خمسة أعوام على رحيل القاص محمد سعيد سيف
القاص محمد سعيد سيف
قبل أيام قلائل من وفاته (19 نوفمبر2020م) نشرَ محمد سعيد سيف سيرته الشخصية والمهنية والإبداعية، ثم اتصل بي لمعرفة رأيي بها؛ لم يكن صوته متعبًا إلا بحدود ما أعرف من متاعبه المستديمة التي تعايش معها طويلًا، ولم تقف، خلال أربعة عقود، عائقًا أمام طموحه ككاتب مخلص لمشروعه الإبداعي الكبير، ولمهنته كمعلم للغة الإنجليزية في إحدى مدارس قريته البعيدة (غرب بني شيبة).
لم ينقطع تواصلنا منذ سنوات، وكان يعمل باستمرار على كسر عزلته التي تفرضها عليه متاعبه، فكان الهاتف المحمول وسيلة تواصله الأول مع الأصدقاء، ثم أنشًا صفحة شخصية له في "فيسبوك"، قبل أن يأخذه الـ"واتساب" إلى عوالمه الواسعة، ومكّنه من استعادة الكثير من مبادراته الإبداعية، ومنها إنشاء صفحة مهمة كمنتدى باسم الراحل الكبير "محمد أحمد عبدالولي"، خلقت تفاعلًا وحراكًا شديد الخصوصية بين أعضائه الكثيرين من كتاب القصة والرواية والمهتمين بقضايا الأدب.
تعرفت عليه أول مرة بعد إتمامي خدمة التدريس الإلزامي صيف العام 1987، في منزل الصديق عبده محمد سيف، في حارة الأصنج بمدينة تعز، حين كان ينشر عمودًا يوميًا ذائعًا اسمه " نافذة" في صحيفة "الجمهورية"، وكان اسمه يتردد كثيرًا في أوساط الأدباء والكتاب بوصفه أحد أهم كتاب القصة القصيرة الشبان في البلاد، وإن قصتين من قصصه القصيرتين فازتا ولعامين متتاليين في مسابقة كان ينظمها المركز الثقافي في المدينة عامي 1978 و1979، حينما كان لايزال طالبًا في مدرسة الثورة الثانوية، وبعد عامين فازت إحدى قصصه بالمركز الأول في مسابقة للقصة القصيرة نظمتها جامعة صنعاء في السنوات الأولى لتولي الدكتور عبدالعزيز المقالح رئاستها، حين صار طالبًا في كلية الآداب، وهذه القصة في الغالب هي قصة "انتظار" التي قامت الدكتورة سلمى خضراء الجيوسي بترجمتها باكرًا ضمن قصص عربية أخرى، لهذا يعتبر الجيوسي واحدة من أساتذته الكبار إلى جانب "عبدالباري طاهر، وعبدالودود سيف، ومحمود الحاج، ومحمد عبدالرحمن المجاهد، ومحمد لطف غالب، وصالح الدحان، ود. عبدالعزيز المقالح، ود. رجاء عيد، ود. يمنى العيد"، كما ترد الأسماء مرتبة في سيرته.
لم يستمر طويلًا في صنعاء، طالبًا في جامعتها، وقرر العودة إلى تعز، والتفرغ للكتابة الصحافية في صحيفة "الجمهورية"، ويواصل نشر نصوصه الأدبية "السردية" في مجلات "الحكمة" و"اليمن الجديد" و"الثقافة الجديدة" و"المعرفة"، والصحف السيارة الأخرى، وعلى وجه الخصوص "ملحق الثورة الثقافي". فترة تعز هذه صقلته كثيرًا، وكانت تلمذته على يد محمد عبدالرحمن المجاهد، ومزاملته للمرحومين عبدالحبيب سالم مقبل، وعبدالله سعد محمد، وعز الدين سعيد أحمد، وعلي عبدالجليل المقري، وغيرهم، أثرها العميق في تكوينه المهني.
