صمت الكلمات(1-3)
-1-
عاد إبراهيم من الخارج بعد أن أكمل دراسة الدكتوراه. وهو الأخ الأكبر لبسام وأسماء، ويعتبر بمثابة والدهم المتوفى.
بسام كان سعيدًا بعودته، فهو لم يشعر يومًا أنه يتيم، إبراهيم دائمًا يدعمه ويمنحه الحب، ولا يريد أن يراه حزينًا أو مكسور الخاطر، ومثله والدته.
بسام شاب لطيف، له روح جميلة، يكره الجو المشحون بالحزن أو الصمت، دائمًا ما يجعل الأجواء شعلة من الضحك والفرح، حديثه لا يخلو من القفشات، يتجنبه الأصدقاء احيانًا في أخطائهم كي لا يمسك عليهم زلة لسان، لكنهم لا يستطيعون قضاء أوقاتهم من دونه، فهو من يصنع للمكان مكانًا كما يقولون.
يتساءل لماذا البعض يقتلون جمالهم بتجهم وجوههم، وتعقيد حواجبهم؟ إنهم يبدون أجمل بالابتسامة. ما الذي يحملهم على أن يكونوا بلا روح، بلا شغف للحياة، بلا لطافة؟
والدته من خبرة الحياة تجيب عليه: "كل إنسان له وجعه، وقدرة معينة على تحمل همه، لذا لن تجد كل الناس يتجاوزوا أوجاعهم بالبشاشة والمرح".
أخيراً قررت أم إبراهيم أن تناقش إبراهيم في موضوع الزواج واختيار شريكة حياته، فهي تلاحظه مشغولًا طول الوقت بالعمل، استغلت وجوده معهم على مائدة الطعام، لكنه حسم الأمر وترك لها حرية الاختيار، وقال ضاحكًا: "ليساعدك بسام يا أمي في ذلك، فهو أكيد يعرف كل الجميلات، لذا سوف يختار لأخيه الأجمل من النساء خلقًا وخُلقًا".
ضحك بسام وقال: "ابشر يا أخي، لكن على الله وأمك ترضى باختياراتي".
مرت الأيام الأولى، وانشغل بسام بالامتحانات النهائية، وتجهيزات حفل التخرج، ولم يناقشوا موضوع خطوبة إبراهيم أمامه.
- 2 -
بين ليلة وضحاها تشاورت أم إبراهيم مع أسماء في الأمر، واتفقت على مها بنت الجيران.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى منزل جارهم عبدالرحيم، وأخبرت صباح أنهم يريدون القرب منهم..
تهلل وجه صباح وهي تسمع ذلك، وردت عليها بأنهم لن يجدوا أهلًا أفضل منهم.
ندى سمعت هذا الحديث، وانطلقت إلى غرفة مها لتنقل لها الخبر، وقالت لها: "هل تعلمين لماذا زارتنا أم بسام اليوم؟" فردت عليها: "جلسة عند الوالدة، زي كل يوم، فهم كل أيامهم جلسات مع بعض، ما الجديد في ذلك؟"
ضحكت ندى وقالت: "الجديد اليوم يخصك أنت، جاءت تطلب القرب منا، تعالي أحضنك".
ارتبكت مها وتلعثمت: "أنت تتكلمي جد يا ندى؟"
ردت عليها بفرح: "والله جد هذا الذي سمعته، بسام طلع وفي، كنت قلقة يكون من الذي يلعبوا بمشاعر البنات، ثم يروحوا يخطبوا غيرهن، هيا غيري ملابسك، وروحي سلمي على حماتك يا قمر، أنا تأخرت على مشواري".
أخذت أم إبراهيم تحدث صباح عن إبراهيم، ودراسته، وأنه لن يعود إلى الغربة، وقرر الاستقرار والزواج، وأنه ترك لها أن تختار شريكة حياته، وهي لم تجد أفضل من مها، بنت مؤدبة وجميلة، وهي تحبها مثل بنتها أسماء.
ردت عليها صباح: "أنت تعرفي معزتك عندي، أنا عن نفسي لن أجد أفضل من إبراهيم لمها، لكن خلينا نتشاور مع عبدالرحيم ومع البنت، وبإذن الله ما يحصل إلا كل خير".
دخلت مها وهي تحمل بيدها صينية الشاي والحلويات، ولم تستوعب ما سمعته، لن تجد أفضل من إبراهيم لمها! تعتقد أن والدتها أخطأت بالأسماء، قصدها بسام!
وضعت الصينية على الطاولة، وسلمت على أم إبراهيم وهي غير متوازنة، وأم إبراهيم تحتضنها بحرارة: "أهلًا بحبيبة خالتها عروسنا الحلوة".
صباح تغمز لها، و تؤشر بيدها ،وكأنها تقول ليس وقت هذا الكلام الآن.
وضعت مها قبلة على رأس والدتها، وخرجت وهي تشعر بالخجل، وما سمعته يرن في أذنها.
تحاول الاتصال على ندى فلا ترد عليها، تهمس لنفسها بتوتر: "أوووف مش وقت الانشغال، ردي يا ندى".
