السودان.. يدفع الثمن
السودان الشقيق الكبير، بالمعنى الاستراتيجي موقعًا، وثرواتٍ وطبيعةٍ، وتركيبةٍ سكانية ذات ثراء وتفرد، أن أُتيح لهما أن يلعبا الدور والتأثير المتأتي من هكذا تنوع.
ولنا أن نقول إن السودان ليس عنوانًا أبديًا لصراع وحروب أهلية تُسعِّر أوارها قوى وأطراف متعددة لا تريد سودانًا قويًا، بل تريد سودانًا يعيش بيئة صراعات وانقلابات عسكرية يُخطط ويدبر لها. الإمكانات المغذية تعبير للحالة التي يُراد للسودان أن يظل محاصرًا بقلاقل لا تنتهي، حتى لا يتفرغ ليُولد على أرضه متطلبات الاستقرار السياسي. وهي سياسة مصممة تُرغمه على البقاء داخل دوامة لا تنتهي من الصراعات، يدفع لها ثمنًا من موارده ومن استقراره، وتحوّل دون تمكنه من بناء سياساته المستقلة بعيدًا عما يُحاك ضده من مؤامرات. كما تحول دون تمكنه من اعتماد آلية للتنمية الشاملة تعزز من قوة السودان المتعددة الأوجه، وبما يمكنه من الحفاظ على سيادته والحفاظ على مصادر ثرواته المتعددة التي تشكل مطمعًا لأعداء السودان.
هذا إلى جانب ما يتميز به موقع له امتدادات بين النهر والبحر، موقعه الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، مع ما له من امتداد وتواصل إفريقي وتواصل عربي عبر ترابط وتطلعات وتاريخ مشترك. وتطلعات كلها عوامل خلقت للسودان عداوات ذات طابع تناحري، يجري معها افتعال صراعات تُخْلَق لإرباك أوضاعه الداخلية وصولًا لتحجيم دوره المنشود في القضايا الدولية والعربية والإفريقية.
حيث الكثير من الأطراف من داخل السودان وخارجه، من دول الجوار والإقليم، يهمها ألا يكون السودان قويًا ذا تأثير ومقدرة للحفاظ على سيادته والدفاع عن المصالح العليا لسودان قوي ومستقر سياسيًا، يمتلك رؤية وطنية سودانية عربية الانتماء، إفريقية الموقع والامتداد، وهو ما لا يروق للكثيرين.
هنا نجد أطرافًا دولية وإقليمية ودولًا مجاورة تنظر للسودان كتابع ضعيف يُفضل أن تتجاذبه صراعاته الإثنية داخليًا، ولا يُتاح له فرصة التحول لقوة مؤثرة تمتلك كل عناصر القوة التي تمكنه من أن يلعب دورًا استراتيجيًا يمتلك كل العناصر التي تمكنه من ذلك: موقعًا، وثروات متنوعة.
كما أن بالسودان كتلة بشرية وازنة لا يُستهان بها، إن توافرت لها عوامل الاستقرار. لكن يبدو أن تمزيق لحمة السودان أرضًا وبشرًا يجري إعداده لتمزيق السودان أرضًا وشعبًا، ويبدو أن نهجًا كهذا صار وصفة يجري تعميمها على أكثر من بلد عربي. وللأسف الشديد باتت الأوضاع الداخلية لعديد من بلداننا العربية مشبعة بتمزقات طالت لحمة التماسك الوطني ليحل محلها مشاعر الانتماءات دون الوطنية.
ولعل التدخلات الخارجية لعبت وتلعب وتسهم بنمو وتغول تلك الظاهرة اللاوطنية، ويتزامن معها ظاهرة الانقلابات العسكرية التي عاشها السودان والتي سنّها وبشّر بها انقلاب عبود والنميري وتلاهما البشير، وهي روشتة دمرت السودان وشعبه. انقلابات لم تُخلف إلا أمراضًا وصراعات ما تزال تتطلب علاجًا ومعالجات وطنية تعيد هيكلة وبناء سودان لكل أبناء السودان بعيدًا عن المؤامرات التي ابتُلي بها السودان من قبل نطاسيين ومعالجين، للأسف بيدهم الداء وليس بيدهم الدواء، إذ هم آخر من كان يبحث عن الشفاء للسودان، بل هم من يعمل على توليد عناصر وعوامل إنهاك للكيان الوطني السوداني.
حيث أصبح التدخل بالشأن السوداني مباحًا، كما إن روشتة الانقلابات العسكرية أصبحت وصفة ملازمة، وتم تعزيزها عبر بناء مؤسسة للجيش مخترقة، وأُضيفت إليه روشتة أسلمة الجيش عبر فلسفة الترابي – البشير، بعيدًا عن روح الانتماء المستجيب لتركيبة السودان الوطنية المتعددة.
وهنا لعب هذا المكون الإسلاموي سلاحًا أخطر، حيث امتطى صهوة مفارز الجيش، مغاوير يتاجرون بالدين، ليتم تحويل الجيش من مؤسسة وطنية تمثل تنوع السودان تمثيلًا وطنيًا، حولته الجبهة القومية الإسلامية – جماعة الترابي وجماعة الإخوان المسلمين – لكيان تشتت وتمزق بنيته الوطنية، بما يؤدي في نهاية المطاف لتشرذم وتقسيم وحدة السودان.