في تلك الفترة، وفي ذروة انتشارها، قامت مجلة "اليمن الجديد" بنشر روايته المميزة "شارع الشاحنات" في حلقات متتابعة، بين عامي 1985 و1986، وهي الرواية التي ستعمده كاتبًا سرديًا عالي القيمة والتجديد في اليمن. وإن نصوصه القصصية المتفرقة هي التي ستشكل مجموعته "تحولات الجدار" التي نشر نصوصها في المجلات والدوريات اليمنية خلال أعوام، ولم أتحقق من ظهورها مطبوعة بشكل مستقل إلا في ما أُلحق منها في ما بعد برواية "شارع الشاحنات"، وعن هذه الفترة قال عز الدين سعيد أحمد: "محمد سعيد سيف صديق العمر والتعب الجميل، وأبرز كتاب القصة في جيلنا، تقاسمنا الحلم وطاولة الكتابة في صحيفة الجمهورية، ومجلة المعرفة، واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.. أجمل ما قدمت اليمن للحرف الملتهب".
كتب لي الصديق علي المقري عن فترة عودته إلى تعز قائلًا: "سكنا معًا في تعز، وكتب في تلك المرحلة في "اليمن الجديد". كان وقتها قد ترك الدراسة في جامعة صنعاء، وعاد إلى تعز حوالي 1984 أو 1985، قبل أن يعود إلى صنعاء ويكمل الدراسة بها في وقت آخر. طبعًا كنا نحصل على إنتاج فكري فقط من الصحيفة، وليس توظيفًا. وحينها أسسنا ناديًا للقصة في تعز مع عبدالكريم المرتضى وعز الدين الأصبحي وعبدالإله سلام ونصر الجهيم (واحد اختفى)، وأنشطته كانت في فرع الاتحاد في منزل محمد عبدالولي. وكان محمد يكتب بشكل يومي في "الجمهورية"؛ وقتها كان المخبرون الصحافيون يرهقونه جدًا حتى في النقاشات، لأنه لا يخفي اشتراكيته.. طبعًا كان من أبرز من تنشر قصصهم في الملحق الثقافي للثورة في السنوات الأولى من الثمانينيات، مع عارف الحيقي وأحمد محمد العليمي. وكان نشطًا في السجال السياسي، وبالذات بعد أحداث 13 يناير، حيث جاء الشاعر الراحل نبيل السروري من صنعاء إلى تعز، ومعه بيان حول الحدث، ووقتها عملت أنا وهو مقابلة مع نبيل نشرت في الجمهورية".
بعد تركه لتعز أواخر الثمانينيات عاد إلى صنعاء، وبإصرار جبَّار استكمل متطلبات مواده الجامعية، بعد عقد كامل من تركه للدراسة في كلية الآداب، وهذه المرة استكملها في كلية التربية -قسم اللغة الإنجليزية، وهو على عتبة الخامسة والثلاثين من عمره.
بعد أن وضعت حرب صيف 94 أثقالها، وهي التي أحدثت في روحه ثلمة حادة وغائرة، عاد للاستقرار في قريته "جَنِّنْ" في منطقة بني شيبة الغرب، للعمل كمعلم لطلاب الثانوية هناك؛ وبعد خمسة أعوام من استقراره في قريته قامت مجلة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين المركزية "الحكمة"، وبمبادرة من رئيس تحريرها آنذاك الشاعر الراحل محمد حسين هيثم، بإصدار روايته "شارع الشاحنات"، اعتمادًا على نشرها المتسلسل في مجلة "اليمن الجديد"، أواسط الثمانينيات، وبسبب خطأ تقني في إحدى الحلقات المنشورة، بتداخل نصه مع نص القاص الراحل عبدالله بامحرز المعنون بـ"حقول الإسفنج"، نشرت الرواية بهذا الاعتوار الفظيع في طبعتها الأولى، لكن أمر هذا الخطأ تم تداركه في الطبعة الثانية التي صدرت عن اتحاد الأدباء والكتاب في العام 2004، وملحقة بها مجموعة من النصوص القصصية، تحت اسم "تحولات الجدار" التي كانت تظهر في سيرة الراحل باعتبارها مجموعة قصصية مستقلة.
