل واضح في أن الغد سيكون أفضل.
إن الحديث عن مستقبل اليمن لا يمكن أن يستقيم قبل أن نعترف بأن ما ضاع يحتاج إلى سنوات وربما عقود قبل أن يستعاد. فالضمير الجمعي الذي أصابه الإنهاك، والقيم التي تآكلت، والمؤسسات التي تحللت، والنسيج الاجتماعي الذي تمزق، كلها عناصر لا تُرمّم بقرار، بل بعملية طويلة ومؤلمة من إعادة البناء الأخلاقي والسياسي والمؤسسي. وعندما تُستعاد هذه الأسس، يمكن عندها فقط الحديث عن دولة، لا عن خرائط تتبدل وقوى تتناسل وفوضى تتوسع. أما الآن، فإن البلاد لاتزال في مرحلة الجزر المتناثرة، تنتظر ما سيُرسم لها أكثر مما ترسمه لنفسها، وتعيش نتائج عقود طويلة من إدارة لم تعد تعرف معنى الدولة ولا مسؤولية الحكم.