صنعاء 19C امطار خفيفة

رأي: الشرق الأوسط بين هندسة القوى الكبرى وصعود الأدوار الإقليمية

تشهد المنطقة اليوم منعطفًا تاريخيًا يتجاوز حدود السياسة اليومية إلى إعادة صياغة كاملة لطبيعة الشرق الأوسط وموقعه في خارطة العالم. فبعد قرن من الصراع بين مشاريع متعارضة تشكلت عقب انهيار الدولة العثمانية وتقاسم إرثها، وبعد عقود من إدارة العالم بثنائية القطبية ثم أحاديتها بقيادة الولايات المتحدة، تبدو المنطقة كأنها تدخل مرحلة إعادة تشكيل كبرى تسبق ولادة عالم متعدد الأقطاب.

أدركت الولايات المتحدة مبكرًا أن زمن التفرد بالقرار العالمي لن يستمر طويلًا، خصوصًا مع صعود الصين وتزايد الحضور الروسي. ولذلك عملت واشنطن على إعادة هندسة الشرق الأوسط بما يضمن لها نفوذًا مستقرًا وبعيد المدى، قبل أن يتغير ميزان القوى الدولي. وفي هذا الإطار، استخدمت إسرائيل كقوة تنفيذية لإزاحة منافسيها الإقليميين وإعادة ضبط التوازنات المحلية، مقابل تفاهمات مع موسكو وبكين في مناطق أخرى من العالم.
اليوم، تبدو واشنطن أقرب من أي وقت مضى إلى إنهاء مرحلة الفوضى التي تبنتها وعصفت بالمنطقة منذ عقود، واستكمال مشروع "الشرق الأوسط المرسوم"، الذي يتكامل فيه الأمن مع الاقتصاد وتتشكل فيه التحالفات وفق مصالح القوى الكبرى، لا وفق شعارات الأيديولوجيا القديمة.
وسط هذا المشهد، تتقدم المملكة العربية السعودية لتعيد تموضع دورها، منتقلة من موقع التبعية السياسية لواشنطن إلى موقع الشراكة الاستراتيجية، استعدادًا لعالم جديد متعدد الأقطاب تصبح فيه لاعبًا محوريًا في قيادة المنطقة. ومن هذا المنطلق جاءت سياسة الانفتاح على إيران، وتوسيع دائرة الشراكات مع الصين وروسيا، دون التفريط بالتحالف التاريخي مع الولايات المتحدة.
لكن هذا الدور القيادي المأمول لا ينفصل عن متطلبات دولية وإقليمية واضحة، أبرزها حلّ الدولتين، والتطبيع، والانضمام إلى خط مسار الاتفاق الإبراهيمي. فالترتيبات القادمة للمنطقة قد تُدار بمعزل عن إسرائيل، التي صممها الغرب منذ البداية لتكون قوة ضاربة تضمن استمرار مصالحه ومنع أي احتمال أو عودة لمشاريع عربية كبرى: قومية أو عروبية أو إسلامية.
ومع أن الولايات المتحدة استخدمت إسرائيل لسنوات طويلة كأداة لإعادة تشكيل الإقليم بالقوة المفرطة في تحد صارخ للقوانين الدولية والإنسانية، إلا أننا قد نكون أمام مرحلة جديدة تشهد دور أمريكي مباشر في إدارة شؤون المنطقة إلى جانب الأنظمة العربية الحليفة، بعد أن طوت واشنطن معظم مصادر القلق التي ظلت تهدد نفوذها لعقود.
ما يبدو اليوم هو أن العالم يتجه نحو "استراحة محارب"، مرحلة من الاستقرار النسبي بعد أن تكون القوى الكبرى قد رتّبت ساحات نفوذها وحددت خطوط التماس بينها. قد لا تطول هذه الاستراحة، لكنها ستفتح نافذة أمام دول المنطقة لإعادة تعريف أدوارها واستثمار عناصر قوتها قبل أن تبدأ جولة جديدة من التحولات الدولية.
في النهاية، يبقى السؤال المفتوح: هل ستتمكن دول المنطقة، وفي مقدمتها المملكة، من استثمار هذه اللحظة التاريخية لبناء توازنات مستقلة تعزز أمنها ومكانتها، أم أننا سنجد أنفسنا مرة أخرى أمام خارطة تُرسم في الخارج، فيما يبقى القرار الفعلي بعيدًا عن العواصم العربية؟
الجواب رهن بالإرادة السياسية، وبمدى قدرة المنطقة على الانتقال من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل في عالم يعاد تشكيله من جديد.
* دبلوماسي، نائب وسفير سابق.

الكلمات الدلالية