تلك هي البيئة التي حملت معها عوامل الإضعاف والتشرذم لهذا البلد القوي، الاستراتيجي، الغني بموارده وتنوعه وقوة تأثيره، إن تمكنت قواه الوطنية من تعزيز وحدتها الجبهوية بعد ما نالها من ضربات، خاصة ما لحق بقوى الحزب الشيوعي السوداني وطيف واسع من باقي القوى الوطنية من إرهاب ومتابعات واعتقالات.
ذلك بات ضرورة لخلق كيان للسودان قوي وقادر بالمعنى والموقع والثروة، قوة ذات تأثير يحسب لها ألف حساب. ومع استمرار إنهاك وإضعاف السودان بالمعنى المشار إليه، ومع ما شهده العالم من تطورات وإعادة تموضع على المستويين الإقليمي والدولي، وجد السودان الشقيق نفسه لقمة سائغة لقوى متعددة، بعضها – للأسف – عربي، ودول أخرى إفريقية وغير إفريقية.
لتتضح الصورة بجلاء على ما خلفه وتركه نظام النميري – الترابي – البشير من وضع منهك متعب، ممزقة بنيته الوطنية، يدفع الشعب والبلد ثمنها تمزقًا وتشرذمًا.
هكذا تشكلت بين بقايا الجيش وقوات "النجنجويد" اللاوطنية وقوات الدعم السريع، الأشبه بعصابات الكاوبوي، خرابًا للسودان. وهو الوضع الذي أغرى القوى التي تغذي وتشجع أساليب الحرب بالوكالة بهذا البلد أو ذاك، لتصبح مسألة تفتيت السودان مصلحة صهيونية إسرائيلية لتخلق سودانًا ضعيفًا ممزقًا تهديدًا لمصر، وهو ما تسعى إليه دولة مجاورة – إثيوبيا – الساعية لمحاصرة السودان ومصر معًا عبر اختلاق مشاكل مياه نهر النيل، أو عبر دعم صراعات داخلية تؤدي لتقسيم السودان بما يمكن إثيوبيا من الوصول إلى منفذ بحري على البحر الأحمر في حال نالت حركة الدعم السريع مبتغاها من تقسيم السودان.
وهو حلم يتلاقى مع أحلام أطراف عدة: أساسًا إسرائيل وإثيوبيا. ولكن لا غرابة في السياسة، فالسياسة مصالح وتبادل أدوار بين من يمسكون بخيوط اللعبة السياسية سواء بالسودان أو ليبيا أو بلادنا اليمن.
لو تعمقنا فيما يجري بالسودان المجاور والمحاط بنقاط ضعف تعبر منها أطراف يهمها إضعاف وتقسيم السودان، أطراف تلعب إما دور الوكيل لقوى دولية – أمريكا – أو تلعب دور استعراض عضلات القوة كإثيوبيا، أو تلعب دور المنافس القوي القادر على تغيير معادلات السياسة والقوة بين أطراف متصارعة في الخفاء. خاصة ما يدور من صراع خفي بين "المحمدين" بالرياض وأبوظبي، حتى وإن كان المظهر يوحي بخلاف ذلك.
ولا ننسى بهذا السياق الدور الإيراني الذي تخدمه مثل هكذا صراعات خفية تمكنه من مد لسانه حيث يجد فراغًا يملؤه، كما الحال بالعراق وبلاد الشام وبلادنا اليمن المنهكة من هكذا أمور. ولا ننسى ذكر تركيا العثمانية التي تريد إعادة تدوير عجلة الزمن ارتقاء بالعهد العثماني.
السودان في أزمته الطاحنة يدفع ثمن تاريخ طويل من عسكرة البلد وتطويع وتطعيم مؤسسته العسكرية بحقن إسلاموية الاتجاه والقوة، بعيدًا عن لحمته الوطنية.
السودان بثرواته المتنوعة بات مطمعًا لعدة قوى لا يهمها إلا إضعافه وتوليد ودعم عوامل إنهاكه.
موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر جعله مطمعًا لقوى مجاورة تريد تمزيقه ليتشكل معه مصدر تهديد لجارته الكبرى مصر.
خلاص بلادنا اليمن، وخلاص السودان الشقيق، وليبيا الممزقة، وحتى لا يتزايد ما صار بسوريا وغزة وما يواجهه لبنان الشقيق، الأمر برمته بحاجة لمواجهة حروب الوكالة التي تخوضها هذه البلدان لمصالح أطراف ترتب أمورها على مصالح آخرين، يجري بشكل ممنهج تدمير وتقسيم هذه البلدان.
أصابع إسرائيل، وإثيوبيا، ودولة الإمارات عبر التسليح والتمويل للدعم السريع، ليست فقط تدميرًا للسودان، ولكن أيضًا تحديًا لكل من مصر والسعودية.
ونفس السيناريو بتفاصيله يجري في بلادنا، والأمر يتطلب توليد مشاريع خلاص وطني تتبناها وتعمل على إبرازها قوى تجمع وطني بعيدًا عن الشعارات وبعيدًا عن الاغتراب والارتماء بأحضان قوى أجنبية لا يهمها غير تحقيق مصالحها الاستراتيجية.
والأكثر أهمية تبني مشاريع نهوض وطني تجمع أوسع طيف وطني دونما استبعاد أو هيمنة هذا الطرف أو ذاك. معالجة قضايا الأوطان ليست مجالًا للمبايعات والمحاصصات، والأمر مرده لصناديق الانتخابات بعيدًا عن أي تمويل مشبوه.