ولم تبهت أفكاره ومبادراته، حتى وهو محاط بالإحباط الشديد من محيطه.. مثلًا اتصل بي قبل ثمانية أعوام، وطلب مني مساعدته في إصدار نشرة طلابية يقوم طلابه في مدرسة الإصلاح (من الإناث والذكور) وزملاؤه من المعلمين، بتحرير مادتها، وإن الصديق "محمد عبده الشيباني" سيتولى تمويل طباعتها، وحين رحبت بالفكرة، أرسل لي مع "طَبَل" القرية بظرف كاكي كبير به مجموعة كبيرة من المواد للطلاب والمعلمين، فقمت بمساعدة ولدي تميم بصفِّها وإخراجها وتصحيحها ودفعها للطبع، وبعد أيام وصلتني منه رسالة شكر وثناء، وتكرر الأمر مع عددٍ ثانٍ؛ وكان المزاج العام للنشرة أدبيًا صرفًا، مع إفراد مساحات تربوية لخدمة الهدف من إصدارها، وبواسطة هذه النشرة قدَّم العديد من طلابه النجباء ككتاب وأدباء في أول الطريق.
عن محمد سعيد سيف أتحدث، وأكتب عن ابن لبلادٍ اسمُها اليمن، تعلَّم في مدارسها بتعز "الثورة والزبيري" وعدن "كلية بلقيس" وجامعتها في صنعاء، وظل يحملها على ظهره الصغير محبًا وعاشقًا.. فظهرت في كتاباته بذات ملامح شخوصه البسطاء والمنهكين، الذين كان يلتقطهم من هامش الوقت وفيوض الأحلام وانهدام المشاعر.. كتب عن عمال المطاعم الذين قاسمهم مراقدهم على أسطح المنازل، حين كان طالبًا يقيم في منطقة المصلى بتعز، كتب عن الثوريين الذين خانتهم الأحلام بعد أحداث يناير.. كتب عن العشاق الذين أرادوا صنع وجه آخر للعالم، ولم يستطيعوا أن يرفوا كعصافير، فصار هو العصفور تبعًا للقب الذي كان يُطلق عليه من قبل أصدقائه؛ كتب عن القرويين الذين ينتمي لإحدى قراهم الفقيرة.. عن المتشردين من أصدقائه كتب الكثير.
بقيت الأوضاع التي تمر بها البلاد تؤلم هذا الابن الجليل حتى آخر لحظة من حياته، وقد أطلق ذات وقت من العام المنقضي "30 يوليو 2019"، نداء لإيقاف الحرب إنقاذًا لليمن من التمزق والضياع:
"أنا محمد سعيد سيف الشيباني، من بني شيبة الغرب، وأعمل مدرسًا لمادة اللغة الإنجليزية في مدرسة منطقتي، وأمارس كتابة القصة القصيرة والرواية والمقالات والأبحاث الأدبية والاجتماعية والسياسية منذ زمن طويل، قضيتي الآن هي السلام، إنقاذ اليمن من الحروب والاقتتال والتمزق والضياع، لست وحدي في ذلك على أية حال، وأدعو الأدباء والكتاب والفنانين والمثقفين والمبدعين جميعًا إلى رفع أغصان الزيتون عالية فوق رؤوسهم، والنضال من أجل السلام".
"محمد سعيد سيف" كان معي باستمرار، لم ينقطع تواصلنا مطلقًا، وأزعم أني أعرف عنه كمبدع وإنسان الشيء الكثير، وبقي كاسم كبير في بالي طويلًا، أريد الكتابة عن منجزه في أية لحظة، وفي كل مرة كنت أُرحِّل جملة الأفكار التي أكوِّنُها باستمرار إلى وقت أفضل، ولم أكن أتخيَّل أن الموت سيختطفه بغتة، رغم معرفتي بمتاعبه الكثيرة.