في ذاك الأثناء رجع عبدالرحيم إلى المنزل، واستأذنت أم إبراهيم بالمغادرة، وطلبت من صباح ألا تؤخر الموضوع، وأن تحكي مع عبدالرحيم حالًا، وأن يعتبروا إبراهيم ومها أولادهم إذا كان هنالك نصيب فليتمها الله على خير، وإذا لم تكن هنالك موافقة فليظلوا جيران وحبايب.
استغرب عبدالرحيم من مغادرة أم إبراهيم بهذا الوقت على غير العادة!
ضحكت صباح وقالت: "اجلس وارتاح، وأحكي لك الموضوع".
نادت على مها لتقدم لأبيها الشاي والكيك، وهي تتأمل فيها والابتسامة تملأ وجهها.
مها كانت تدعو الله ألا تفتح والدتها الموضوع، وأن ترجع ندى قبل ذلك، لتحكي لها ما سمعته، وأن هنالك خطأ.
بدأت صباح تحدث عبد الرحيم عن إبراهيم وعن طلب والدته.
فرد عليها بقوله: "أنا ما عندي مانع، وإبراهيم ابن ناس، وأنا أحبه، والكل يقدره ويحترمه، ونحن جيران، وأبوه الله يرحمه كان صديقي، لكن في الأول والأخير الرأي لمها، لأن هذه حياتها، وهي تتحمل المسؤولية، لا ترجع تقول نحن ضغطنا عليها، ومثلما سألنا أختها من قبل نشوف رأيها، وما فيه الخير ربنا يقدمه".
تأكدت مها أن المقصود هو إبراهيم، وليس لخبطة أسماء كما اعتقدت، تتمتم: "يا الله ما هذه الكارثة!"
عادت ندى إلى المنزل،حكت لها مها ما سمعته، وأن المقصود هو إبراهيم، وليس بسام.
-3-
عادت أم إبراهيم إلى المنزل وهي مسرورة، أخبرتهم بزيارتها لمنزل عبدالرحيم، وأنها فاتحتهم بطلب يد مها لإبراهيم، كان الخبر كالصاعقة على بسام، وكالبلسم على إبراهيم.
ابتسم إبراهيم والسعادة تملأ وجهه، وهو يسأل: "وكيف هذه المها يا أمي؟".
قالت أسماء: "بنت زي القمر، متأكدة أنها مناسبة لك، وستقول أمي وأسماء عرفا يختارا".
- لكن أنا لن أقتنع إلا برأي بسام، وإذا قال ليست جميلة اصرفوا النظر عنها، أعرف أن بسام يعرف الحارة كلها.
أطلقوا كلهم ضحكة واحدة إلا بسام شرد وهو يفكر بما سمعه، شعر أنه يتهاوى من برج عالٍ..
أمه وأسماء لم يعلما أن مها حبيبة قلبه، وعشقه الوحيد.. منذ عامين وهما يعيشان في ارتباط عاطفي.
شاهد الفرح على وجوههم، دارت عليه الأرض بما رحبت ، في عقله أفكار كثيرة عجز عن التعبير عنها.
التزم الصمت وكأنه في قعر بئر عميقة ينادي لا أحد يسمعه، يشاهد موته أمامه، كيف لحبيبته أن تكون زوجة أخيه، مستحيل أن يحصل هذا.
يحدث نفسه: ما الذي عليَّ فعله؟
كاد يجن، صمت الكلمات يغتال ويمزق روحه، ويدمي فؤاده..
إبراهيم ينادي بسام: أين شردت بخيالك؟ أو أنها ليست جميلة؟ احكِ.
نظر بسام إلى الموبايل وكأن مكالمة مهمة وصلته، وبينه وبين نفسه يتساءل: ماذا أرد على إبراهيم؟ ماذا أقول هي حبيبتي. ضحك بقلب دامٍ وهو ينظر للجهاز، واستأذن بقوله: "أرد على المكالمة وارجع لكم"..
خرج بلا شعور.. لف في الشوارع كالمجنون شارد الذهن، يتخبط بين السيارات كالأم التي تبحث عن طفلها الضائع وهي تصرخ وتستنجد بالجميع..
احتار هل يتصل لمها.. لا الوقت لا يسمح بذلك، أرسل لها رسالة.. لكنها لم ترد. أخذ يخبط رأسه على الحيطان وهو يحدث نفسه: "كيف لي أن أعود إلى البيت؟ ماذا أخبرهم؟ هل أخبرهم أن تلك الدماء التي سالت على ملابسي ذات يوم عندما عدت لأمي مضرجًا بها، كان السبب فيها مها؟
هل أحدثهم عن تلك العصابة التي كانت تتقطع لي وتقلق منام أمي، هي لأجل الانتقام مني، والسبب فيها حبيبتي؟
مها التي استنجدت بي ذات يوم عندما كانت عائدة للمنزل بعد خروجها من المعهد، وكنت حينها عائدًا من الجامعة، وكان أحد الشبان يلاحقها، وعندما وجدتني أمامها حاولت أن تستنجد بي، فوقفت سندًا لها، ليُسطر من لحظتها أجمل قصة حب بيننا.
