جدران العيب
في بعض زوايا الحارات، تنشأ جدران لا تُرى، لكنها تُشعر. جدران من العيب والخجل والخوف من نظرة الآخر.
كانت الشمس تميل إلى المغيب، ترخي ظلالها على الحارة الترابية. غبار ناعم يتصاعد مع كل ركلة كرة، ورائحة العرق الطفولي تختلط برائحة خبز تعدّه إحدى الجارات الطيبات.
كنا مجموعة من الأطفال لم تتجاوز أعمارنا العاشرة، نلهو بين صراخ وضحكات، في لحظة إصرار حيث يريد كلٌّ منا الفوز على الآخر.
وفجأة، جاء صوتها وسط ذلك الضجيج. صوت أمي:
"يا إبراهيم! تعال، أشتيك في حاجة!"
لم يكن صوتًا غاضبًا، بل عاديًا. لكنه كان كافيًا ليصعقني. شعرت بوجهي يتجمّد، وبحرارة خجولة تندفع إليه. نظرات أصدقائي، سريعة وغير مهتمة في ظاهرها، لكنها لاذعة في داخلي.
تركت الكرة تدور ببطء، وأسرعت نحوها. كانت تقف بالقرب منا، بحنانها ودفئها، لكنها في تلك اللحظة كانت مصدرًا لعيب غامض.
همستُ بنبرة حادة خرجت مني دون وعي، تحمل لوما يفوق سني:
"ليش كذا يا أمي؟ تحرجيني قدام أصحابي. ما يصح!"
عبست قليلاً، ربما لم تدرك عمق الكارثة التي أحدثتها في مملكتي الصغيرة.
"إيش حصل؟" سألت بهدوء.
"كيف إيش حصل؟ يقولون عليّ إيش؟ ما في أحد منهم أمه تصيح له في الشارع هكذا!"
تنهدت تنهيدة قصيرة، وقالت بعفوية:
"حاضر حاضر، ولا يهمك. آخر مرة. سأرسل أختك الصغيرة تصيح لك في المرة القادمة."
فقلت:
"أيوه، زيدي كمليها أختي؟ لا! يا أمي، انتبهي! أرجوكِ، انتبهي!"
رفعت صوتي لأول مرة:
"ما أشتيش أشوفها هنا أبدًا. وما أشتيش واحد من أصحابي يشوفها. حتى لو مشت صدفة من جنبنا، قولي لها تمشي كأنها ما تعرفني. تمام؟ أرجوكِ! خلي أخي هو اللي يجي."
نظرت إلي مليًّا، تلك النظرة التي تخلط بين الحيرة والشفقة. لم تقل شيئًا، لكنها فهمت.
في تلك اللحظة، كنت أرسم حدودي. حدودي كرجل صغير في الحارة، حيث تُترك الأمهات والأخوات خلف الجدران.
لم تكن حارتنا معتادة على الجديد، لكن حينما حطّت عائلة الرجل القادم من محافظة أخرى رحالها، دبّ فيها شيء من الفضول الممزوج بالترقب تجاه العائلة الجديدة. وسرعان ما صار ابنهم جزءًا من ضجيجنا اليومي، يشاركنا لعبة الكرة تحت الشمس الصفراء.
وفي أحد الأيام، جاءت دعوة غداء غير متوقعة: لي أنا وصديق من الحارة، في منزلهم.
دخلنا الدار، رائحة البخور تملأ المكان، وترتيب غير معتاد، وأثاث راقٍ. لم تكن الصدمة في الدار بحد ذاتها، بل في المشهد الذي تلا.
وقفت أمه أمامنا، تقدّم طبق الأرز واللحم، وعيناها تبتسمان بترحيب طبيعي لم نعهده.
ثم جاءت أخته. لم تقف بعيدًا، بل جلست معنا إلى مائدة الغداء، وألقت السلام علينا بعفوية كأنها تعرفنا من قبل.
لم أستطع الرد، فتكفّل صديقي بذلك.
كان المشهد بالنسبة لي كالصاعقة. العرق يتصبب مني بغزارة، لا من حرارة الطعام، بل من حرارة الخجل التي كادت تحرق وجهي.
كنت أحاول قدر الإمكان أن أبقي عيني مثبتتين على صحني، أتناول الطعام بصمت ثقيل، أتحسس وجودهما كأنهما غيوم كثيفة فوق رأسي. والوقت يمر ببطء.
أما صديقي، فكان عكسي تمامًا. مرتاحًا، يبتسم، يتبادل النكات، يجيب على أسئلتهما عن الحارة والدراسة. يتحدث وكأنهما أفراد من عائلته، دون أدنى حرج.
كنت أنظر إليه وكأنه يرتكب خطيئة.
انتهى الغداء، شكرتهم على مضض، وهرولنا خارجين.
أخذت نفسًا عميقًا، ونظرت إليه نظرة عرف مغزاها.
لاحقًا، تقابلت مع صديقنا الجديد عند زاوية الحارة، سحبته جانبًا.
تلفّت يمينًا وشمالًا، لا أحد قريب.
فبدأت حديثي معه بجدية:
"اسمع يا صديقي، أنا أنصحك نصيحة أخ: ليش كذا وكذا؟"
نظر إلي بعينين صافيتين، خاليتين من أي فهم للدهشة التي أعيشها.
"إيش في؟ عادي، ما في شي."
شرحت له عن تقاليدنا:
"عندنا يا أخي عيب. ما يصح إن الأم والأخت يقعدون مع رجال غرباء وياكلون معهم."
فضحك وقال:
"رجال! نحن ما زلنا أطفالًا."
ثم هزّ كتفيه بخفة، كأنني أتحدث عن شيء بسيط لا يستحق كل هذا.
ابتسمت ابتسامة باهتة، شعرت بمسافة شاسعة تفصل بين تربيتنا ونظرتهما للحياة.
فقلت له:
"أنا قلت لك نصيحة. وأنت حر."
تركته وعدت أدراجي. كنت أفكر فيما حصل.
ظلّت حيرتي تلازمني لفترة طويلة، كنت أرى فيها مشهد مائدة الغداء يتكرر أمامي، ذلك المشهد الذي جلست فيه الأم والأخت معنا ببساطة وود، كمرآة أُجبر فيها على رؤية الفجوة بين ما نشأت عليه وما رأيته.
لم أجد إجابة قاطعة أبدًا. لم يكن الأمر يتعلق بالصواب والخطأ، بل بالخريطة التي رُسمت لنا لنعيش بها، والجدران التي بُنيت.
واليوم، وبعد كل تلك السنين، لا زلت أذكر تلك اللحظة التي طلبت فيها من أمي بحدة ألا تناديني في الشارع.
هل أضحك على نفسي أم أشعر بالحرج؟ على الجدران التي شيّدتُها بيني وبين من أحب.
أدركت حينها أن العيب الأكبر لم يكن في صوت الأم الحنون وهو ينادي، بل في الخوف الذي علّمنا إياه المجتمع.
وأدركت أن بعض التقاليد، رغم نبل أصلها، قد تتحول إلى سجن ضيق وجدار متين، إذا لم نمنحها نسمة لتتنفس.
وهكذا، بعد كل تلك السنوات، أدركت أن ما ظنناه عيبًا لم يكن سوى انعكاسًا لخوفنا من كسر المألوف.
فالشدة حين تُغرس في أرض اللين تثمر جفاء، واللين حين يُوضع في موضع الشدة يورث ضعفًا.