هل أحكي لأمجد صديقي، فهو الوحيد الذي يعرف قصة حبي؟ ماذا أقول له، حبيبتي سوف تكون زوجة أخي، وأنا الذي كنت أقف متحديًا وقائلًا لن يحصل عليها أحد، مها حقي وحدي، من يفكر بالقرب منها ستكون نهايته، تحديت زميلها، ووقفت له بالمرصاد، وقلت له مجرد نظرة لها لا تفكر، يا أنا يا أنت في هذه الحياة إذا قربت منها؟
ماذا أحكي لأمجد الآن، من تقرب لها هو شقيقي، فكيف لي أن أقف في وجهه وأتحداه أو أنهي حياته؟".
قتلته أفكاره، لكنه قرر ألا يحكي لأمجد، فالموضوع صار عائليًا، عاد إلى المنزل في وقت متأخر، وقرر أن يحكي مع والدته في الصباح ويحسم الأمر.
تقلب على سريره وهو يقاوم كل الأفكار التي كانت كالجبال على عقله، بزغ الضوء ومها لم ترد على رسالته.
غلبه النوم ونام كالميت، صحا بعد صلاة العصر على زغاريد تملأ البيت، فتح عينيه لا يدري ماذا هناك.
دخلت أسماء غرفته وبفرح قالت: "كفى نوم، اصحى ،معنا عريس، إبراهيم سوف يتزوج مها بنت العم عبدالرحيم، الآن خالة صباح اتصلت لأمي، وافقوا، وافقوا".
كان يشعر أنه جثة هامدة لا يستطيع حملها، تسمر على سريره، يفرك عينيه هل هذا حلم أم حقيقة؟
أسماء أمامه تقفز وتنط من الفرح، وأصوات زغاريد والدته مازالت تملأ المنزل.
فقد الكلمات التي تبوح بما في القلب يهمس بصوت خافت: "مها هي من زرعت الورد في دربي، هي البهجة والحب، كيف لها أن تذهب بعيدًا عني؟ كيف لحبيبتي أن تكون عروسًا لأخي؟".
قال بصوت حزين وهو يتصنع التثاؤب والنوم: "مبروك"، ومد يده لأخذ الموبايل من تحت الوسادة لعل رسالة من مها تكذب ما سمع.
فتح الواتساب على رسالتها: "بسام أبي وأمي وافقا على إبراهيم ومستحيل أرفض، أو أقول أنا أحبك، قال أبي إبراهيم شاب ما في مثله، ولا شيء يعيبه.
طلبت مني أمي أن أنسى الأمر، عندما جاءت تسألني عن رأيي، حكت لها ندى عن علاقتنا، كنت أبكي وأنا أطلب منها أن تقف معي، وأن تعطي لأبي أي مبرر لأجل يرفض.
لكنها قالت هذا الموضوع ننساه للأبد، كيف إذا عرف أبي بما بيننا، نحن ليس عندنا بنات تحب، وتعرف شباب، وأبي سيعمل لنا مشكلة، ومش بعيد يحرمني من مواصلة تعليمي، وكيف يرفض إبراهيم وبعدها يوافق على أخوه.
وكمان ما الذي نقوله لأمك، بنتنا تحب ابنك الآخر، لو كنت أنت جاد كنت طرحت الموضوع عليها، ويجي منك أنت وليس منا.
سامحني يا بسام ليس لدينا أعز من أبي، ولا أريد أن يصل لمرحلة يوطئ رأسه بسببي، احذف رقمي وانساني".
قتلته كلماتها، دمرته، جعلت منه مجرد حطام، كيف ينساها وبكل هذه السهولة؟ انهار، وكابر كي لا يعلم أحد ماذا حل به.
كانت والدته تشاهد تغيره، وفقدان ابتسامته وتوهجه، اعتقدت أنه ربما يفكر بالزواج كإبراهيم، فكرت واتخذت قرارًا أن يتزوجا معًا، قالت لهما: "أنا أريد أن أفرح بكم الاثنين وأنا على قيد الحياة، على أن يكون العرس بعد حفل تخرج بسام، ولتكون الفرحة فرحتين".
بسام ما عاد يعنيه أي أمر، فقد شغفه بكل الحياة، لا شيء يستدعي أن يحارب من أجله، قرر ألا يكسر فرحة والدته، فقال لها: "أنت يا أمي تقرري ونحن ننفذ، لا شيء يساوي سعادة ست الحبايب وفرحتها بنا".
اختارت له سارة بنت خالته..
كان يريد أن يصرخ: "بدلوا الأماكن، أعيدوا لي مها، ولتكن سارة لإبراهيم، لماذا هذا الظلم كله؟ ما ذنب قلبي أنا؟ لا أدري لماذا هذه الأقدار ضد الحب؟ ماذا لو كانت أمي اختارت سارة لإبراهيم! لماذا اختارت مها؟ لماذا؟".